أنيس الرّافعى يكتب :المنامةُ الزرادشتيّة

اللوحات للفنان: صلاح طاهر
اللوحات للفنان: صلاح طاهر

(والبكاءُ إنّما يحدثُ من الحزَن، وأنّ الأيام لكثيرة المحن)
أبو العلاء المعرّى فى جوابه على الرسالة الأولى للمؤيّد فى الدين داعى الدعاة الفاطمى، ص 70

رأيتُ، فى ما يرى النائم، أنِّى أرتدى جلابيّة مغربيّة ملفّقة من رقاع كثيرة ملوّنة، شبيهة بتلك التى يلبسها أتباع الطريقة «الكركرية» (*). كنتُ سائحا على قدمى الحافيتين شرقا وغربا فى بلاد الله الواسعة، هائماً على وجهى الملثّم، كطوارقىّ، دونما قصد أو مقصد؛ حتّى وصلتُ، بعد مدّة طويلة - ما عدت أذكر عدد سنواتها، ولا وقائعها - إلى منطقة حدوديّة شاسعة بين بلاد فارس الشيعيّة، وكردستان العراق اليزيديّة. 

اقرأ ايضاً| د. محمد سمير عبد السلام يكتب : حكاية السيدة التى سقطت فى الحفرة


 وفى غضون منامتى أو رحلتى الكبرى هاته، المثخنة بثقوب النّسيان، وفضائل الاستغناء، وخصال التغافل؛ رأيتنى هنالك أتّخذُ لى شيخاً معتزلا، واسع العلم، جليل القدر، سامى الرتبة، نائى المقام، لا يبغى اشتهار اسم؛ هُوَ منى كالثّريّا الطالعة، وأنا منه كالثّرى البخس، من يأتى مزاره يقال ﺇنّه لا يخيب فى مسعاه، ومن يمسّ شيئا من ثيابه يشاع ﺇنّه يشفى فورا من داء الفالج، التزمتُ بخدمته ومرافقته مقابل تلقينى تعاليم الزرادشتيّة، وطقوسها، وترانيمها، وأناشيدها، وصلواتها، وقوّاها الباطنيّة الشافيّة، تلك الباحثة، فى فلسفتها العميقة، عن ماهيّة الحياة والموت، وجوهر الخير والشرّ. 


وبعد مضى عشر سنوات - مرقت سريعا كبروق لمعت فى سماء العمر - على ملازمتى اللّصيقة لشيخى التّقى، ومكابدتى مشاقّ تأديب النفس، والاغتراب عن الأهل والصحب؛ منحنى ذات يوم، عوضاً عن جلابيتى الباليّة، قميصاً وعِمامة أبيضين، وقناع فم جلدياً مخيفاً كما لو أنّه للكلاب الشرسة، كى لا تلوّث أنفاسى النّار المقدسة للمعرفة، مثلما حدّثنى، وأوضحَ لِى، بإلمامهِ المتعمّقِ.


اعتقدتُ فرحا، مثل طفل صغير غرير، أنّنى حصلتُ منه، أخيرا، على إجازتى المدعّمة بإذن النقل عنه؛ غير أنّهُ أنبأنى أنْ ينقصنى اختبارُ أبراج الصمت (**). أخبرتهُ مندهشا، لكن دون تبرّم أو تعالم، بأنّ الأبراج أغلقت رسميّا منذ عقود بموجب قرارات إداريّة صارمة؛ بيد أنّه لم يكترث لملاحظتى المنتميّة إلى الراهن الزائل، ثمّ دعانى لاستكمال تعليمى بدرس الزائرِ المتأمِّل.


ولي؛ حملتُ مخلاة زادى الطفيف ومتاعى الخفيف، قاصدا قمَم التِّلال البعيدة عن المدن، حيث تتواجد، على تخوم الصحراء، تلك الأبراج الحجريّة الدائريّة المهجورة، المفعمة بوحشة البراري، وسكينة الأبديّة، ووقار النهايَات، وتراجيديَا الغياب، التى أفادنى شيخى المهيب أنّها كانت تخصّص، فيما مضى، لدفن الموتى ؛ حيث يحملُ الكهنة الجثث دون محفّات، أو أكفان، ويصفّونها عاريّة بترتيب دائرى: الأطفال فى القعر، والنساء فى الدائرة الوسطى الداخليّة، ثمّ الرجال فى الدائرة الوسطى الخارجيّة. وما إن يبتعد الكهنة عن المكان ليدخنوا لِفَافَاتِ الحشيش، ويتعاطوا النّشوق الهلوسى، ويشربوا بعض النبيذ الأحمر الرخيص، مكافأةً لهم على هذا العمل المضنى، حتّى تنقضّ على الأجداث نسور الرخماء القَمَّامَةُ، المتعوّدة المدرّبة على أكل لحم بقايا الجيّف نهشاً بمناقيرها ومخالبها الحادّة.


 وفيما بعد - كما عرّفنى شيخى القدير - يعمد الكهنة إلى جمع رميم العظام وحشرها فى تجاويف البرج المقعّرة كالأنابيب، كى لا تختلط بقايا الجسد النجس المستقذر مع عناصر الحياة الثلاثة من ماء وتراب ونار. وعقب أن يُصبّ عليها مسحوق الجير المبلّل المشوب بالتّبن، يصبح الموتى جزءاً من برج الصَّمت إلى الأبد.


وبِدورى، أصبحت بعد زياراتى المتكّررة، ومشاهداتى المتبصّرة، جزءاً من ذاكرة هذه الفضاءات الجارحة الجريحة، الشاهدة الشهيدة، التى أبلغنى شيخى المعظّم أنّها بمثابة علاج للراحلين عن عالمنا الفانى. تنسّكتُ هناك لمدّة أربعة فصول متعاقبة داخل الدوائر الثلاث: السفليّة، والوسطى، والعلويّة؛ ورسمتُ، فى خيالات قلبى فى سبيكة واحدة، عمرانَ العظام والصخر والجير والتّبن، وحومان النسور حول قطب كيانى ساعة غروب الشمس، كما لو أنّ حياتى جثّة مهيّئة للفتك بلا هوادة. رسمت حامّة مياه كبريتيّة، غطست فيها حتّى شفيت قروح فؤادى من العشق الفاسد الركيك، وما يعتريه من زيف منبعه بهجة البدايات وخيبة النهايات وسخافة السّأم.. رسمت شجرة سامقة بعيدة، كأنّ ﺃغصانها سلم متشابك من السّكاكين الحادّة المضاءة بنور طاغ، وكنت ﺃتسلّقها بأقدام داميّة، بعد ﺃن ﺃغادر جسدى لأعوام وحقب لا تحصى.. رسمت قوس قزح على هيئة ثعبان ضخم، وكنت ﺃمتطيه وﺃمضى مرتفعا عبر جسر من اللّهب ﺇلى سماوات أخرى مجهولة تتوارى خلف السماوات المعلومة.


 ولما فرغتُ من إعمال النّظر، الذى ضاهى استبدالى لأعضائى الداخليّة بأعضاء جديدة، عدت إلى مستقرّى؛ بيد أنّى وجدت أنّ شيخى المبجّل قد قضى نحبه، وأنّه أوصى لى بريشة نسر واحدة. عندها، فهمتُ أنّ دورى قد حان لكتابة تعاليمى ونشرها على خاصَّتى السرّيّة. فهمتُ أنّ المخلوق يكون مغرورا متى كان له ريش كثير. فهمتُ أنّ الإنسان بدوره طائر مُفترِس له مخالب حادّة يقتل بها طرائده من البشر دون رحمة. فهمتُ أنّنا لا نملك شيئا داخل دنيا تشبه دائرة من حجر، وأنْ لا شىء يستحقّ أن نُلاحقه داخل قرص مسيّج بالصّمت المطبق. فهمتُ أنّ الحيازةَ، وعشق الحيازة جير مغشوش وتبن مخلوط. فهمتُ أنّ ندبة الوجود لا تنغلق ولا تبرأ لأنّ نسور العدم لا تنفكّ عن التمزيق. فهمتُ أنّ رحلتى الطويلة كانت يوما واحدا اختزل حياة كاملة.. ثمّ أفقتُ من منامتى... وبكيت.


إحالة أولى: «الطريقة الكركريّة» زاويةٌ صوفيّة، حديثة العهد ببلدان المغرب العربى، يرتدى أتباعها، الذين يسمّون أنفسهم بـ«الفقراء»، أزياء مختلفة الألوان، تعبيرا عن التجلّى فى ألوان حضرة القوس العلوى. تصفُ الطريقة ذاتها بـ«النور والمشاهدة»، متوخّيّة إيصال العباد إلى تحقيق مقام الإحسان، وتؤمن أنّ وراء كلّ فعل من أفعال الشريعة المطّهّرة سرّا ملكوتيا، وقبضة نورانيّة، تجمع العبد مع مولاه، وتنسيه جميع ما سواه، ولا يتمّ ذلك إلاّ من خلال اتباع منهاج الشيخ المربّى، الذى يصف الدواء المناسب لكلّ سالك.

إحالة ثانية: أبراج الصَّمت، بالفارسيّة (دخمه، وجمعها دخمات). مدافن صحراويّة نائيّة تشيّد من الحجر، ذات هندسة دائريّة ضخمة، خاصّة بأبناء الديانة الزرادشتيّة، حيث يوضع جسد المتوفّى فى أعلى البرج، إلى أن تأتى الطيور الجارحة وتلتهمه. فحسب تعاليم الزرادشتيّة الشامانيّة، الجسد مدنّس وسخ، لذا يتحتّمُ أن لا يختلط مع عناصر الحياة الثلاثة، لئلا يلطِّخَهَا بِمَا يَشِينُهَا. يقوم بهذا الطقس رجال دين معيّنون، وحينما تأكل الطيور الجارحة جثّة المتوفّى، يتمّ جمع عظامه، ثمّ وضعها فى فجوة خاصّة، شريطة عدم دفنه.


إحالة ثالثة: كنت قد كتبت فى نهاية هاته القصة، التى تمثّل بشكل باطنى رمزى رحلتى الشمانية الخاصّة، الجملة التاليّة: (وبكيت مثل تاريخ كامل من الدموع.. وبكيت كما لو كنت لوحدى طقسا لمناحة عظيمة بلا نهاية)، وذلك من وحى عنوانين لكتابين يربضان فوق مكتبى هما: «تاريخ البكاء: تاريخ الدموع الطبيعى والثقافىّ» لتوم لوز، و«المناحة العظيمة: الجذور التاريخيّة لطقوس البكاء من بابل ﺇلى كربلاء» لفاضل الربيعى، بيد ﺃنى - لسبب ما لا ﺃعلمه - سرعان ما محوت الجملة، واكتفيت فقط بـ: (وبكيت).