منى عبد الكريم تكتب : قصائد الغابة المهجورة فى بيت السنارى

منى عبد الكريم تكتب : قصائد الغابة المهجورة فى بيت السنارى
منى عبد الكريم تكتب : قصائد الغابة المهجورة فى بيت السنارى

بين تلك الشجرة الصغيرة ذات الأوراق الخضراء التى احتضنها بيت السناري، وذلك الفيديو الذى صور نفس الشجرة دون أوراق وهى معلقة بعيدا عن الأرض لتدور حول نفسها وكأنها تبحث عن ملاذ، بدأت جولتى بالمعرض الذى استضافه بيت السنارى للفنان النمساوى الشاب آجون كاى تمرن، ونظمته مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع المركز الثقافى النمساوى بالقاهرة، تحت عنوان «قصائد غابة مهجورة». 


للوهلة الأولى جال بخاطرى أن الأمر محض صدفة، إلا أن الفنان وخلال حديثه عن المعرض ذكر أن  الشجرة هى جزء من تجربته الفنية، فتلك الشجرة التى جاءت بالفيديو هى نفسها الشجرة ذات الأوراق الخضراء التى أراد من خلالها أن يوصل رسالة أن الإنسان فى بحثه عن محيط مناسب قد يشبه تلك الشجرة المعلقة التى تدور حول نفسها بينما تتوق براعمها لنور الشمس، لكنه حين يجد البيئة المناسبة فإن بإمكانه أن يزهر وأن تعود الحياة إليه. وأضاف أن تلك الشجرة ستظل ببيت السنارى حتى بعد انتهاء المعرض لتعيش بذلك المحيط الجديد الذى أصبحت تنتمى إليه. 

اقرأ ايضاً| «نجيب محفوظ حضور دائم» فى نقابة الصحفيين


لم يكن ذلك هو الأمر الوحيد المثير للمخيلة، فالأمر الآخر يتعلق باختيار بيت السنارى لاستضافة المعرض بطرازه المعمارى المميز وبمشربياته الخشبية، مقابل تلك الأعمال الفنية التى تنتمى للفن المعاصر، حتى إن كثيراً من الأعمال ذاتها جاءت لتمزج بين الخشب والحديد، بين تلك الخامة الطبيعية فى شكلها العضوي، التى جمع الفنان معظمها من مصر ومن أماكن مختلفة بها، من بينها مثلا الفيوم والتى تم إعادة دمجها فى سياق جديد مع المعدن الصلب، إذ يعتمد الفنان على توظيف خامات غير تقليدية، ليعيد صياغتها فى سياق جديد يعبر عن مفاهيمه وتأملاته.. وربما لهذا السبب جاء عنوان المعرض «قصائد غابة مهجورة»، إذ يكتب الفنان الشعر والنثر، وتعتبر تلك الأعمال الفنية ترجمة بصرية لأفكاره، أو بالأحرى نتاج تأملاته فى المجتمع المحيط، ليترجم تلك الأفكار فى كتاباته وأعماله الفنية.


لكن أمراً إضافياً يتعلق بذلك الاختلاف بين البيئات الثقافية التى عاش بها الفنان، إذ ولد الفنان ونشأ بالنمسا بينما جاء إلى مصر منذ عامين للعمل فى مجال الموضة والتصميم بإحدى الشركات الكبرى، وخلال تلك الفترة عاد شغفه بالفن التشكيلي، حيث أعاده التصميم والعمل بالخامات إلى حبه للرسم والتصوير، ذلك الشغف الدفين منذ الطفولة لاسيما وهو ينتمى إلى عائلة فنية، فوالده وعمه فنانين تشكيليين. وخلال هذين العامين سافر آجون إلى تركيا لدراسة الفنون، قبل أن يعود إلى مصر ليستكمل دراسته مع  الدكتور محمد شكرى بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان.


ويعتبر معرض «قصائد غابة مهجورة» هو المعرض الفردى الأول للفنان آجون، الذى أكد أن مصر لعبت دوراً كبيراً فى اختيار الخامة التى استخدمها بأعماله، إذ تكونت جذور الفكرة هنا، وألهمته المواد حوله الكثير من الأفكار، مضيفاً: من الأفضل أن أوظف الخامات من البيئة المحيطة، لأن ذلك أيضاً يشكل عامل ربط مع المجتمع المحلى المحيط. 


ويحمل كل عمل من الأعمال التى قدمها الفنان الشاب فى معرضه الكثير من المعاني، فمثلاً عمله «استنتاج جمعي، وإقصاء أبدي» يناقش فكرة وصم الأفراد وإصدار أحكامٍ أبديةٍ ضدهم بناء على تصرفٍ واحد، دون محاولة لفهم الدوافع الحقيقية لارتكاب خطأ أحادى، قبل أن يتم سجنهم فى دائرة أبدية من الإقصاء، ربما يدمج هذا العمل تحديدا قطعة خشبية من النمسا وأخرى من مصر ليؤكد على عالمية الفكرة والتنفيذ، فى عمل آخر يناقش الفنان فكرة الرقص كوسيلة من وسائل التعبير، بتخيله اثنين يرقصان حول النار، فمنذ فجر الإنسانية والرقص وسيلة للتعبير ولتحرير الروح، على الرغم من اختلاف السياق المجتمعى والبيئة التى يتم ممارسة الرقص فيها عبر الأزمان ، فربما ينظر الكثيرون للرقص الآن على أنه وسيلة للاستمتاع.


وهكذا فإن كل عملٍ من أعمال آجون يحمل مزيجاً من الأفكار والفلسفات، وهو الأمر الذى أكد عليه الفنان محمد شكرى قائلا:  «أفكاره مميزة وقوية، وقد نبعت من الربط بين الثقافات فى الممارسة الفنية ، فأعماله تتميز بالأصالة لأنها  نابعة من أفكاره الشخصية وتجاربه الناتجة من علاقته بالمجتمع الذى جاء إليه واحتك به».


إن أهمية المعرض تنبع كما ذكر د.أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية من كون الأعمال الفنية تتجاوز حدود المجتمع المحلى إلى حدود البشرية والرؤية العالمية، فالعالم اليوم مليء بالمشكلات والصراعات، وهناك شباب وقعوا تحت وطأة الاستخدام الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعى لتجعلهم فى عالم من الاضطرابات بما يطلق عليه علماء الاجتماع حالة من عدم اليقين والمجتمع الخطر، مضيفاً : إننا نأمل فى أن تكون الثقافة والفن هما الحل لتلك المشكلات، ونحن بحاجة دائما لأن نفكر فى مستقبل العالم فى ضوء البحث عن حداثة جديدة، وعن مجتمع إنسانى يخرج من دائرة الحدود والأفكار الضيقة إلى الأفق الرحب للإنسانية وللفكر العالمى والتراث الفلسفى العالمي.


جدير بالذكر أن الفنان آجون كاى تمرن؛ هو فنان نمساوي، بدأ مسيرته الفنية بتدريبٍ ميدانى فى إحدى شركات التصميم والأزياء فى مصر، فهو يقيم بها منذ عامين، وقد عمل خلال هذه الفترة على زيارة الأماكن التاريخية والأثرية فى مصر وكذلك على زيارة المعارض الفنية، إضافة إلى التفاعل اليومى مع الحرفيين وفنانى الحرف اليدوية وأساتذة الفنون فى مصر، مما أصقل موهبته فى فنون النحت والتصوير.  ويأتى المعرض – كما جاء بالبيان المصاحب للمعرض - فى إطار الحفاظ على التراث الثقافى والتجارب الإنسانية، وكذلك تعزيز التواصل والتفاهم بين الثقافات والشعوب، بالإضافة إلى تشجيع الفنانين لا سيما شباب الفنانين، وتقديم مصدر للتعلم وتبادل الخبرات، ومعرفة تاريخ الفن والتقنيات المستخدمة والتأثيرات البيئية والثقافية.