د. أشرف غراب يكتب: يا عزيزى.. أنت القمة

د. أشرف غراب
د. أشرف غراب

أعراف بالية تلك التى تعوَّدنا عليها ونعيش واقعها الأليم منذ زمن، من أن هناك كليات للقمة وأخرى للقاع، بل إنها حقًا مفاهيم مغلوطة، وثقافة جماعية مجتمعية مُقيتة ما رأيناها فى بلدٍ عربى أو حتى أجنبى، تبحث عن تبديلٍ وتجديدٍ ووجب علينا اليوم قبل الغد أن نُغيِّرها ونمحو ذكراها، لكونها عفا عليها الزمن ولا تصلح لعصرنا.

ما إن تنتهى مراسم الثانوية العامة أو الأزهرية وتُعلن النتائج، إلا ونفاجأ بالشىء وضده فى آنٍ واحد، سعادة تصل إلى حد الإسفاف والمُبالغة، فتُشاهد عناقيد الأموال تتدلى على طالبة، وسيارة ماركة حديثة يجرها سوبر مان زمانه، وفى الوقت نفسه، عويل وصراخ وبكاء كبكاء التى مات زوجها وتركها بلا عائلٍ يعولها، فتسمع عن واقعة انتحار هنا وأخرى هناك، ومقاطع فيديو تُبث على الميديا لحلق الرأس ولطم الخد، والتضرع للسماء الإتيان بالحق ممن سلبه ونهبه. 

عزيزى الطالب لماذا إلى الآن تستهويك نغمة المجموع وطربه ولم يستميلك لحظة لحن المستقبل واحتياجاته؟ أوليس لك هواية تُجيد العزف على آلتها مُنفردًا، وتُحلّق فيها بجناحيك وحيدًا، وتعلم يقينًا بأنك سوف تُؤدى فيها أفضل من غيرك بجِدك واجتهادك وعِشقك لما تصنع، جاعلًا الوظيفة تبحث عنك، والمهنية تُلازمك، والأصابع تُشير إليك فى فخرٍ بأنك قمة فى حد ذاتك، ولست بحاجة للتمسُّح فى أى قمة؟

إن التحرُّر من عبودية المُسميات مطلوبٌ، لا ينبغى الطواف حول أصنامٍ صنعها غيرنا ويتوجَّب علينا عبادتها، وحين نُسأل عنها نقول كما قال الضالون من قبل "نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون"، لأن ذلك مستقبلًا بمعايير الماضى الذى اندثر فى عصر الحداثة، وبعثًا لمسميات لا تصلح لجيل الشباب وعالمه الجديد المتمدن بطبيعة الحال.

كثيرون أصبحوا ذوى مكانة فى تخصصاتهم لم يكونوا أبدًا فى كليات قمة، إنما كانوا من عباقرة الاجتماع، وفطاحل اللغة، وأئمة التفسير والحديث الذين دوَّنهم التاريخ بمدادٍ من ذهب، لقد أحبوا ما برعوا فيه، فجاهدوا واجتهدوا ووصلوا بعلومهم إلى شتَّى بقاع الأرض، يذكرهم الناس فى كل محفلٍ علمى، ويُثنى عليهم تلاميذهم فى دروسهم التربوية، ويستشهدون بهم فى حلقاتهم النقاشية وحُججهم المنطقية، رغم رحيلهم عن دنيانا منذ قرون.

لقد فرض علينا الحاضر شروطه ونبَّهنا لما يُطالبنا به المستقبل، والذى أصبح لازمًا لا انفكاك عنه، من حياة رقمية تكنولوجية حديثة ومتطورة، وأوعزت إلينا الحاجة بتعلُّم الحاسوب ومهاراته، للتواصل عن بُعد فى بيئةٍ مليئة بالأوبئة والجوائح، وبلدانٍ تبعد مسافات عن جارتها، لكن العلاقات والمصالح بينها جمعتها على سفرة واحدة، فى كرة أرضية أضحت قرية صغيرة، تُحدِّثنى وأُحادثك وكأننا نجلس سويًا بمكان وزمان واحد.

عزيزى الطالب، ماذا لو علمت أن الأماكن داخليًا وخارجيًا تنتظر أُناسًا ليسوا من كليات القمة، اللهم إلا القليل منها، ألا تدرى أن التجارة عصب رأس مال الدول وقمة اقتصادياتها؟ ألا تعلم أن إجادة اللغات يُسهِّل علينا التعامل مع السيَّاح والترويج لمعالمنا السياحية، كما أن الدبلوماسية المحترفة وسيلة التواصل مع الآخر وعقد الصفقات معه؟ ألم تسمع أن الأئمة مشاعل تنوير لمواطن الجهل والظلام وعقول الرجعية والضلال، وأننا نُرسل البعثات العلمية تلو الأخرى لأقصى مشارق البسيطة ومغاربها لتفقيه الناس بأمور دينهم ودنياهم؟

أخى، أختى، ابنى وابنتى،  ليس مثلك من يترك مكتب تنسيقٍ يُرسل به كما تُرسل الريح الورق، أو يأخذه الهواء إلى حيث لا يعلم ويُلقى به، بل اختبر قدراتك، ثم صوِّب وجهتك، فقد تصنع فيما تُحب، وإن كان بالكليات الدنيا، ما يُمكن إيجاده وأكثر فيما تُسميه وغيرك قمة، كن مُرشدًا لقدميك فى خطواتك، ومصباحًا مُضيئًا لعقلك فى قراراتك، فالنماذج حولك كثيرة ورائعة، وقد فعلوها قبل أن تجىء أجيالٌ قبلك، فاتخذهم قدوة تُحتذى، تُصبح بلا شك مثيلًا لهم، فالعدوى من الناجح نجاح.

أيها الآباء الكرام، اتركوا المجال فسيحًا لأبنائكم، لا تكونوا عُقدة الخواجة فى طريق مستقبلهم، الحرية ثم الحرية فى اختيار المستقبل، ووسائل الضغط والتقييد قد ترتد عكسًا ويقع ما لا يُحمد عقباه، ادعموا أولادكم بالكلمة المُحفِّزة للنجاح، وتغاضوا عن لغة اللوم والعتاب والنظر للخلف بعين المُغيّر للمحال، لا أحد اليوم يعيش بعقلية الآخر إلا الذى أُصيب بالتوحد، ونحن بشرٌ خلقنا الله مختلفين فى كل شىء، حتى فى العقول.. حفظ الله شباب مصر، ووفقهم فى قابل أيامهم، وجعل مستقبل هذا البلد مُزدهرًا على أيديهم يتغنّى بهم.