أخر الأخبار

أدب ابن فضلان وابن عطوطة!| «الرحلات».. فن التواصل بين الشعوب

صورة موضوعية
صورة موضوعية

ربما لا يكون هناك فن أدبى أقدم من أدب الرحلات، فالأخير ارتبط بالهجرة وانتقال الإنسان من مكان لآخر فى رحلة اكتشافه للكوكب، لذا تركت لنا القريحة الإنسانية مئات النصوص التى تحكى رحلة الإنسان بين البلدان والبشر، والمدهش أن المسلمين شاركوا فى أدب الرحلات بنصيب وافر فى العصور الوسطى واستمر هذا معهم حتى العصر الحديث، ليصبح لدينا مكتبة مترامية الأطراف تحكى الكثير عن الشعوب وأوجه تفرد كل شعب، والمشترك في التجربة الإنسانية للبشر جميعا، عندما تدخل مكتبة أدب الرحلات، فأنت أمام باب سحرى ما إن تفتحه حتى تجد نفسك في رحلة تنتقل بك بين الحقيقة والخيال، وهذا سر جاذبية هذا النوع الأدبي الذي لا يزال يلقى قبولا فى العصر الحديث كما كان فى العصور القديمة.

◄ مصر شهدت انطلاقة هذا الفن الإنساني ثم لحقها العراقيون واليونانيون

◄ الحج دافع أساسي لأدب الرحلة عند المسلمين والأوروبيين في العصور الوسطى

أدب الرحلة ربما يكون قد تأسس فى مصر القديمة، فلدينا رحلة سنوحى، وهى قصة تحكى مغامرات موظف مصرى وأسفاره خارج مصر ثم رجوعه إلى بلاده مرة أخرى، وهو نص كتب قبل أكثر من ٣٥٠٠ سنة، ثم شاركت الأمم القديمة فى هذا الفم بملاحم كبرى مثل جلجامش لحضارات العراق القديمة، والأوديسة لهوميروس اليونانى، قبل أن نخطو خطوة صوب الواقعية فى رحلات المؤرخ اليونانى هيرودوت، الذى زار أنحاء واسعة من العالم القديم وسجل مشاهداته فى كتاب رحلاته، وإن شاب ما كتب الكثير من المبالغة والميل للغرائبية وعدم فهم الكثير من عادات الشعوب التي زارها.

◄ الليالى وابن فضلان
المسلمون في العصور الوسطى عرفوا أدب الرحلات وشاركوا فيه بنصيب وافر، فلم تنتج حضارة قبل العصر الحديث فى أدب الرحلات مثلما أنتج المسلمون، الذين قدموا نصوصا أدبية ذات طراز رفيع وقدموا معلومات وحكايات عن الشعوب والأمم المختلفة لا تزال من يجد فيها الكثير من الأدب وإثارة الخيال المبنى على وقائع غرائبية لعادات وتقاليد شعوب العالم، ولا يوجد دليل أكبر من وجود نص ألف ليلة وليلة، الذى قدمت فيه المخيلة العربية نصوصا عديدة عن الرحالة ورحلاتهم الغريبة، والتى تستند إلى رحلات حقيقية تم إعادة صياغة لها بشكل غرائبى ومغرق فى الخيال.

بعيدا عن شهرة الليالي، ربما يكون من أقدم نماذج الرحلة عند المسلمين، رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة، إذ كان أحمد بن فضلان رسولا للخليفة العباسى لزيارة هذه الأصقاع البعيدة فى منطقة جنوب ووسط روسيا الحالية، وكان ذلك فى القرن الرابع الهجرى/ العاشر الميلادي، وهى رسالة تضم معلومات فى غاية الأهمية والنفاسة عن هذه الشعوب التى شكلت رحلة ابن فضلان أول تسجيل معلوماتى مكتوب بصيغة أدبية رفيعة عنها فى التاريخ، لذا لم يكن غريبا أن تتحول رحلة ابن فضلان إلى نص عالمى ويتم ترجمته إلى مختلف لغات العالم، ويدخل الثقافة الشعبية العالمية فنرى مايكل كرايتون يبنى روايته (أكلة الموتى) التى حققت نجاحا كبيرا، على رحلة ابن فضلان، ثم تتحول الرواية إلى فيلم بعنوان (المقاتل الثالث عشر)، وأدى دور ابن فضلان فى الفيلم الممثل الإسبانى أنطونيو بانديراس.

◄ خسروا.. والبغدادي
نموذج ابن فضلان لم يكن فريدا، فلدينا عشرات الرحلات التى أنتجها مسلمون، نذكر منها (سفرنامه) لناصر خسرو، القادم من أقصى بلاد فارس شرقا والذى زار معظم الأراضى الإيرانية والشام ومصر والحجاز والجزيرة العربية، وكذلك رحلة (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار) لابن جبير الأندلسى، والذى انطلق فى رحلة حج من الأندلس إلى مكة المنورة، وزار العديد من المدن والجزر فى البحر المتوسط، قبل أن يزور مصر التى كانت تمر بلحظة تاريخية عقب إسقاط صلاح الدين الأيوبى لدولة الفاطميين، والتحولات التى شهدتها البلاد وقتذاك.

ويضيق المجال بذكر كل الرحالة المسلمين والعرب، فلدينا أسماء عبد اللطيف البغدادى، والعبدرى، والبلوى، والنابلسى، والعياشى، وغيرهم كثير ممن واصلوا أدب الرحلة، ونخص بالذكر هنا الرحالة الأشهر ابن بطوطة الذى جاب العالم الإسلامي من غربه إلى شرقه فى القرن الثامن الهجرى/ الرابع عشر الميلادى، والذى أودع ما رأى من عجائب وغرائب ومشاهدات فى رحلته المعروفة باسم (تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، وهى واحدة من أهم نصوص الرحلة التى أنتجت فى تاريخ البشرية كلها، ولهذه الفترة يعود نص أقرب للخيال أنتجه الرحالة الإيطالى ماركو بولو، وهو أحد أكثر نصوص أدب الرحلات شهرة عالميا، على الرغم من غلبة الخيال على ما كتبه ماركو بولو، ونظرنا لحجم المادة المدهش الذى يقدمه ابن بطوطة وماركو بولو فقد تم اتهامهما بالكذب فى بلديهما.

◄ الرحالة العثماني
ونذكر هنا الرحالة العثمانى الشهير أوليا جلبى صاحب كتاب (سياحتنامه) والذى يعد أهم رحالة فى العصر العثمانى كله، والذى كانت أحد أهداف رحلته هى الحج وزيارة الحرمين الشريفين، وإذا كان دافع الحج وزيارة مكة والمدينة هو دافع أساسى للرحلة عند المسلمين، فإن دافعا قريبا وقف خلف دوافع الرحلة عند الأوروبيين الذين رغب البعض منهم فى الحج وزيارة الأماكن المقدسة فى فلسطين، ما أدى إلى سلسلة طويلة من الرحلات التى جابت مصر وفلسطين والشام، وأماكن أخرى من البحر المتوسط، نذكر منها: (رحلة إلى الشرق العربى) لجورجو جوتشى، و(رحلات إلى الأراضى المقدسة) لليوناردو فريسكوبالدى، و(أسفار السير جون ماندفيل ورحلاته) للسير ماندفيل، و(رحلات فى البحر المتوسط) لطافور، وقد استمر هذا التقليد حتى القرن العشرين فنجد رحلة الروائى اليونانى الأشهر نيكوس كازانتزاكيس (رحلات إلى إيطاليا ومصر وسيناء والقدس وقبرص).

◄ رحالة فى أوروبا
وفى العصر الحديث واصل العرب الرحلة، ولكن هذه المرة تم تغيير الوجهة، فبدلا من أن تكون الرحلة بين الأقطار العربية والإسلامية، أصبحت الرحلة فى معظمها تتجه صوب أوروبا، بداية من رحلة (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز) لرفاعة رافع الطهطاوى، والذى بدأ به هذا الفرع الأدبى بتسجيل الرحلات العربية لمدن أوروبا، فقد سجل من بعده أحمد فارس الشدياق رحلته إلى أوروبا فى كتابه (كشف المخبأ عن فنون أوروبا)، كذلك رحلة خير الدين التونسى التى أودعها كتابه الشهير (أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك)، ورحلة الأزهرى عياد الطنطاوى إلى روسيا التى أودعها كتابه الشهير (تحفة الأذكيا بأخبار بلاد الروسيا). 

وقد تواصل هذا النوع من الأدب فى القرن العشرين إذ يقابلنا أهم رحالة مصرى وهو محمد ثابت، الذى اعتاد القيام برحلة سنوية فى النصف الأول من القرن العشرين، فترك خلفه العديد من النصوص الخاصة برحلاته مثل: (رحلتى فى مشارق الأرض ومغاربها)، و(جولة فى ربوع آسيا)، و(جولة فى ربوع إفريقية)، و(جولة فى ربوع أستراليا)، وغيرها من الكتب التى جعلته رافع لواء أدب الرحلات فى مصر والعالم العربى فى العصر الحديث، بينما كتب إلياس حنا الموصلى، أول رحلة فى العالم الجديد بعنوان (رحلة أول شرقى إلى أمركة).

◄ نماذج معاصرة
ونجد الأسلوب الساخر لمحمود السعدنى حاضرا فى كتبه عن أسفاره مثل (السعلوكى فى بلاد الأفريكى) و(رحلات ابن عطوطة) و(حمار من الشرق)، بينما بحث يوسف إدريس عن حلول لمشاكلنا فى الشرق الأقصى فى تجربته التى رصدها فى كتابه (اكتشاف قارة)، أما أنيس منصور فقدم رحلاته فى عدة كتب أشهرها على الإطلاق (حول العالم فى 200 يوم)، وهو أحد أكثر الكتب مبيعا فى الأدب العربى الحديث، كما نجد تجارب مختلفة مع (جنوبا وشرقا) لمحمد المخزنجى، و(رحلة الشتات والصين) لعدنان جبار الربيعي، والرحلة المغربية إلى بلاد الأرجنتين وتشيلى البهية) لأحمد المدينى.

بعد هذه الرحلة فى عدد من كتب أدب الرحلات، لا يمكن أن نحصر كل ما كتب تحت باب فن الرحلة، فما كتب بكل لغات العالم يفوق الحصر، فهو أحد أكثر الفنون التى استفزت القريحة البشرية فأنتجت آلاف النصوص بلا مبالغة، فدولة واحدة مثل مصر لديها مكتبة ضخمة من الرحلات التى كتبها رحالة من مختلف أنحاء العالم، والأماكن المقدسة مثل مكة والمدينة والقدس لديها عشرات النصوص التى تتحدث عن الرحلة إليها، فهنا نقدم رحلة وسط عالم الرحلات، جولة حرة بهدف التنويه بهذا التنوع الخلاق فى أدب الرحلات الذى يفتح شهية القارئ على القراءة والغوص فى هذه العوالم المدهشة التى كتبها رحالة بمداد أدبى فريد.