حسام المقدم يكتب : قَلب المتحف

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

 تَجمّدت قدماى أمام المقهى الصّادح ب أم كلثوم
«القلبُ قَد أَضْناهُ عِشْقُ الجَمال
والصّدرُ قَد ضاقَ..».
أُغنية «رُباعِيّات الخَيّام» تحديدا لا أستطيع مُقاومتها، وها هى تفاجئنى فى مقهى صغير، بشارع جانبى مُتفرّع من الميدان الكبير.
بلا تردد استدرتُ إلى اليمين ودخلت، اخترتُ الكرسى المقابل للشارع. المكان محدود، حجرة كبيرة نسبيًّا، مُوزّعة فيها ترابيزات صغيرة، فوقها مفارش بلاستيكية باهتة النُّقوش. لا شىء مُعلّق على الجدران سوى صورة رجل أصلع فى برواز كبير، عرفتُ أنه صاحب المقهى الواقف هناك فى الركن، خلف الحاجز المُصطفّة فوقه أكواب وفناجين وبرطمانات. كان يَترنَّم مع الأغنية، يتجاوب بحركة رأسه وترديد الكلمات. أنهَى إعداد كوبين من الشاى لشابّين دخلا قبلى، وضعَ الصينية أمامهما، وعاد نحوى يسألنى عن طَلَبى.
 «قهوة سادَة».


«سادَة؟ أنتَ لا تتعدّى سبعة وثلاثين، أو ثمانية وثلاثين سنة، لا زلتَ صغيرا على الطَّعْم المُرّ، لماذا القهوة السّادَة؟».

اقرأ ايضاً| عبدالناصر الجوهرى يكتب : طرْفُ الكلامِ مُراوغٌ
 رَشقتُ عَينى فى ملامح الوجه الواقف أمامى، أحسستُ باقتحام غريب ومُباغت من رجُل يشغل نفسه بِعُمرى ومزاجى. كظمتُ انفعالى الوشيك. أشرتُ إلى شاشة العَرض المُعلّقة جَنب الباب، والثابتة على قناة «زمان»، وحفلة أُم كلثوم بالأبيض والأسود. قلتُ: «والصّدرُ قد ضاقَ بِما لا يُقال!».


هزّ رأسه مرتين: «سأُحضر لك قهوتك».
تعلّقتُ بدائرة رأسه المُكوّرة اللامعة، وظهره المفرود فى الجلباب البُنّى. فكّرتُ فى تراجُعه المفاجئ عن مزيد من الأسئلة، وتنفيذ ما طلَبتُ دون جدال، هذا أفضل على كل حال. 
النَّغم الشّجى لأم كلثوم متواصل: «ما أَضْيَعَ اليومَ الذى مَرَّ بِى..». 
يلعب برأسى خاطر أن أقوم وأقف فى منتصف المقهى وأزعق: الأيام الضائعة كثيرة، تكاد تكون هى القاعدة.
أقبلَ بالقهوة وكُوب الماء. انحنى أمامى، لم يعتدل، ظلّ فى مواجهتى بعينيه الحمراوين، وشعر حاجبيه الكثيف.
«اشربْ قهوتك على راحتك ولنا كلام، أو الأفضل أن نتكلّم لو تشاء، هات القهوة وتعال ورائى!».
 صلَبَ طُوله ومشى خطوتين، ثم استدار إلى حجرة صغيرة خلفيّة، كأنّها حَمّام أو مَخزن. الفُضول يلعب برأسى: هل أقوم؟ مَن هذا الرجل؟ وهل أنا مجنون لأقوم وراء أى شخص؟ الدنيا ملآنَة بالمصائب، وأنا غير مُستعدّ لأى منها. تأمّلتُ المكان من جديد، ليس فيه ما يُميّزه عن المقاهى العاديّة. تغلّبَ فُضولى فى النهاية، وقمتُ حاملا فنجانى..


باب خشبى قديم بلا لون تقريبا، وراءه مساحة لا تتعدّى ثلاثة أمتار فى ثلاثة، مفروشة بسجّادة حمراء قديمة. وجدتنى أقف فى عالم مُلّون، قديم وجديد فى نفس الوقت، عالم غائم فى ضوء محدود لنافذة صغيرة، لا أتصوّر كيف يوجد هذا العدد الكبير من شرائط التّسجيل فى مكان واحد، ولا كيف لصُدفة غريبة أن تجمعنى برجل غير مفهوم، يجلس أمامى بهدوء على كرسى صغير مُذهب، ويطلب منى أن أستريح! بقيتُ واقفًا أتأمّل ما حولى.. شرائط محفوظة داخل عُلَبها الملوّنة، ومُثبّتة على الحوائط فى تشكيلات جميلة كأنها وُرود مرسومة.

انتبهتُ أن الحائط من ورائى مختلف نوعا ما، فالشرائط مُنسّقة فى تشكيل خَطّى يُمكن بسهولة من خلاله قراءة كلمَتَى: «أَمَل حياتى». توقّفتْ عيناى على شىء لم يعد موجودا، موضوع فوق كومودينو صغير فى الرّكن: مُسَجِّل «ناشيونال باناسونيك» القديم، بأزراره الفِضيّة فى أعلاه. 


 رَدَّنى صوته: «الأغانى هنا كلّها للسِّت».
 لم آخُذ بالى فى البداية، رغم صور أم كلثوم الجانبية السّاطعة على العُلَب. اقتربتُ، ومضيتُ أقرأ أسماء الأغانى التى أعرفها وأحفظ الكثير منها: «الأطلال»، «دارت الأيام»، «انتَ عُمرى»، «أهل الهوى»..
 واصلَ كلامه: «أم كلثوم ماتت فى الخارج، فى أمزِجة الناس والبيوت وغالبية المقاهى الجديدة، لكنها تحيا هنا، لم أدفنها حتى اليوم!»
 «معك حقّ، أم كلثوم لن تموت».


 «لا، ماتت. لا تضحك على نفسك، مَن يسمع (رُباعيّات الخيّام) مثلكَ يَتقطَّع قلبه لحقيقة أنّها ماتت».
 «يتقَطَّع قلبى على أشياء كثيرة، مثلما هو الآن.. اعذرني: أنتَ كمَن يرجع بِظَهْره، فى شارع ليس فيه أحد».
 «لا أنتظر شَفقتكَ، ولو كنتَ ترانى أرجع بِظَهرى فهذا رأيكَ. لا يهمنى ذلك، أرجع بظهرى أو أتقدّم للأمام: ما الفرق؟ طالما أنّ شارعى خالٍ كما تقول، أو على الأقل فيه قليلون مثلى، يسمعون السّت على شاشة عرض حديثة.. أو على مُسجّل ناشيونال عتيق».


 لم أتوقّع أن يُجادلنى الرّجل بهذا المَنطِق المُتماسك، أنا أيضا لا أعرف الفرق بين أن أمشى للوراء أو للأمام، فى شارع يُشبهنى، به بشر مُجتمعون على أُم كلثوم أو غاندى أو مارادونا.. الفرق سيتّضح حين أسير فى شارع يختلف عنى. 


 «هل معنى ذلك أنكَ لا تخرج من هنا، أو من المقهى بالأصح؟»
 «طبعا أخرج وأتمشّى وآكُل وأشرب مثلك، ستتَعجّب إذا قلتُ لك إننى دائما هنا، حتى وأنا فى أى مكان».
 عرفتُ أننى وجدتُ جزءا من نفسى فى كلام الرجل، فى المقابل لا أحتمل أن أعيش وأتحرّك وأنا مُسَمَّر بروحى فى مكان واحد، هذا لا يُطاق. 
 رشفتُ آخر ما تبقّى من قهوتى المُرّة الباردة. 


 «تمام، شكرا على الضيافة والجو الحميم. لو طلبتُ منك شَريطا للسّت، ماذا ستختار لى؟»
 «كلّهم أمامك، اختر ما تريد. سمعتكَ تُردد من رُباعيّات الخيّام، ما يعنى أنّ ذوقَكَ عالٍ. خُذ هذا».
 أعطانى شَريط «هذه ليلتى». سأحتفظ به، ولمّا يأتينى الشّوق سأسمع الأغنية على النّت فى أى وقت. شكرتُه بابتسامة ناقصة. خرجتُ عابرا المقهى إلى الشارع، تمايلتُ مع أم كلثوم الواصلة إلى القِمّة: «أَطْفِئ لَظَى القَلْبِ بِشَهْدِ الرِّضَاب..». خرجتْ مِنّى «آآآه» طويلة. 


 بعد خطوات تذكّرتُ أننى لم أدفع ثمن القهوة، رجعتُ وأخرجتُ النّقود. ردَّ يدى، حالِفا بالله، أنّ هذا لا يَصحّ، خُصوصا أنّها المرّة الأولى التى أزوره فيها.