«متاهة» قصة قصيرة للكاتب سيد جعيتم

صورة موضوعية
صورة موضوعية

مُعدلاتِ الفحوصُ الطبيةِ مرتفعة، أوصي الطبيبُ بغسيلٍ للكلي.

كتمنا الأمرَ عن ابننا الأصغر، لسفرهِ خارج البلاد.

قال الطبيب:

ـ لنبحث عن مُتبرع بالكُلي، تتوافقُ أنسجتهُ مع أنسجتك.

طال الوقت، لم أجد متبرعًا مناسبًا.

أخبرني الطبيب:

ـ ابنك يجري الفحوصَ اللازمة لينقل لك كُليته.

رفضتُ بشدة، اعلم مدى خطورة العملية على ابني، الخبر أدخلني في صدمة عصبية سلمتني لغيبوبةِ.

أفقتُ علي غرزِ طبيبِ التخديرِ الحقنةَ في يدي.

زارني موسوسًا:

ـ تذكر أنني نَبَّهَتْك.

 

ألمٌ شديدٌ في جانبي الأيمن، بذلتُ جهدًا لأنظر خلف زجاج النافذة وَاقِفَة تشير إلى.

بدأ المنوم يأتي بمفعوله... صوتها يسكنني "أُحبك" في نبرتها كل لغاتِ الإحساس.

 

حالمًا، تذكرتُ ليلة عودتي وتجهيز الحقائبِ بهدايا زوجتي وابني الوحيد... هرولتُ نحو المستقبلين، احتضنتُ أبني بشدةٍ، تناثرت كلماتُ الشوق من عيني، نظرت إلي بحبٍّ:

ـ وحشتني.

في (محرابِنا) احتضنتُها، اجتاحني دفؤها:

- أُحبكِ.

اتسعت حدقةُ عينها، تأملت ملامحي منتشيه:

ـ أعشقُك.

 

ـ آه... الآلام لا تُحتمل.

 وخذ حقنةٌ في يدي، وصوت يطمئنني:

ـ سَيَخِفُّ الألم.

دوامةٌ سحيقةٌ تسحبني لأسفل، مددت يدي تحسست السرير، اطمأننت، ثقل رأسي، غفوت.

أراقبُ انتفاخ بطنها، بشرتنا الطبيبة:

ـ الجنينُ ولدٌ.

 تم الوضع في الشهرِ الثامن.

أقمنا حفل كبير لسبوع المولود، أصرت والدتي على أن تُمارس الطقوس القديمة، إبريقا مزخرفا بالشمع، حباتُ الفولِ السبعِ موصولةٌ بخيطٍ، زوجتي تضحكُ، تحملُ المولودَ وتخط فوقَ الغربالِ سبع مَرَّات، اَلنِّسْوَة يغنين ـ "حلقاتك برجالاتك"ـ

 

ألمٌ خفيفٌ سحب غِطاء غفوتي قليلا... قالت لي أمي ضاحكةً:

ـ الولد شبه أهل أمه.

أتاني اللعين:

ـ تظلمُ ابنك، بمشاركة الغريب له في مالهِ، نَبَّهَتْك وآبيت أن تستمع لي.

أمسك اللعينُ ناصيتي:

ـ ابن ثمانية أشهر ولم يحمل سماتك، ابن عمها كان يريدها زوجةً له لم يغمض لي جفنَ. مطرقة الشك وسندانُ الذنبِ يعاركانني، لامتني نفسي، بكيت.

ناداني المولودُ ببكائِه، هرولتُ لَحَجَرْته، نظرت إلي باسمة الثغر:

صباح الخيرِ يا حبيبي أيقظك بُكاؤه.

قبلت يدها ووضعت أخرى بين وجنتيها، حملتُهُ، قبّلته وأخذتُ أرقيه، حاول الملعون إفساد اللحظة هزمته وتلوت: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾.

صحوت علي صوتِ الطبيب:

ـ وضعنا لك مسكن مع المحلول، غفوت.

ما أعانيهِ من وساوس تشعرُ بها، أتاها اللعين:

ـ حزينةً من أجلهِ!!!! تسجدين لله دَاعِيَة له في جوفِ الليل، وَيَشُكّ فيك، وضعها في سياجِ شوك دائرةِ شكي.

يَشُدّنِي المنوم لهوةٍ سحيقةٍ مزدحمةٍ بِذِكْرَيَات أرهقتني سنين، صارعتُ وسواسي.

 

ـ كمْ مضيا من الوقت منذُ أجريت لي العملية.

ـ أربعة أيام، الحمدُ لِلَّهِ حالتُك مطمئِنة.

مبتسمةَ تطمئنُ علي من خلفِ زجاجِ النافذة، أشتاقُ إليها، أعاود النوم.

طمأنني الطبيبُ علي نجاحِ العملية، وقرر نقلي من العنايةِ المركزة، سألتهُ عن ابني، قال:

ـ بِخَيْر يرقدُ في الحجرةِ المجاورة، طلبت أن يدخلوني

 لحجرة أبني الأكبر لأطمئنَ عليه.

كعهدي بها استقبلتني بوجهها البشوش مُتَهَلِّلَة فرحةً، خلفُها ابني الأكبر واقفًا بكامل ملابسهُ. يا الله، من المتبرع؟!! نظرتُ للسرير... ابتسم لي أبني الأصغر:

حمدًا لله على سلامتكِ يا والدي.