أعمدة الإنشادالديني .. وأشواق الهوى زادى

الإنشادالديني
الإنشادالديني

تفتخر مصر دائما بقوتها الناعمة، من نجوم في المسرح والسينما والتليفزيون سيطروا لعقود على المشهد العربي وكانوا نجوما فوق العادة وسفراء للثقافة واللهجة المصرية عربيا، لكن قوة مصر الناعمة تتعدى حدود الفنون التقليدية إلى فنون الابتهال والإنشاد، لم يجود الزمن بأمثالهم في أي مكان آخر، وتتخطى حدود شهرتهم العالم العربي إلى ربوع العالم الإسلامي، من أندونسيا في أقصى جنوب شرق آسيا إلى سواحل المحيط الأطلسي في السنغال، أصواتا أصبح الكثير من الشباب في قلب أفريقيا وحتى ماليزيا يحاولون تقليد أدائهم، أصواتا كانوا يستقبلون في الكثير من الدول كالروساء والملوك، أنهم منشدون مصر.. يمكنك الآن أن تستمع إلى أحد أهم تلك الأصوات في مهرجان "محكى القلعة" يوم الرابع من سبتمبر، حيث حفل المنشد ياسين التهامي، الذي حصد منذ أيام قليلة جائزة أفضل تتر عن أغنية "يارب خلصني" التي كانت واحدة من أنجح التترات في السنوات الأخيرة.. في السطور التالية نستعرض مسيرة مجموعة من أبرز الأصوات في عالم الاتبهال والإنشاد، بالتأكيد منهم ياسين التهامي، بجانب أصوات رحلت عنا على رأسهم أحمد برين ونصر الدين طوبار وطه الفشني وسيد النقشبندي..

                                                                       ياسين‭ ‬التهامى .. سلطان‭ ‬العشق‭ ‬الإلهى‭ ‬طوال‭ ‬50‭ ‬عامًا

يحيى‭ ‬وجدى

 سألتني ابنتي ذات الإثنى عشرة عاما: قبل التلفزيون كان الناس بيتبسطوا ازاي؟ قلت لها بسماع الراديو. سألت: وقبل الراديو؟ قلت بالجرامافون.. جهاز بيشغل اسطوانات عليها أغاني. سألت: وقبل هذا الجرامفون؟ احترت قليلا ثم قلت: لايف. قعدات غُنا، ثم فكرت أن هذا كان يحدث في قصور الأغنياء، ماذا كان يفعل الفقراء، في الريف وفي الصعيد؟ سألت نفسي! وتذكرت أنها حلقات الإنشاد والمديح. كانت جلسات الإنشاد هي سلوى الفلاحين والفقراء، يستمعون إلى السيّر الشعبية وإلى مديح الرسول وآل البيت، وإلى قصائد العشق الإلهي وفيها تورية لحُب العشاق. المديح والإنشاد قديمان قدم المجتمعات نفسها، قدم تكون المجتمعات حول النيل والمناطق الزراعية، وحول المراعي في تجمعات البدو، وفي مناطق الصيد.

2 كنا في عام 2002 على ما أذكر. فعالية ثقافية نخبوية مهمة، ولقاء إبداعي مع الشاعر العربي الشهير المقيم في أوروبا منذ الستينيات علي أحمد إسبر المعروف بـ”أدونيس”، كانت الأمسية في مركز الإبداع بالأوبرا، وفي الصف الأول جلس كبار الأدباء والمثقفين المصريين، وبينهم جلس الرجل بجلبابه الصعيدي وعمامته المميزة. ما انتهى أدونيس من إلقاء شعره بمصاحبة الموسيقى، ونزل من على المسرح توجه إلى الصف الأول حيث يجلس الرجل وصافحه بحرارة وقبله في رأسه هاتفًا: صديقي الشيخ العظيم، كان الرجل هو الشيخ ياسين التهامي المنشد الصعيدي المصري، صاحب الألقاب العديدة: سلطان المنشدين، وشيخ المداحين، وكروان الصعيد. نظر أدونيس إلى جمهوره الخاص من الصحفيين والأدباء والمثقفين وقال لهم: لازم لما الشيخ ييجي ألمانيا أستقبله، ورد الشيخ ياسين حاكيًا عن دعوات أدونيس له في منزله في ألمانيا وفي فرنسا، وحكى كيف أن الشاعر الحداثي جاء مخصوص إلى لندن ليحضر إحدى حفلات التهامي هناك.

بالنسبة لمن لا يعرف الشيخ ياسين جيدًا، وليس على دراية بمنتج أدونيس الأدبي، أن يندهش من هذا اللقاء الحميمي بين الكاتب والمفكر أوروبي الهوى، والمنشد المصري الذي يبدو بملابسه غارقًا في مصريته وفي القلب منها صعيديته! حسنًا، ما يجمع بين الاثنين كبار شعراء العرب المتصوفة.. محيي الدين ابن عربي، عمر ابن الفارض، والحلاج، والسهروردي.

كوّن هؤلاء ثقافة أدونيس، وكان تمردهم بوصلة لتمرده على السائد في الثقافة العربية، أما الشيخ ياسين فقد حول كلماتهم وقصائدهم إلى صوت يسري في وجدان محبيه وجمهوره. ياسين التهامي كان صوتهم الذي حُرموا منه قبل قرون مضت، نقله عنهم من ساحات موالد الأولياء في الصعيد، إلى مسارح أوروبا وأمريكا، ومعه ملايين الممحبين والمستمعين الغارقين في الوجد.

3 لم يكن لقاؤه بأدونيس هو الوحيد الذي رأيت فيه الشيخ ياسين التهامي في دار الأوبرا المصرية، حضرت له حفلات عديدة على المسرح الصغير والكبير وفي المسرح المكشوف، ضمن مئات الحفلات التي قدمها سلطان المنشدين هناك، وفي هذه الحفلات فإن الشيخ ياسين هو الوحيد القادر على صنع توليفة فريدة من الجمهور، الأسر الصعيدية التي لا تدخل الأوبرا إلا من أجل الشيخ ياسين، وهو جمهور الشيخ ياسين التقليدي الذي يصاحبه في كل مكان من قرى الصعيد إلى أي مكان يوجد فيه، وجمهور الشباب الذي عرف الشيخ ياسين من خلال ساوند كلاود ويوتيوب، وجمهور المثقفين من العارفين بما ينشده الشيخ ياسين من قصائد.

هذه التركيبة المتباينة النادرة من الجمهور، الشيخ ياسين هو الوحيد الذي جمعها معًا، وهي نفسها التركيبة المتكررة التي شاهدتها في حفلاته خارج دار الأوبرا، في حفلات الجريك كامبس في الجامعة الأمريكية بوسط البلد، وفي حفلات محكى القلعة بقلعة صلاح الدين، وفي معرض القاهرة الدولي للكتاب، في حفلات مركز الإبداع ومكتبة الإسكندرية بالإسكندرية، فقط تختلف مقادير ونسب الجمهور بحسب المكان فقد يزيد المكون الصعيدي مقارنة بالمثقفين والشباب، وقد يزيد الشباب عن باقي المكون، لكن التوليفة هي هي.. توليفة الشيخ ياسين الخاصة التي لم يستطع أحد أن ينافسه فيها.

4 العام الماضي أصدر الكاتب الصحفي محمد الباز كتابًا عن حياة ومسيرة سلطان المنشدين الشيخ ياسين التهامي، وقد لاقى الكتاب اهتمامًا بالغًا، ذلك أنه يعد الكتاب الوحيد تقريبًا عن الشيخ ياسين بخلاف مئات المقالات التي كتبت عنه في الصحف العربية والمحلية، خصوصًا أن الكتاب يتضمن أيضًا الكثير مما لا يعرفه محبو الشيخ عنه، وهو الذي حرص على إحاطة حياته الخاصة بسياج خاص ويرى أن خير تعبير عنه هو صوته وحفلاته وعمله المستمر.

خمسون عامًا من العمل، منذ أنشد الشيخ ياسين أمام جمهور لأول مرة عام 1973 في ساحة والده، متأثرًا بخاله المنشد الكبير أحمد التوني الذي يعرفه كل من يعشق التراث والمديح.

ولد الشيخ ياسين التهامي في ديسمبر عام 1949، بقرية الحواتكة بمحافظة أسيوط، وأغلب الأسر كانت عائلة الشيخ ياسين من المتصوفة ومحبي آل البيت وأولياء الله الصالحين، حفظ القرآن على يد أبيه مثل كل الأطفال في قرى مركز منفلوط، وانخرط منذ صباه في حلقات الذكر ولياليه، وكان أحيانًا يتشجع فينشد أمام أصدقاء والده وعائلته الكبيرة، ثم كمنشد هاوي في موالد الأولياء والسهرات والأفراح، كان إلقاء ياسين الشاب لقصائد  محيي الدين ابن عربي، عمر ابن الفارض، والحلاج، والسهروردي، وذو النون المصري قويً ولغته الفصحى مميزة، رغم أنه لم يكن محبًا للدراسة ولم يكمل تعليمه العالي، فقد خرج من الثانوية الأزهرية.

جاء العام 1973، ليبدأ الشيخ ياسين التهامي مسيرته في الإنشاد ويكتب سيرته بصوته ويؤسس لمدرسته الخاصة المختلفة عن أجداده من المنشدين والمداحين، أجداده بالميلاد وبالوراثة، وأجداده من أساتذة الإنشاد والمديح الذين كوّن ثقافته بالاستماع إليهم مثل الشيخ علي محمود الذي يعتبر كبير أساتذة مدرسة الإنشاد الحقيقي والمتوفي عام 1946، ومن مدرسته خرج الشيخ طه الفشني، ومحمد الفيومي، وكامل يوسف البهتيمي. ومن بين أساتذة الشيخ ياسين في الاستماع، الفيومي، والشيخ طه الفشني، والشيخ نصر الدين طوبار بالطبع، والشيخ النقشبندي، والشيخ الهلباوي، وأستاذه المباشر الشيخ أحمد التوني.

5 إلى جانب موهبته الفذة وإخلاصه للإنشاد كأكثر شيء في حياته، فقد خدمت الظروف والاختراعات الحديثة الشيخ ياسين التهامي بشكل خاص، فقد واكب ظهوره ومعرفة أهالي الصعيد به ظهور شرائط الكاسيت التي نقلت صوته إلى باقي مصر، مع أهالي الصعيد الوافدين إلى القاهرة وباقي محافظات الجمهورية، وكانت سيارات البيجو بين المحافظات مثل راديو متنقل خاص فقط بالشيخ ياسين، حيث يصدح الكاسيت بصوته فيستمع إليه المسافرون ويتساءلون عن اسمه، وهكذا أصبح الشيخ ياسين في بضع سنوات بفضل شرائط الكاسيت أهم الأصوات المصرية، طول عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

ومع الألفية الجديدة، كان ظهور الانترنت وما تبعه بوجود يوتيوب وساوند كلاود والمحطات الفضائية الخاصة للمنشدين، كأنه ميلاد متجدد للشيخ ياسين ليصل إلى جمهور أحدث من الشباب والباحثين عن أصوات شجية ولغة مختلفة.

خمسون عامًا منذ أنشد أول مرة، ومازال الشيخ ياسين التهامي، يتربع وحده بلا منافس على عرش المديح والإنشاد، مقدمًا في الوقت نفسه تلاميذ جدد من أبناءه وغيرهم، لتظل راية العشق الإلهي مرفوعة بفضله.

                                                                    نصر‭ ‬الدين‭ ‬طوبار‭..‬ الضارب‭ ‬على‭ ‬أوتار‭ ‬القلوب

عمر‭ ‬السيد

لسنوات طوال ظل صوته الملائكي الفريد علامة الجودة والطابع المميز للإذاعة المصرية، والقرآن الكريم علي وجة التحديد..الشيخ  نصر الدين طوبار أحد عناقيد الإبداع المصرية في فنون الإنشاد والإبتهالات الدينة، شكلت أعماله بإقتدار جزء هام من تراثنا الدينى.

بدأ الشيخ نصر الدين طوبار مشواره مع حفظ القرآن الكريم فى طفولته، نظرا لنشأته الريفية، فهو من مواليد عام 1920 بمحافظة الدقهلية وتحديدًا بقرية المنزلة، تمتع منذ الصغر بموهبة وصوت فريد لفت إليه الأنظار مبكرا، ولذلك حينما بلغ سن الشباب نصحه كثيرون من المحيطين به باستغلال هذه الموهبة والتقدم لاختبارات الّإذاعة، إلا أن البداية لم تكن سهلة أبدًا.

تقدم القارىء الشاب وقتها للاختبارات التى لم يجتازها بسهولة، إذ فشلت كل محاولاته فى الإلتحاق بالإذاعة ست مرات متتالية، وهى مفارقة لم تكن متوقعة لمن يمتلكون صوتا كصوته، لكنه لم ييأس وأصر على محاولاته إلى أن تم قبوله فى المرة السابعة التى تقدم فيها للاختبار كمنشد ومبتهل.

بدأ الشيخ الجليل مشواره كمقرىء للقرآن، لكن الابتهالات والتواشيح الدينية كان لها النصيب الأكبر من اهتماماته، فقدم منها العديد، وتركت أعماله أثرا فى مجال الإنشاد بدرجة كبيرة، وكان أبرز ما لوحظ على الشيخ بهذه المرحلة أن لديه شغف دائم وحب إطلاع على عالم الموسيقى الذى كان سببا فى لقائه بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، والذى كان بدوره سببا فى انتقال الشيخ نصر لمرحلة جديدة فى حياته ومشواره كمبتهل، حيث أشبع موسيقار الأجيال رغبته فى البحث والاحتكاك أكثر بعالم الموسيقى وتعلم المقامات الموسيقية وإجادتها، إلى أن نصحه باستغلال موهبته والتوجة لتقديم الإبتهالات والتواشيح الدينية.

وهنا بدأت مرحلة جديدة وهامة فى حياة المبتهل الشيخ نصر الدين طوبار الذى قدم إلى جانب أبناء جيله من المنشدين، ومن صاحبهم من شعراء وموسيقيين، تجارب غيرت بدرجة كبيرة من مفهوم الإنشاد الدينى، وتحول صورته من التقليدية المعتمدة بشكل كبير على الكلمة العامية إلى صورة أكثر تطورا ونضجا، سواء على مستوى الكلمة أو بالإعتماد على الإيقاعات الموسيقية والجمل اللحنية التى تم توظيفها وإدراجها كأحد أهم عناصر العمل.

وعلى هذا النحو قدم الشيخ نصر الدين طوبار ما يقرب من مائتي إبتهال، كتبها كبار الشعراء، منهم شعراء الفصحى وكتاب الشعر الغنائي، مثل أمير الشعراء أحمد شوقى وصالح جودت وعبد الفتاح مصطفى ومرسى جميل عزيز، وشملت أعماله أيضا بعض مؤلفات الصوفية، منها للإمام البوصيرى والحصرى، وفى المقابل وضع لها كبار الموسيقيين فى ذلك الوقت الألحان والقوالب الموسيقية، ومنهم بليغ حمدى وكمال الطويل.

وبفضل إسهاماته المتعددة فى مجال الإنشاد والابتهالات الدينية، عُين نصر الدين طوبار فى مطلع عام  1980 قائدًا لفرقة الإنشاد الديني التابعة لأكاديمية الفنون، كما تم تعيينه قارئا للقرآن الكريم ومنشدًا للتواشيح بمسجد الخازندارة بشبرا، وتعددت مشاركاته إلى داخل حدود الوطن العربى وخارجه، منها ابتهاله بالمسجد الأقصى خلال زيارة الرئيس الراحل أنور السادات عام  1977، كما كانت له مشاركات شهيرة فى حفلات المؤتمر الإسلامى العالمى بالخارج، حيث قدم ابتهالاته فى واحدة منها بمسرح ألبرت هول بلندن قبل وفاته بعام 1986، كما تصدر الحديث عن موهبته وصوته العديد من وسائل الاعلام والصحف العالمية، ومنها الصحافة الألمانية التى وصفت صوته بـ “الصوت الذى يضرب على أوتار القلوب”.

                                                                                  النقشبندي‭..‬ كروان‭ ‬الإنشاد

عمر‭ ‬السيد

رغم كبر واتساع قاعدة جمهور ومتذوقي فنون الإنشاد والابتهالات الدينية، لم يختلف اثنان على قوة وجمال صوت المبتهل الشيخ سيد النقشبندي، ولا على تأثيره ودوره كأحد أعمدة الابتهال والإنشاد بين مختلف الأجيال، وقدمت أعماله نموذجا مستقلا لمدرسة قامت دعائمها على العديد من مواطن الجمال، من قوة الصوت وفرط الإحساس والخشوع.

اعاد النقشبندي في أعماله فن الإنشاد إلى جوهره القائم على الخشوع والمناجاة للخالق، وساعده في ذلك نشأته وخلفيته الصوفية، وتشبعه بكل ما قيل وورد في الأشعار الصوفية بفنون الإنشاد، والتي نمت بداخله إحساس بالخشوع والتعايش التام مع ما ينطق به صوته الشجي. 

ولد النقشبندي في قرية دميرة مركز طلخا بمحافظة الدقهلية عام 1920، وكانت نشأته منذ الصغر “صوفية” خالصة، وتأثر بالطريقة النقشبندية التي أخذ منها اسم شهرته، حيث كان جده محمد بهاء الدين النقشبندي شيخ الطريقة “النقشبندية” التي كانت تعرف بشدة الخشوع في الذكر، وحفظ في تلك الفترة القرآن الكريم ونال حظه من الفقه، وقدرا كبيرا من الشعر الصوفي الخالص، منه قصيدة “البردة” للإمام البوصيري وأشعار ابن الفارض.

بدأ النقشبندي حياته كقارئ للقرآن في محافظته الغربية، وكان معروفا عنه حبه للإبتهالات بحكم نشأته الصوفية، وما اطلع عليه من أشعار تلك المدرسة، إلى جانب صوته العذب الفريد الذي فتح أمامه قلوب كل من استمعوا إليه بسهولة، لذا اشتهر أيضا بتقديم العديد من التواشيح والابتهالات بنطاق محافظته في مناسبات عديدة، وبمرور الوقت بدأت شهرته تتزايد، حتى جاء عام 1955 الذي شهد انطلاقته الحقيقية بعد أن استقر بمدينة طنطا، وبدأت شهرته تتجاوز حدود مصر إلى بعض الدول العربية، حيث تمت دعوته إلى العديد من البلدان منها السعودية وسوريا بدعوى من الرئيس السوري حافظ الأسد.

في عام 1966، كان المبتهل الشيخ على موعد مع تحول آخر بمشواره، مع دخوله الإذاعة المصرية من خلال عدد من التسجيلات أذيعت بعض برامجها وقتها، ومنها برنامج “في رحاب الله”، وعدد من الأدعية الدينية لبرنامج “دعاء” الذي كان يذاع يوميا عقب أذان المغرب، كما اشترك في حلقات البرنامج التلفزيوني “في نور الأسماء الحسنى” وبرنامج “الباحث عن الحقيقة” الذي تناول قصة الصحابي الجليل سلمان الفارسي، إلى جانب ذلك شهدت هذه الفترة بداية انفتاح النقشبندي على التعاون مع بعض الموسيقيين، أبرزهم محمود الشريف وسيد مكاوي وأحمد صدقي وحلمي أمين وبليغ حمدي، والأخير أثمر تعاونه معه عن مجموعة من أشهر الابتهالات التي قدمها النقشبندي بمشواره، وكان تعاونهما الأبرز والأكثر ثراءً بين مجموعة الموسيقيين الذين عمل معهم، إلى جانب ذلك فقد كان لهذا التعاون قصة غريبة، إذ يذكر أن هذا التعاون جاء بطلب من الرئيس محمد أنور السادات، على شاكلة ما جرى أثناء “لقاء السحاب” الذي جمع “كوكب الشروق” أم كلثوم و”موسيقار الأجيال” محمد عبد الوهاب، بتوجيه من الرئيس جمال عبدالناصر، وأن كان التوجيه بلقاء أم كلثوم وعبد الوهاب كان أمر مبررا ومنطقيا بعض الشيء، عكس ما حدث مع بليغ والنقشبندي، حيث اندهش الأخير من الأمر في بدايته، حتى أنه كان ينوي الإعتراض، لكنه ارجأ قراره لحين لقائه مع بليغ، وسرعان ما قرر النقشبندي العدول عن قراره أثناء اللقاء الذي حدث بالإذاعة المصرية في حضور الإعلامي وجدي الحكيم، حيث استطاع وقتها “العبقري” بليغ حمدي تبديد كل مخاوف النقشبندي من خوض تجربة الإنشاد على ألحانه، وكانت نتيجة هذا التعاون 6 موشحات تعد من أشهر ما قدم النقشبندي في مشواره كمبتهل.

                                                                         أحمد‭ ‬برين‭..‬ ‭ ‬منشد‭ ‬بدرجة‭ ‬موسيقار

عمر‭ ‬السيد

من بين جموع المنشدين وتعدد إسهاماتهم بهذا المجال، يبقى المنشد الشيخ أحمد برين وما قدمه طيلة حياته، يحظى بمكانة خاصة لدى عشاق ومتذوقى هذا اللون من الفنون، ليس فقط لكونه أحد أعمدة هذا المجال ومؤسسيه، إنما لما تميز به أسلوبه وأعماله من بساطة وثقل فى الوقت نفسه، حيث تنوعت إسهاماته بين فنون الموال والسيرة الشعبية والإنشاد الدينى "الإسلامى والقبطى" إذ كان ضيف دائم على "مولد السيدة العذراء" بقرية درنكة بمحافظة أسيوط، إلا أنه اعتمد فى تقديمه لفنون الإنشاد على اللهجة العامية "لغة الموال والسيرة"على عكس غيره من المنشدين، فانتشرت على يديه فنون الإنشاد بـ"عامية الموال" من قرى ونجوع الصعيد إلى المدينة واهلها.

ولد الشيخ أحمد برين بإحدى قرى الصعيد بمحافظة أسوان عام 1925 ، تلقى تعليمه فى مرحلة الطفولة بكتاب القرية حيث اهتم بحفظ القرآن الكريم، ورغم أنه ولد كفيفا إلا أن ذكائه الشديد وذاكرته القوية مكناه من استكمال مراحل تعليمه حتى حصل على درجة البكالوريوس من كلية أصول الدين، حتى جاءت فترة الخمسينيات والتى بدأ معها يذاع صيته وشهرته فى مجال الإنشاد ورواية السيرة.

جسد برين خلال تجربته ومشواره مع الإنشاد الدينى، مدرسة منفصلة متكاملة الأركان، اعتمدت على عدة ركائز ومقومات شخصية عديدة، بدايته من دراسته وحفظه للقرآن الكريم وتبحره فى علومه، الأمر الذى منحه إجادة وإتقان شديد لعلوم اللغة العربية وفنونها، إضافة إلى موهبته الكبيرة وإجادته فن الإلقاء، وأذنه الموسيقية التى نمت بداخله حسا موسيقيا كان له فضل كبير فى اختلاف وثراء تجربته بشكل كبير.

كان الشيخ أحمد برين شغوفا منذ طفولته باستخدام الإيقاعات الموسيقية فى الإلقاء والاعتماد عليها بدرجة كبيرة - وبأبسط الإمكانيات المتاحة- فإلى جانب اعتماده على الرق و الدفوف وغيرها من الآلات التقليدية بشكل كبير فى خلق إيقاع موسيقى مصاحب لأدائه، سعى أيضا لاستغلال أداة “الباز” أو “ النقرز” حسبما كان يطلق عليها فى ذلك الوقت، وهي آلة شعبية قديمة يقال أنها كانت تصنع من جلد الجمل، وكانت تستخدم قديما لغرض التنبيه فى أوقات الصلاة أو موعد الإفطار خلال الشهر الكريم. استطاع أحمد برين تطويع هذه الآلة وجعلها من ضمن الأدوات التي استخدمها في ألحانه سواء فى الإنشاد أو فى تقديم القصائد الشعرية كالتى قدمها  لابن الفارض والحلاج وغيرهم من الشعراء.

 كما استحدث برين أيضا نمط جديد فى خلق الإيقاعات الموسيقية خلفه، باستخدام أصابعه فى النقر المنتظم على الميكروفون لخلق إيقاعات موسيقى منتظمة يخدم أدائه. أيضا كان لعشقه الشديد وإجادته لفن رواية السير الشعبية والمواويل أثر بالغ فى أسلوب أدائه، وإلقائه لفنون الإنشاد، إذ كانت قصائده فى الإنشاد أقرب بالسير الشعبية المليئة بالمواعظ والحكم الحياتية.

 لذا فمع بساطة أسلوب عرضها المعتمد على العامية، لاقت أعمال المنشد الراحل انتشارا واسعا على المستوى العربى، و كونت جزءا من الموروث الثقافي والفلكلوري المصرى الذى بات يحتفى به حتى خارج حدود وطننا العربي، حيث صدر له فى مطلع عام 2003 ألبوما بالعاصمة الفرنسية باريس ضم مجموعة من أشهر أعماله تحت عنوان “غناء صوفي” .. أحمد برين حالة خاصة حرة متحررة.

تعددت مواهب وإسهامات الشيخ أحمد برين خارج مجال الإنشاد الدينى أيضا، حيث كان من المهرة المجيدين لفنون الإرتجال وله موشحات وأشعار عديدة قدمها على هذا النهج، منها أشعاره التى قدمها لثورة 52  ولحرب أكتوبر المجيدة، لكن يبقى أشهرها وأكثرها انتشارا بين الجماهير قصيدة “سافر حبيبى” التى أخذ عنها أغنية تتر مسلسل “واحة الغروب”.

                                                                    طه‭ ‬الفشى‭ ..‬‭ ‬صاحب‭ ‬الحنجرة‭ ‬الذهبية

مؤمن‭ ‬حيدة

استطاع الشيخ طه الفشني حصد العديد من الألقاب في حياته، أبرزها "صاحب الحنجرة الذهبية" و"ملك القصائد والتواشيح" و"كروان الإذاعة"، وقد حفرت تواشيحه وقراءته للقرآن الكريم في أذهان العالم العربي أجمع.. في السطور التالية نستعرض أهم المحطات في حياته المهنية.

ولد الشيخ طه حسن مرسي الفشني عام 1900، وحفظ القرآن الكريم كاملًا وهو في عمر 12 عامًا، وحصل على كفاءة المعلمين من مدرسة المعلمين بالمنيا عام 1919، وبعد حصوله على مدرسة المعلمين من المنيا توجه إلى القاهرة لبدء رحلة جديدة في التواشيح وقراءة القرآن، إلا أن أحداث ثورة 1919 حالت دون ذلك، واضطر للعودة إلى مسقط رأسه مرة أخرى، حيث بدأ منه رحلته في عالم الأناشيد وقراءة القرآن وذاع صيته، ثم عاد للقاهرة مرة أخرى.

جاء إلتحاقه بالإذاعة عن طريق الصدفة، حيث كان يحيي إحدى الليالي الرمضانية في رحاب مسجد الإمام الحسين، واستمع إليه سعيد لطفي مدير الإذاعة المصرية وقتها، فعرض عليه أن يلتحق بالعمل في الإذاعة، واجتاز كافة الاختبارات بنجاح، وأصبح مقرئًا للإذاعة ومنشدا للتواشيح الدينية على مدى ثلث قرن، لكن الصدفة ليست هي سبب نجاحه، بل حلاوة صوته وإحساسه وأداءه كان سبب رئيسي في تألقه، لدرجة أنه عندما نزل إلى القاهرة تلقته شركة إنتاج اسطوانات وتلحين يونانية، وبالفعل أنتجت له أسطوانتين غناء، كما شارك كمطرب مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في إحياء حفل زواج الملك فاروق‏، لكن سرعان ما غلبت عليه التربية الدينية التي تلقها من أسرته المتدينة ودراسته في الأزهر، واتجه إلى القرآن الكريم والتواشيح الدينية.

صاحب مدرسة

بعد رحلته مع الإذاعة، رتل الشيخ الفشني القرآن الكريم بقصري عابدين ورأس التين، بصحبة الراحل الشيخ مصطفى إسماعيل لمدة 9 سنوات كاملة، وعندما بدأ التلفزيون إرساله في مصر، كان الشيخ طه من أوائل قراء القرآن الكريم الذين عملوا به.

وكان صاحب مدرسة متفردة في التلاوة والإنشاد، فقد كان على علم كبير بالمقامات والأنغام، وانتهت إليه رئاسة فن الإنشاد في زمنه، وهو أشهر أعلام هذا الفن بعد الشيخ علي محمود، وكانت أشهر تواشيحه بعنوان “ميلاد طه يا أيها المختار” و”حب الحسن” و”إلهي” و”سبحان من تعنو الوجوه لوجهه”، حيث أنه لم يكن يحضر في أي سهرة دينية أو احتفالية إلا ويطلب منه قراءتهم.

كما تم تعيينه قارئاً لمسجد السيدة سكينة سنة 1940 وحتى وفاته، واشتهر بقراءته لسورة الكهف يوم الجمعة، واختير رئيساً لرابطة القراء خلفاً للشيخ عبد الفتاح الشعشاعي عام 1962.

جوائز وتكريمات

حصل الفشني على عدة جوائز وتكريمات محلية وعالمية، أبرزها “نوط الامتياز” من رئيس وزراء ماليزيا وملك المغرب، فضلا عن تكريمات السعودية له في أكثر من مناسبة، كما كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر محبا له، فأهداه طبق فضة موقع منه، وكرمه الرئيس الراحل محمد أنور السادات في عدة مناسبات قبل رحيله عام 1971، كما كرمته محافظة بني سويف بوضع صورته داخل الممشى السياحي بكورنيش النيل بمدينة بني سويف، كونه أحد أعلام المحافظة.

كانت دولة السودان آخر دولة زارها الفشني قبل وفاته، حيث أحيا بها ليالى شهر رمضان السابق لرحيله.

اقرأ أيضًا : المنشدان ياسين التهامي وأحمد العمري في القلعة.. 4 سبتمبر


 

;