بداية

فوبيا أصولية

علاء عبد الكريم
علاء عبد الكريم

أنبل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬هي‭ ‬أنها‭ ‬حررت‭ ‬عقولنا‭ ‬من‭ ‬التبعية،‭ ‬ولم‭ ‬ينتصر‭ ‬الإسلام‭ ‬لشئ‭ ‬إلا‭ ‬للعقل،‭ ‬فلا‭ ‬إيمان‭ ‬إلا‭ ‬بالعقل؛‭ ‬‮«‬أفلا‭ ‬يعقلون‮»‬،‭ ‬‮«‬أفلا‭ ‬تتفكرون‮»‬،‭ ‬‮«‬أفلا‭ ‬تبصرون‮»‬،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الآيات‭ ‬القرآنية‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬يدفع‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬استعمال‭ ‬العقل‭ ‬والبحث‭ ‬والتفكير‭ ‬العلمي؛‭ ‬لكن‭ ‬‮«‬الفوبيا‮»‬‭ ‬الأصولية‭ ‬التي‭ ‬تكاثرت‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الماضي‭ ‬الأصولي‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬سبيعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬الذين‭ ‬انتشروا‭ ‬وبثوا‭ ‬أفكارهم‭ ‬بل‭ ‬سمومهم‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬عبر‭ ‬شرائط‭ ‬كاسيت،‭ ‬حاصرونا‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬بأفخاخ‭ ‬الفتاوي‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬صلاحيتها‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬بعيد؛‭ ‬مثل‭ ‬فتوى‭ ‬تمنع‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬مشاهدة‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬لأنها‭ ‬تتيح‭ ‬لهن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬أفخاذ‭ ‬الرجال،‭ ‬بزعم‭ ‬أن‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬وقل‭ ‬للمؤمنات‭ ‬يغضضن‭ ‬من‭ ‬أبصارهن‭ ‬ويحفظن‭ ‬فروجهن‮»‬،‭ ‬ففي‭ ‬عقولهم‭ ‬المريضة‭ ‬نظرات‭ ‬النساء‭ ‬هذه‭ ‬حتمًا‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬فتنة،‭ ‬وفتوى‭ ‬أخرى‭ ‬مضحكة‭ ‬إن‭ ‬دلت‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬فهي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬كائنات‭ ‬مهووسة‭ ‬بالجنس،‭ ‬تقول‭ ‬فتواهم‭ ‬الشاذة‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬مارس‭ ‬رجل‭ ‬وأنثى‭ ‬الجنس‭ ‬وهما‭ ‬عاريان،‭ ‬يُعتبر‭ ‬زواجهما‭ ‬باطل‮»‬،‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬فتوى‭ ‬مثيرة‭ ‬للسخرية،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الفتاوي‭ ‬الشاذة‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬أنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬عقول‭ ‬مريضة،‭ ‬مصابة‭ ‬بضمور‭ ‬في‭ ‬الفكر،‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬من‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬سوى‭ ‬تطبيق‭ ‬الحدود‭ ‬وارتداء‭ ‬النساء‭ ‬النقاب‭ ‬وإطالة‭ ‬الرجال‭ ‬لذقونهم‭ ‬حتي‭ ‬تطول‭ ‬صدورهم،‭ ‬المدنية‭ ‬لديهم‭ ‬المرادف‭ ‬لها‭ ‬هي‭ ‬انعدام‭ ‬الأخلاق،‭ ‬والعلمانية‭ ‬تعني‭ ‬الكفر،‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬يقرأون،‭ ‬وإذا‭ ‬قرأوا‭ ‬ستجد‭ ‬جدارًا‭ ‬حديديًا‭ ‬يحول‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يقرأون‭ ‬وبين‭ ‬عقولهم،‭ ‬ألم‭ ‬يكفر‭ ‬الغزالي‭ ‬كل‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الإسلاميين‭ ‬لأنهم‭ ‬قرأوا‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬ونقلوا‭ ‬عنها،‭ ‬وهذا‭ ‬ثابت‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تهافت‭ ‬الفلاسفة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬نصًا‭: ‬‮«‬وإنما‭ ‬مصدر‭ ‬كفرهم‭ ‬سماعهم‭ ‬أسامي‭ ‬هائلة‭ ‬كسقراط‭ ‬وبقراط‭ ‬وأفلاطون‭ ‬وأرسطاطاليس‭ ‬وأمثالهم،‭ ‬وإطناب‭ ‬طوائف‭ ‬من‭ ‬متبعيهم‭ ‬وضلالهم‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬عقولهم،‭ ‬وحسن‭ ‬أصولهم،‭ ‬ودقة‭ ‬علومهم‭ ‬الهندسية،‭ ‬والمنطقية،‭ ‬والطبيعية،‭ ‬والإلهية،‭ ‬واستبدادهم‭ ‬لفرط‭ ‬الذكاء‭ ‬والفطنة،‭ ‬باستخراج‭ ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬الخفية‭ ‬وحكايتهم‭ ‬عنهم‭ ‬أنهم‭ ‬مع‭ ‬رزانة‭ ‬عقلهم،‭ ‬وغزارة‭ ‬فضلهم،‭ ‬منكرون‭ ‬للشرائع‭ ‬والنحل،‭ ‬وجاحدون‭ ‬لتفاصيل‭ ‬الأديان‭ ‬والملل،‭ ‬ومعتقدون‭ ‬أنها‭ ‬نواميس‭ ‬مؤلفة،‭ ‬وحيل‭ ‬مزخرفة‮»‬‭.‬

العقل‭ ‬السلفي‭ ‬يؤمن‭ ‬بأفكار‭ ‬ابن‭ ‬تيمية،‭ ‬الذي‭ ‬سار‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬شيخه‭ ‬الغزالي،‭ ‬لا‭ ‬مكفرًا‭ ‬فقط‭ ‬لرائد‭ ‬التنوير‭ ‬وعصر‭ ‬النهضة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬وإنما‭ ‬لعدم‭ ‬إعمال‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الديني،‭ ‬مكتفيًا‭ ‬بمبدأ‭ ‬السمع‭ ‬والطاعة،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬إعمال‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الديني‭ ‬بهدف‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬الباطن‭ ‬يحول‭ ‬الدين‭ ‬بأكمله‭ ‬إلى‭ ‬معان‭ ‬باطنة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬نفس‭ ‬الفوبيا‭ ‬الأصولية‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬منظر‭ ‬التكفيريين‭ ‬ومفتي‭ ‬الإرهابيين‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭ ‬في‭ ‬رسائله‭: ‬‮«‬والإسلام‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬عقيدة،‭ ‬حتى‭ ‬يقنع‭ ‬بإبلاغ‭ ‬عقيدته‭ ‬للناس‭ ‬بوسيلة‭ ‬البيان،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬منهج‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬تجمع‭ ‬تنظيمي‭ ‬حركي‭ ‬يزحف‭ ‬لتحرير‭ ‬كل‭ ‬الناس،‭ ‬والتجمعات‭ ‬الأخرى‭ ‬لا‭ ‬تمكّنه‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬حياة‭ ‬رعاياها‭ ‬وفق‭ ‬منهجه‭ ‬هو،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يتحتم‭ ‬على‭ ‬الإسلام‭ ‬أن‭ ‬يزيل‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة‭ ‬بوصفها‭ ‬معوقات‭ ‬للتحرير‭ ‬العام،‭ ‬وهذا‭ - ‬كما‭ ‬قلنا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ - ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الدين‭ ‬كله‭ ‬لله،‭ ‬فلا‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬دينونة‭ ‬ولا‭ ‬طاعة‭ ‬لعبد‭ ‬من‭ ‬العباد‭ ‬لذاته‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬الأنظمة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬عبودية‭ ‬العباد‭ ‬للعباد‮»‬‭!‬

وهي‭ ‬نفس‭ ‬العقلية‭ ‬الأصولية‭ ‬أو‭ ‬السلفية‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬التسامح‭ ‬ولا‭ ‬تتعطش‭ ‬إلا‭ ‬للدماء،‭ ‬ففي‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مجموعة‭ ‬رسائل‭ ‬البنا‮»‬‭ ‬طبعة‭ ‬دار‭ ‬الشهاب‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬170‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمون‭ ‬لا‭ ‬يطلبون‭ ‬الحكم‭ ‬لأنفسهم،‭ ‬فالحكم‭ ‬من‭ ‬منهاجهم،‭ ‬وسيعملون‭ ‬لاستخلاصه‭ ‬من‭ ‬أيدي‭ ‬كل‭ ‬حكومة‭ ‬لا‭ ‬تنفذ‭ ‬أوامر‭ ‬الله‮»‬‭!‬

فكل‭ ‬شئ‭ ‬هو‭ ‬مباح‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم،‭ ‬حرام‭ ‬على‭ ‬العامة،‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬تُعمى‭ ‬أبصارنا‭ ‬حتى‭ ‬يخدعونا‭ ‬بعباراتهم‭ ‬المحفوظة،‭ ‬فلا‭ ‬نقف‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة؛‭ ‬لنتأمل‭ ‬ماذا‭ ‬تعني‭ ‬تلك‭ ‬العبارات،‭ ‬وهل‭ ‬يُصدق‭ ‬معناها‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬حولنا،‭ ‬يريدوننا‭ ‬مثل‭ ‬طفل‭ ‬أجبروه‭ ‬على‭ ‬الإتيان‭ ‬في‭ ‬احتفال‭ ‬لا‭ ‬يخصه؛‭ ‬شيخ‭ ‬سلفي‭ ‬أيام‭ ‬حكم‭ ‬العصابة،‭ ‬اشتهى‭ ‬فتاة‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬ابنته‭ ‬المراهقة،‭ ‬قال‭ ‬لها‭ ‬وهو‭ ‬يُمسك‭ ‬بلحيته‭ ‬السوداء‭ ‬الطويلة‭ ‬وزبيبته‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬العطارين‭ ‬وبالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ختم‭ ‬النسر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يمكنهم‭ ‬من‭ ‬خداع‭ ‬‮«‬السذج‮»‬،‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يطمس‭ ‬شهواته‭ ‬ورغباته‭ ‬وغرائزه‭ ‬الحيوانية،‭ ‬وهي‭ ‬بالمناسبة‭ ‬لحيته‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬اللحى‭ ‬الإخوانية‭ ‬القصيرة‭ ‬الدائرية،‭ ‬قال‭ ‬لها‭ ‬بنظراته‭ ‬النفاذة‭ ‬الحادة‭ ‬كعيني‭ ‬الصقر‭ ‬وهو‭ ‬يتفحص‭ ‬بياض‭ ‬جسدها،‭ ‬وردفيها‭ ‬الممشوقتين‭ ‬وساقيها‭ ‬مرورًا‭ ‬بخصرها،‭ ‬‮«‬إني‭ ‬رأيتك‭ ‬في‭ ‬رؤيا‭ ‬ضجيعتي‮»‬،‭ ‬وكأن‭ ‬عبارته‭ ‬هذه‭ ‬تنويم‭ ‬مغناطيسي،‭ ‬فتزوجها‭ ‬مولانا‭ ‬السلفي‭ ‬بقراءة‭ ‬الفاتحة‭ ‬وشهادة‭ ‬شاهدين‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف،‭ ‬وبعد‭ ‬أيام‭ ‬تركها‭ ‬ممزقة‭ ‬النفس‭ ‬وهرب‭.‬

في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬اعتقد‭ ‬الناس‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬عجوزًا‭ ‬وعزباء‭ ‬وتمتلك‭ ‬القطط‭ ‬السوداء،‭ ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬ساحرة،‭ ‬وكانوا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬السحرة‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬القطط‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬لذا‭ ‬فمن‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القطة‭ ‬السوداء‭ ‬ساحرة،‭ ‬أيضا‭ ‬صارت‭ ‬فتاوى‭ ‬السلفيين،‭ ‬ممن‭ ‬يدعون‭ ‬التوحيد‭ ‬ويكفرون‭ ‬سائر‭ ‬الناس،‭ ‬كالسيل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬وللأسف‭ ‬ظنها‭ ‬البعض‭ ‬منا‭ ‬دينًا‭ ‬مقدسًا؛‭ ‬مثلما‭ ‬أطلق‭ ‬أحدهم‭ ‬فتوى‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬مضت،‭ ‬‮«‬أن‭ ‬دخول‭ ‬البوفيه‭ ‬المفتوح‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقرر‭ ‬سابقًا‭ ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تأكل‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬مخالف‭ ‬للشريعة،‭ ‬إذ‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقرر‭ ‬ما‭ ‬الكمية‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬تناولها‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تملأ‭ ‬صحونك‮»‬‭.‬

هل‭ ‬هناك‭ ‬استهانه‭ ‬بالعقول‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذا؟‭!‬،‭ ‬فجماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬حاضرًا‭ ‬ولا‭ ‬مستقبلاً،‭ ‬وإنما‭ ‬خططوا‭ ‬للعودة‭ ‬للماضي‭ ‬بفتاويهم‭ ‬الغريبة‭ ‬والعجيبة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أصدق‭ ‬تعبير‭ ‬عنها؛‭ ‬قمة‭ ‬السخافة‭.‬

[email protected]


 

;