كنوز| «عندليب الصحافة» يفك شفرة «الطريق إلى ربيكا» !

محمود عوض -- كليف روبرت سون
محمود عوض -- كليف روبرت سون

محمود عوض 

فى الذكرى 14 لرحيل عندليب الصحافة محمود عوض نقدم لقراء «كنوز» فى ذكراه مقالاً مهماً عن الفيلم التليفزيونى «الطريق إلى ربيكا» الذى شاهده عندما كان فى لندن ، ونجح فى فك شفراته التى أراد مخرجه «ديفيد هيمنجرز» إيصالها للمتفرج البريطانى المسترخى فى منزله لتحقيق الكراهية غير المباشرة للشخصية العربية ، الفيلم يشارك فى بطولته: كليف روبرت سون ، وديفيد سول ، وقد نوهت جريدة «الصانداى تليجراف» إلى أن الفيلم من أفلام المغامرات، بينما قالت جريدة «الصانداى إكسبريس» إنه من أفلام الجاسوسية التى جرت وقائعها فى شمال أفريقيا عام 1942،  وتقول سطور مقال محمود عوض : 
تبدأ قصة الفيلم بالجاسوس «إليكس وولف» الذى كلفته المخابرات الألمانية بالذهاب إلى مصر فى مهمة سرية أثناء العالمية الثانية ، القائد الألمانى روميل يتقدم نحو مصر المحتلة من بريطانيا ، ومهمة هذا الجاسوس عرقلة خطط القيادة البريطانية فى القاهرة للتمهيد لدخول قوات روميل إلى مصر، ينجح الجاسوس الألمانى بعد مغامراتٍ فى الصحراء الغربية وقتل جندياً بريطانياً فى أسيوط من الوصول إلى القاهرة متنكراً ، يعود إلى بيته الذى كان يعيش فيه فى حى جاردن سيتى ويجدد علاقته بالراقصة «سونيا» التى وعدها بان يحقق لها أحلامها فى مقابل مساعدته فى اصطياد كبار الضباط الإنجليز الذين يشاهدونها فى الملهى الليلى، وهناك ضابط أمريكى يعمل مع المخابرات العسكرية البريطانية بالقاهرة ، تتركز المطاردة طوال الفيلم بينهما، وتنتهى القصة بنجاح الأمريكى فى حل رموز الشفرة التى يتراسل بها الجاسوس الألمانى مع روميل، وتنهار عملية «روبيكا» التى هى الاسم الرمزى لمهمة الجاسوس الألمانى فى القاهرة.
ما يهمنا هو الرسالة التى يتركها الفيلم فى وعى المتفرج من صراعٍ بين الخير والشر، الخير يمثله الضابط الأمريكى والشر يمثله الجاسوس الألمانى الذى يتحالف مع الراقصة ويستخدمها لحسابه مع زعيم اللصوص «عبد الله»، بينما ضابط المخابرات الأمريكى تساعده اليهودية «إيلينى فونتانا» التى تريد الذهاب إلى فلسطين ويوصيه زميله الإنجليزى بها خيراً عندما يقول : «ليس هناك يا ماجور من يستطيع مساعدتها فى الذهاب إلى فلسطين سواك»، وعندما يبدأ الغرام بينهما يسألها الأمريكى «ماذا تريدين ؟»، وتجيبه: «أريد أن أكون آمنة.. وماذا عنك ؟» ، فيقول: «أنا أريد .. السلطة»، وتؤمن على كلماته قائلة: « لعلنا نصل إلى ما نطمح إليه». 
هكذا يبدأ التحالف بين المرأة الصهيونية والضابط الأمريكى بما يقدمه  كل طرف للآخر فى مبادلة بين المأوى الآمن فى فلسطين ، والسلطة التى تريد أمريكا أن تحكم  بها العالم ! 
وعندما نأخذ صورة الجانب الشرير فى الصفقة ! نرى الجاسوس النازى الذى يستخدم لحسابه الراقصة «سونيا» التى تستدرج كبار الضباط الإنجليز لمسكنها ، حتى يتمكن الجاسوس الألمانى من تصوير الوثائق السرية التى فى حقائبهم ، والكل مندمج معها فى حجرة النوم !
القاهرة التى يعرضها الفيلم كمكانٍ للمغامرة والجاسوسية ، هى قاهرة الرشوة والفساد والتعاون السرى مع النازيين ، حتى الضابط المصرى الذى يعتمد عليه الأمريكى يتعاون مع الآخرين سراً أملاً فى أن يهديه جهاز اللاسلكى بعد أن تنتهى مهمته بدخول روميل للقاهرة مظفراً ! والمشاهد الإنجليزى لن يفكر فى مدى عدم صحة ما يراه أمامه على التليفزيون ، وسيصدق هذا التلفيق المُتعمد بمقاييس الواقعية السينمائية ، فالمقهى القاهرى الذى تتم فيه معظم مقابلات الأمريكى مكتوب عليه «شاى منعنع قمر»، والتاكسى مكتوب عليه «حكومى عمومى»،  والراقصة اسمها «سونيا الأهرام»! .
شاهدت الفيلم فى لندن على امتداد ليلتين وتفكيرى محصور فيما سيخرج به المتفرج الإنجليزى فى نهايته ؟ وما الذى سيستقر فى قاع اللاوعى لديه بعد الاستمتاع والتسلية ؟ 
نحن لا نتحدث سياسة ، وشئنا أو أبينا ، سنجد المعانى السياسية الضمنية واضحة، فالولايات المتحدة تتحالف مع الصهيونية بتوصية من بريطانيا بالمنفعة المتبادلة ، والقضية المشتركة بينهما مواجهة قوى الشر والعدوان فى هذا العالم ، ليس فقط النازية التى سقطت منذ أكثر من ستين عاماً، ولكن « الكم» المصرى العربى الذى يجب التعامل معه بالعصا لأنه لا يفهم غير لغة القوة !
بعد الإبهار ومشاهد المطاردة والقتل والتجسس والرقص والإثارة والجنس والشذوذ ، والنموذج الوحيد لليهودى الصهيونى أمامنا هى المرأة الشابة التى «تريد الأمن فى فلسطين» ولذلك تتحالف مع البطل الأمريكى لأنه «من يستطيع مساعدتها» ! أما النماذج العربية التى نراها فى الفيلم فهى لشيخ قبيلة مرتشى فى الصحراء ، و«عبد الله» زعيم اللصوص الذى يساعد الجاسوس الألمانى ، والراقصة «سونيا الأهرام» التى يذهب الضابط الأمريكى لكى يقبض عليها ، فتهدده قائلة: «إذا قبضتم علىّ فالشعب سيحرق المدينة كلها غداً» ، لكنه لا يهتم لأنه يعرف أنها مصابة بالشذوذ والجاسوس الألمانى يلبى مطلبها ! .. نحن لسنا أمام مجرد فيلم تليفزيونى مسل لا يزعم أن له علاقة بالسياسة ، لأنه يبلغ المشاهد  رسالة سياسية تماماً ! فالحركة الصهيونية منذ بدايتها كانت تقيم التحالفات وتغيرها فى كل وقت، لكنها حرصت منذ أواخر الثلاثينيات على أن تلفق لنفسها جذوراً فى الشارع الغربى حتى لا يساندها حلفاؤها فى السلطة السياسية من فراغٍ ، وبعد قيام إسرائيل أصبحت تبرم الصفقات والتحالفات وتستورد الأسلحة وتحصل على المعونات ، ولم تتوقف لحظة عن محاصرة المواطن الغربى بالكتاب والصورة والجريدة والمجلة والقصة والرواية والسينما ، بهذا كله تستطيع أن تخلق فى الشارع الغربى ما يلائمها من انطباعاتٍ جماهيريةٍ لا تكتسب قوتها من صحتها ، لكن من تكرارها والإلحاح بها على نفس وعقل المواطن الغربى ، وحينما نتناقش مع المواطن الأمريكى أو الإنجليزى أو الفرنسى نُفاجأ بالصورة المتحيزة فى ذهنه عن كل ما هو عربى، ونفاجأ أن هذا المواطن لا يستطيع أن يحدد «متى ، ومن أين» ترسبت تلك الصورة فى خياله ، لأنه لم يفكر فى الأمر كثيراً من قبل ، وتلك خطورة أفلام منها « الطريق إلى ربيكا». 
فيلم بعد فيلمٍ ، ويوم بعد يومٍ ، تزال تحصينات التنوير من نفس وعقل المواطن الغربى وتضع مكانها تحاملاتٍ مسبقة ضد العرب ، وانحيازاتٍ مسبقة لإسرائيل والصهيونية ، فيصبح الأمر طبيعياً حينما يجد إسرائيل تدمر مفاعلاً نووياً سلمياً فى بغداد ، وتقوم بمطاردة كل عالم ذرة مصرى وعربى ، ومطاردة كل فلسطينى حتى آخر أنحاء الأرض !