أسامة حبشى يكتب : للفراغ رائحة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

تموت الناس ولا تموت السيرة سواء حسنة أم سيئة، ونحن كالزرع إذا لم نتلق الرعاية الصحيحة، ذبلنا مطرحنا، والقرية قلب طفل ينمو على مهل، بيوت هنا وهناك مبعثرة، معروفة بعلامات الأكابر والمشايخ والشهداء، تنتظر زحف السنوات والإعمار، فذلك شارع المدرسة بآخره سكة النصارى، وهذا شارع رضا البقال على ناصيته قبة الشيخ هلال، وذاك شارع الكنسية، والآخر شارع الجامع الكبير، وهكذا..


حدود القرية من الجنوب معلومة بأراضى عائلة الهوارى من ناحية الشمال معروفة بجنائن عائلة النجار الشهيرة، هذه العائلة الأكثر شهرة بسبب أملاكها وأراضيها ومزارعها، وشهيرة بعدد لا بأس به من الأكابر منهم المستشار ومنهم القاضى والدكتور، فقط عائلة الهوارى هى من تنافس أفراد النجار فى الثروة، وما بينهما الكل يحاول صنع ثروته الخاصة سواء بامتلاك فدان هنا أو هناك أو حتى بامتلاك أكثر من فدان، وبالرغم من فارق الثروة الضخم إلا أن كبار وأطفال العائلتين الكبيرتين تعمدوا التواضع، وكان الكل فى الصلاة والأعياد وفى الشوارع يتبادلون التحية بدون ضغينة ولا حقد ولا مورابة فى المشاعر، دارت السنوات وكبر الأطفال، وتفرعت العائلات والبيوت قليلا، وانقسمت بيوت عائلة النجار، صحيح ما زالت الأرض ملكا للجميع، ولكن تفرقوا فقط فى المسكن وبنى كل منهم «فيلته» بجانب الآخر حوال القصر القديم.

اقرأ ايضاً|عهود حجازى تكتب : الطبق الفارغ


الأستاذ طه ناظر المدرسة وكبير عائلة النجار فضل البقاء فى القصر القديم مع زوجته هانم الهوارى وأولاده وفاء البكرية، ومحمد أكبر الذكور ثم أحمد والأصغر محمود، طه يهوى الزراعة ويتابع المستأجرين والجنائن والمزارع وبنهاية العام يحاسب إخوته ويعطى كل منهم نصيبه بالعدل دون نقصان.

وهكذا دارت بينهم السنوات بينما يكبر الأولاد، ثانى عائلة النجار هو سيادة المستشار على الذى كان كريما وبشوشا ورزقه الله بولد وحيد هو أيمن، ومع ذلك كان خدوما لو لجأ له أحد طمعا فى وساطة لابنه بغرض الالتحاق بكلية عسكرية أو شرطية أو حتى طلبا يخص توصية للتعيين فى النيابة، وكان يقول دائما: «كلنا أسباب يسببها الله، فلم لا نساعد بعضنا البعض» والحقيقة أن سلوك سيادة المستشار مع طيبة حضرة الناظر زاد من محبة وهيبة عائلة النجار لدى قلوب كل أهل القرية والقرى المجاورة أيضا، أما القاضى رجب الذى رزقه الله بذرية من النساء فقط فقد كان منطويا و«براويا» قليلا ومندفعا ولا يخالط أحداً وقيل إن ذلك بسبب «خلفة البنات» دون ولد، وقيل بسبب طبيعة عمله.

وبالفعل بعد فترة من الزمن وعندما بدأت بناته فى الزواج وعندما شعر بالوحدة قليلا خصوصا بعد وفاة زوجته الدكتورة هند وبعد وصوله سن المعاش أخذ نصيبه واستقر فى القاهرة بمدينة السادس من أكتوبر، أما رجب الدكتور فقد ناداه الخليج ولم يعد حتى عندما تزوج أخذ زوجته معه ورزقه الله هناك بولدين هما جمال وجميلة.


القرية تتغير بسرعة البرق، والزمن زحف من نهاية الستينات ووصل بداية الألفية الثانية، وهلت أموال الخليج على أهل القرية، وزادت نسبة التعليم، وشاخ كبار عائلة النجار وكذلك كبار القرية بشكل عام، كبر الأولاد وبدأ كل منهم يمسك بزمام أمور أسرته، مات طه ومرضت زوجته هانم، وفاء تزوجت وخلفت وذهبت لمنزل زوجها سعيد الهوارى ومحمد الكبير بعدما التحق بالكلية الجوية وبات طيارا شهيرا ولم يتزوج، نال حتفه غدرا فى سيناء من عملية إرهابية، وتم وضع اسمه على مدرسة بالقرية، وأصبح أحمد الابن الأوسط خريج كلية التجارة تزوج ورزق بأربعة أولاد وكحال أبيه بات مشرفا على أملاك الجميع، ومحمود الذى تزوج وخلف بنتا كان بالبلسم طيب اللسان حلو الحديث، لا يطمع فى شىء.


مرت سنوات قليلة وبات الحاج أحمد شهيرا والكل يقصده إذا تعذرت الظروف أو كلما زادت الحوائج على الناس، ولكن الشيطان شاطر، هب الغرور على الحاج أحمد كما هب على إبليس، والغرور خطيئة الإنسان العظمى، وزحف العمار على أراضى العائلة، وبدأ الحاج أحمد فى إمساك الملايين عقب بيع جزء كبير من الأملاك الزراعية التى تحولت لأرض بناء، راحت الجنينة الشهيرة بعدما بيعت أجزاء وكذلك راحت مزرعتا الدواجن، وراح القصر بعدما قسمه أحمد مع أخيه وأخته، وكل بنى عمارة كبيرة فى نصيبه، وراحت للأبد معالم القصر القديم الكبير.


 بدأت شهوة الحاج أحمد فى اقتناء أحدث موديلات السيارات، لدرجة أنه امتلك تسعة عشر موديلا نادرا من السيارات الفارهة، وبات ينفق ببذخ على حاشيته، وحاوطه السماسرة، ونصب له الفخاخ أهل السوء، لم يستمع لنصائح أو لشكوى أخيه محمود ولا لأخته الكبيرة ولا لأولاد أعمامه وأخواله، كان فى الماضى الكل يثق فى الكل، وكان الميراث آخر ما يتحدث فيه أفراد عائلة النجار.

ولكن الآن بدأ الصراع على الميراث بسبب سلوك أحمد، الذى دخل فى عداوة مع الجميع، ووصل به الغرور لبيع ما ليس يملكه، واكتشف الأمر وتوالت القضايا والاتهامات، وحاول كبار العائلة لمّ الأمور ولكن الشيكات التى وقعها أحمد وصلت لمئات الملايين، بيعت السيارات كمحاولة لسد العجز ولكن لم تكف، أصبح أحمد سجينا وبانتظار أحكام بعشرات السنوات لا يعلم أحد كيف ستنتهى إلا الله.


وكما تغير شكل القرية وراحت الغيطان تختبئ تحت جدران الأسمنت وتحت عجلات التوك توك والمقاهى، والعمارات الشاهقة، راحت أملاك وهيبة عائلة النجار، كلهم ما عدا محمود وأحمد المسجون تركوا القرية بغير رجعة وبقيت فيلاتهم وبيوتهم خاوية على عروشها.