«عيد الأب» قصة قصيرة للكاتبة مارا أحمد

الكاتبة مارا أحمد
الكاتبة مارا أحمد

زارتني ومعها كارت صغير وحقيبة هدايا أدخلتها إلى غرفتي، فأنا في حالة صحبة لنفسي اليوم؛ فلقد اعتدت أن أجالسها يوما من كل شهر. كانتا عيناها تلمعان وكأنها تعيش قصة حب، سألتها: لمن تهدين هذا الكارت ومن هو ذلك الفارس؟

ضحكت ضحكتها الناعمة ذات صدى الاتزان النفسي الذي أفتقر إليه: بابي، أبي، بابا، أبويا، أو كما تعودت أنت أن تناديه.

أجبتها: لم أناده.

"إنها كلمات نلوكها؛ تمنح صاحبها صكا؛ للاعتراف به وبمهمته الجديدة؛ وسام من السماء يتمناه الكثيرون".

- لماذا لا تكتبين أنت ما تشعرين به له؟

- أنت شاعرة وأديبة والكلمات صنعتك.

- الكلمات صنعتي، ولكن لا بد أن أعايش الحالة؛ حتى تخرج الكلمات صادقة؛ وأنا لم أختبر إحساس البنوة لأب، عشت ابنة لأم، أعظم أم.

"هناك ألقاب لا نحصل عليها إلا بموافقة السماء، ألقاب معها نكتمل، لتواصل هي كلماتها التي كانت كما قصص نتلوها عن الأساطير".

أبي: كلمة بها يرتفع صوتنا أمام الغريب في شجاعة، بلا خوف؛ فهو في الظهر كما الجدار العازل؛ سند؛ نطلب منه ونتمنى بلا حد أقصى؛ فجيبه كما البنك المركزي؛ لا يفلس، لا جبن ولا قلق، هو هناك يمتطي فرسه في الغرفة المجاورة، على أهبة الاستعداد دوما؛ لحمايتي.

أخط بقلمي ملامحه حتى أستدل بها على فارس أحلامي الذي حتما يشبهه، فهو كما الأبجدية؛ بها نتواصل مع المجتمع والبيئة حولنا، بل والأحلام.

هكذا قالت لي صديقتي عن المترادف لكلمة: "أبي".

أما أنا، قد عشت في بيت؛ غرفته كانت خاوية منه، كرسيه كان شاغرا، وحينما تزورني الأحلام، أراه وقد سرق مني الأمان، غافلني واغتصب مني حصاني، بل وترك فارس أحلامي كما الشخابيط، بلا ملامح، لم ير سوى نفسه، لم يسع ليحقق رغبات إلا رغباته، أنجبنا ثم تركنا لها؛ لتمارس هي دور المعيل والأم الحاضنة، وانصرف هو ليتذوق النساء؛ يتزوج البيضاء فالسمراء فالطويلة فالقصيرة، كان كمن يتلذذ بطعم الفاكهة، يمل سريعا من الالتزام ومن المسؤولية، فيحلق كلما وجد طيرا جديدا بطعم مختلف.

اختزل اللغة في ضمير "أنا" الذي خلا من الضمير، فلم أسمع منه "نحن"، بل "أنتم". كان لا يرى إلا صورته في المرآة، وإن مررنا أمامها كنا كما الشبورة التي تغشى الرؤية؛ فيثور غضبا: "اختفوا من الصورة".

لا يعيرنا أدنى انتباهه، حتى إننا لم نتفوه لا بكلمة بابا ولا أبي ولا حتى أب، فلم ينل منا صك اعتراف به، ولم يمنحنا هو بطاقة هوية، بل سلبناها عنوة.

غريب أن تعيش في نصف وطن ونصف بيت ونصف جسد، غريب أن تسير في الحياة بنصفك مائلا وظهرك منحنيا، تبحث في ذاكرتك العرجاء عن حدث كان هو بطله؛ فلا تجده. غريب أن أختبر الكراهية حين ألتقي بمن يشبهه، من له مثل عينيه أو نفس أنفه. غريب أن أصم أذني حين أسمع صوتا يشبه صوته، غريب أن أسعى لعمليات التجميل لأنزع عن جسدي أي جزء يشبهه.

 ليس غريبا حين أتهجى حروف اللغة لتبدأ ب "ألف"، لتقفز فجأة مجتازة كل الأحرف لتحتضن "الميم" في فخر وعزة. عندها تتراقص الابتسامة على وجهي، وتتوافد كلمات كما معزوفات خالدة ترسم بهاء الربيع والسلام.

لا يحق له صديقتي أن يتقلد شرف الأبوة التي التقاها صدفة، أو أن أمنحه شرف بنوة اتهمها يوما بأنها عارٌ أصابه وقيدٌ يدمي معصمه، فحوّل بيتنا إلى أطلال، لا غطاء يقينا من البرد إلا جلباب أمي؛ التي كانت تخبئنا تحته حتى كبرنا.

أنا ابنة أمي كما المسيح ...

لملمت أوراقها ونظرت لي مشفقة عليَّ، حملت هديتها وغابت، وسؤال بلعته: ما المعجزة في أن نخلق لأبوين ثم نعيش بشق مائل يفتش عمن يسنده ليعتدل ويقف لمواجهة الحياة وهو سوي النفس؟!