يوميات الأخبار

النفس الأمّارة.. بالشوق!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

قبل سنوات اختار الإقامة فى أيرلندا، تزوّج هناك وأنجب طفلين، الأكبر عمْره خمسة أعوام. التحق بالحضانة التى بدأتْ بثّ قيم أخلاقية جعلت الأب يشعر بالذُعر، والغريب أنه لا يمكنه التدخل، كى لا تواجهه الاتهامات المُعلّبة.

مفاجأة سارة.. بسرادق عزاء!

الثلاثاء:

فى مفاجأة سارة، التقيتُه بمدخل سُرادق العزاء! لم أقابْله منذ شهور طويلة.. وربّما سنوات. لم يعُد حساب الزمن يشغلنى، فعقْد الأعوام ينفرط بمعدلات مُتسارعة. صديقى الأكثر شبابا «نسبيا» مهموم، يبدو ذلك بوضوح على وجهه، المبرّر المبدئيّ أن السيارة تعطّلت وتركها فى شارع عمومى، ويخشى عليها من تربّص «ونش» المرور، لكن الحديث يكشف أسبابا أخرى للتوتر. قبل سنوات اختار الإقامة فى أيرلندا، تزوّج هناك وأنجب طفلين، الأكبر عمْره خمسة أعوام. التحق بالحضانة التى بدأتْ بثّ قيم أخلاقية جعلت الأب يشعر بالذُعر، والغريب أنه لا يمكنه التدخل، كى لا تواجهه الاتهامات المُعلّبة، بعدم قبول الآخر مهما كان سيئا. انشغلنا فى استراحة التلاوة بأحاديث جانبية مع آخرين لم نقابلهم منذ فترات طويلة، رغم وجودنا فى مدينة واحدة.

لن أتحدث من جديد عن مدينة بمواصفات الوحْش، تلتهم الجميع بعد أن تُفرق بينهم. المدينة بريئة لأن المسئولية مُشتركة، وجانب كبير منها يقع علينا نحن. القادمون من الخارج يأتون مُحمّلين بذكرياتهم، معتقدين أنهم لن يجدوا وقت فراغ يفصل بين هدير المقابلات، معظمهم سافروا عندما كان شبابنا كائنا حيا يبعث فينا الحيوية، عبْر لقاءات شبه يومية وضحكات لا تنتهى رغم بصيص من ألم. لا يعرف هؤلاء أن العُمر فرض حواجز رسّخها انشغال الحاضر وزحامه، مع تفكير مُستمر فى المستقبل، إضافة لوهن خمسينى، يمنح أوضاع الثبات أولوية قُصوى.. تُجمّد أية حركة مُحتملة.

ألعاب الحياة

الجمعة:

تعرض إحدى الشاشات فيلم «حكاية لعبة». تنشغل زوجتى وابنى بهاتفيهما، بينما أتابع فيلم الكرتون باهتمام شديد. تدور أحداث الجزء الثالث حول ألعاب طفل كبُر ويستعد للالتحاق بالجامعة فى مدينة أخرى، وتُقرّر الأم التخلص من المُهملات.. ومن بينها الألعاب، التى تجد نفسها فى مواجهة واحد من مصيرين: الهرْس فى عربة القمامة الضخمة، أو التبرع بها لإحدى دور رعاية الأطفال. قرّر الشاب أن يحتفظ بألعابه القديمة فى «سنْدرة البيت»، لأنه يشعر بالألفة مع رفاق طفولته، استثنى دُمية يصطحبها معه للجامعة، ليُصبح صاحبها الناجى الوحيد من المصير المجهول. نتيجة لبْس، ضلّ كيس الألعاب طريقه نحو عربة القمامة بدلا من «السندرة»، ولحسن حظ مقتنياته أنها تمكنت من الفرار فى اللحظة الأخيرة، وشقتْ طريقها نحو سيارة الأسرة لينتهى بها الحال فى دار الرعاية.

لا تعنينى سلسلة المغامرات التالية، فقد انصب تركيزى على شعور الألعاب حينما تُحال إلى التقاعد. فى بيوت كلٍ منا كثير من مُخلّفات طفولة أبنائنا، وبالتأكيد ضاعت بقايا مقتنياتنا بفعْل فجوة زمنية سحيقة، تفصلنا عن فترة صبانا، كما أن الكثير من ألعاب جيلنا خاصة فى القُرى، اعتمدتْ على ابتكارات مُستمدة من الطبيعة، وسرعان ما التهمتها الطبيعة نفسها! لعبة «الحجلة» نموذج لايغيب عن ذاكرتى. كانت تعتمد على مربعات مرسومة على الأرض، تتّعدد مستويات صعوبتها حسب إمكانات اللاعبين، وتقوم على القفز على قدم واحدة بين المربعات، ومن يلمس الخطوط الفاصلة يخسر. احتكرتها البنات فى البداية، غير أنها استهوت الأولاد فواجهوا الممارسات الاحتكارية بالمشاركة الجبْرية، بالإضافة إلى ألعاب أخرى شبه مُنقرضة، مثل «الدبور» أو «النحلة»، وأدوات لهْو تم ابتكارها من طين الأرض بعد تجفيفه.

كثيرا ما شعرتُ بشغف للألعاب البدائية. حظيتْ فى قائمة اهتماماتى بمرتبة مُتميزة، تماما مثل تلك التى تأتينى فى عُلب مُبهرة بألوانها وفخامتها. واستمر اهتمامى باللُعب مع وصول ابنى للحياة. أختار هداياه وبداخلى بهجة مُستوردة من الماضى، لكن الابن لم يعرف مع جيله مُتعة الألعاب البدائية، التى تراجعت بتأثير الزمن وأماكن المعيشة. ما يشغلنى الآن أمر مختلف تماما.

فى الفيلم الأمريكى شعرت الألعاب بالمعاناة، بعد أن أصبحت مرفوعة من الخدمة. انقطع التواصل معها فعاشتْ على حافة الإهمال، لكنها على الأقل موجودة بذكرياتها. اختلفت الأمور تماما فى عصرنا، ورغم كل ما يقال عن ازدهار أسواق اللّعب، إلا أننى أعتقد أنها دخلت عالميا مرحلة الانقراض التدريجى. بدءا من عُمر 3 سنوات، يرتبط الأطفال بالهواتف المحمولة وتطبيقاتها. غالبا فقدت الأغلفة المُلونة غوايتها، وانتقلت دوائر السِحْر إلى شاشات بالغة الصِغر، تكتب تاريخا جديدا للذكريات. قد نشعر ككبار بالأسى لأن أزمانا كاملة تتلاشى، لكن من قال إن ذكرياتنا هى الوحيدة التى يجب أن تبقى؟ غالبا عاش آباؤنا الشعور نفسه، وهم يودّعون ألعابهم التقليدية، ويُودِعون طفولتنا فى أحضان دُمى وقطارات كهربائية تقطع القُضبان، وتنتزع صرخاتنا المُبتهجة. لا مانع من بعض الحنين، لكن لا داعى للأسى، لأنها باختصار.. لعبة الحياة.

اشتقتُ للعروس!

الأحد:

رغم ارتباطى العاطفى بها، إلا أنها لا تحتل مرتبة مُتقدّمة على قائمة خزائن الذكريات. بالتأكيد وُلِدتْ بها أحداث مُفعمة بالبهجة، وترعرعت حتى أنها لا تزال حاضرة بقوّة، لكنى أتحدث عن «النسبية»، التى تمنح بعض الأماكن مكانة أعلى فى الوجدان. المُفارقة أن الحنين يشدّنى إلى الإسكندرية أكثر من أية مدينة أخرى ارتبطتُ بها. مع أنها على بعد خُطوتين بالقطار، إلا أن رحلتى إليها متعسرة منذ سنوات. أقرّر المرة تلو الأخرى أن أتجه إليها ولو يوما واحدا، ويتعرض القرار للإجهاض بفعْل ظرف طارئ. غوايتها هذه الأيام حاضرة بقوة، تحت تأثير صفحة على «فيس بوك» تستعرض باستمرار صورا قديمة لشوارعها، فُتعيد إنعاش ذاكرتى، وفى الوقت نفسه تُنبّهنى لمفارقة غريبة: أنا لم أكتشف الكثير جدا من خباياها. ترحالى المُكثّف بها ارتكز على الشريط الساحلى من الشرق إلى الغرب، مع بعض التوغل فى شوارع جانبية أو موازية. سأنتبه لذلك فى الزيارة القادمة، إذا كان مُقدرا لها أن تكتمل. 

ما يهمنى الآن أمر آخر، فالمدينة تضم مبانى ذات طبيعة خاصة، تحتفى بجمال الواجهات مع حميمية غير عادية بالداخل. كنتُ أستمتع بالنظر لإحداها، وتزداد تأملاتى عُمقا إذا اتسمت جارتها بالقبح، فالضد يُظهر حسنه الضدّ، مثلما قال شاعر ذات عشق وقُتِل بسبب قصيدته. ظللتُ أتمنى الإقامة بإحدى العمارات الجميلة بعروس المتوسط، إلى أن انتابتنى نوبة فلسفة خلال لحظة شرود. وقتها تساءلتُ: إذا اضطُررتُ للاختيار بين الإقامة فى عمارة جميلة، تجاورها أخرى قبيحة فأيهما أختار؟! القرار السريع يؤكد الانحياز للجمال، لكن هل يعنى ذلك أن انتقاء البناية الجذابة هو القرار الصحيح؟ لو فعلتُ فسوف أواجه القبح مع كل إطلالة من الشُرفة، والعكس سيحدث إذا اخترتُ البديل الآخر، فإقامتى فى المبنى المشوه، سيجعل عينيّ تعانقان الجمال باستمرار! بالتأكيد سيكون القرار أبسط إذا كانت البنايتان جميلتين، غير أن الحياة لا تمنحنا كل أمنياتنا دُفعة واحدة. فى كل الأحوال ظل الواقع قبل سنوات طويلة يفرض علىّ بديلا ثالثا، هو الإقامة فى كتل أسمنتية، العامل المُشترك بين بناياتها هو غياب الملامح المميزة! وهكذا ارتضيتُ بإقناع نفسى أن الجمال جمال الروح. 

بعيدا عن الفلسفة، سأحاول ألا يمر الشهر دون أن أحقق حلمى، وأزور العروس التى أبعدنى عنها الزمن والانشغال، فالهجْر فى كل الأحوال مؤلم لى، رغم أنها غالبا لا تشعر بافتقادى!

«تكنيك» الذّات المُتضخّمة

ثلاثاء آخر:

ينبعث صوتها مُحمّلا بالرجاء: «اشترونى واشتروا خاطر عيونى.. ريحونى ياللى غويتوا تتعبونى». سرعان ما تتحول نبرة وردة الجزائرية إلى التهديد الصريح: «صدقونى النهاردة انا بين إيديكوا صدقونى.. بس بُكرة هتدّوروا مش هتلاقونى»! الأغنية مُسيّلة للشجن، تنساب فى فضاء صاخب يحيط بالسيارة، فتنجح فى فرض سطوتها على الضوضاء، وتُبطل مفعولها النفسى السلبى. 

كالعادة، تُحيلنى نفسى الأمارة بالشوق إلى الماضى البعيد. ذات شباب كان أبناء جيلى يستحضرون إحساسهم المُتضخّم بالذات، فى مواجهة أية أزمة عاطفية. الهجْر من الطرف الآخر، يُصاحبه تكنيك دفاعى مباشر، يُقنع به المهجور نفسه بأن شريكه الغادر هو الخاسر، أمر طبيعى فكلّنا نعلّق الأخطاء على شماعات الآخرين، دون أن ننتبه أن العيب فينا. فى بعض الحالات، تتنوّع مستويات التعبير فى مواجهة الصدّ، بين مضمون مشابه لأغنية وردة، وآخر أكثر اتساقا مع من يتحسسون بخطواتهم طريق الأدب والثقافة. الأخيرون استعانوا غالبا بشطْر بيت لشاعر أموى لقبه العَرجِى، وهو حفيد الخليفة عثمان بن عفان، يقول فيه: «أضاعونى وأى فتى أضاعوا»، وصارت الكلمات أكثر شهرة من مُبدعها، خاصة بعدما استحضرها شعراء معاصرون وضمّنوها قصائدهم، للتعبير عن إحساسهم بالقهر بعد أن هجرهم أحبابهم. 

«اشترونى وازرعوا بالحب وردة.. اشترونى وغيّروا حب الزمن ده». عبارات تقولها المطربة بسلاسة عذبة، استمرتْ تمدنى بدفقات من الشجن خلال سنوات طويلة. الآن فقط أنتبه لمصطلح «حبّ الزمن ده». هل يختلف الحب من زمان لآخر؟ ربما تختلف طُرق التعبير عنه، غير أن مادته الخام لا تتغيّر من وجهة نظرى، حتى لو لاحقت الاتهامات أبناء كلّ جيل أكثر حداثة، بأنهم لا يعرفون المعنى الأسمى للغرام، فالهوى مُختلف عليه بين أهله، والاتفاق الوحيد بين النهايات السعيدة والحزينة، غالبا ما يكون البكاء على الأطلال!!