يوميات الاخبار

أنا الوطن

سمير الجمل
سمير الجمل

سمير الجمل

قال: لأنى أحب مصر وأهلها لأنها بلدة معافاة من الفتن وأهلها أهل عافية فهم بذلك يعافون ومن أرادها بسوء كبه الله على وجهه وهو بلد مبارك لأهله فيه

أنا الوطن.. لست قطعة من الأرض ولدت عليها وتعيش فوقها وما انا بكلمة تهتفون لها بقلوب فارغة.. أنا كائن حى أستمد قوتى من ابنائي.. يتعلقون بى وأتعلق بهم.. أبادلهم حبا بحب حتى ارتفع بهم فوق المحن والشدائد.. وبقدر ما يحملونني فى قلوبهم وعقولهم أحملهم فى نن عينى.. بينى وبينهم ذلك الميثاق الغليظ.. بأن نكون معا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.


سألت التاريخ:
− ماذا تعرف عن بلادى؟
تبسم من قولى ضاحكا وكان جوابه:
− وكيف لى أن أتكلم عن البلد الذى سبق ميلادى..
ولما وجد علامات الدهشة والعجب على وجهى.. نهض، نحو مكتبته وعاد إلىَّ بكتاب (فجر الضمير) الذى كتبه (چيمس هنرى بريستد):
فى البدء كانت مصر.. قبل الزمان ولدت.. وقبل التاريخ هنا بدأ كل شىء.. الزراعة.. العمارة.. الكتابة.. الورق... الهندسة.. القانون.. النظام.. الطب.. الحكومة..


وهكذا جاء الرد من المفكر الكبير حسين مؤنس.. وهنا قبل كل شىء ولد الضمير وآه من هذا الضمير.. ذلك الوازع الداخلى فى كيان الإنسان الذى ينبهه إلى الخير ويحذره من الخطأ ويحاسبه حسابا داخليا صامتا وعلى أساس الضمير ظهرت الديانة المصرية القديمة.. وكان المصرى القديم أول من أدرك بالفطرة حقيقة البعث والحساب.. وتحول من الهمجى فى أحراش الغابات.. إلى انسان يفكر ويتأمل ويكتب ويحاسب نفسه..
هل تعرفها
المسافة واسعة بين من يغنى لها ومن يغنى عليها.. وبين من يوظف قدراته لنفسه وبين من يجتمع الخاص والعام فى قلبه وكيانه فهو يعرف ان الطريق إلى الوطن لابد أن يبدأ من الوطن.. نحن نعيش على هذا الكنز الربانى من ارض وسماء وتاريخ.. وتنوع.


ويدهشنا الدكتور حسين مؤنس عندما يؤكد قائلا: فى قلب المصرى القديم وفى بيته ومدينته وحقله.. فى أرضه وسمائه وجدت «معات» رمز الضمير والإحساس الانسانى والقانون الأخلاقى و«معات» هى ما نسميه اليوم بالمروءة الانسانية والحب والخير والعدالة والفضيلة.. وكلها اكتشفها المصرى القديم وهو يعمل فى حقله وينظر إلى السماء الزرقاء ويستعطف الشمس الحامية ويعانق النبات الأخضر الطالع..


ومن هنا وصل المصرى القديم إلى أعظم اكتشاف فى التاريخ عندما اكتشف انه انسان وان هناك فرقا بينه وبين الحيوان.. فلا تنازع على البقاء لكن التعاون للبقاء.. لا قتل لا ظلم ولا عدوان.. بل حب وتعاون واخاء.. وهذا هو سر الاسرار الكبرى فى الحضارة المصرية القديمة التى حيرت البشر.. قرون تجرى فى إثر قرون.. عوالم تولد ثم تموت ومصر هنا فى مكانها تبنى وتنشيء وتعمر وتكتب وترسم وتنشر وتصلي.. وتتألق وتتوهج وتخبو ثم تعود لكى تتألق وتتوهج فى حكاية جميلة من ألف فصل وفصل.. منها ما مضى ومنها ما هو حاضر ومنها ما نسميه المستقبل.
وقد روى عن الصحابى أبو بصرة الغفارى انه قال: مصر خزانة الأرض كلها وسلطانها سلطان الأرض كلها وقد قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام «اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم».
وقال كعب الأحبار: لولا رغبتى فى الشام لسكنت مصر فقيل ولم ذلك يا أبا إسحاق؟ قال: لأنى أحب مصر وأهلها لأنها بلدة معافاة من الفتن وأهلها أهل عافية فهم بذلك يعافون ومن أرادها بسوء كبه الله على وجهه وهو بلد مبارك لأهله فيه.


أنا الفنان .. أنا الصانع
فى مصر القديمة ارتبط الفنان بالصانع.. والمثال الذى صنع تمثال شيخ البلد من الخشب أو نحت تمثال «تي» من الحجر الجيري.. كان ينتمى الى طائفة مقاولات بيوت النومة الأبدية التى عرفت فيما بعد كواحدة من أفرع نقابة الحانوتية المتخصصة فى إعداد وتجهيز كل راحل حتى يستقر به المقام فى موضعه النهائى لا صوت لاصورة لا حركة لا أنفاس وقد انتقل من دار الفناء الى موقع البقاء.
الصنعة بدأت أولاً ثم انطلق بها الفن.. لكى تتطور ويحدث فيها.. الابتكار والتجديد.. وظل «الأسطى» هو الصانع الماهر الذى اختطفه الأتراك يوما ما.. لكى يعلمهم.. ثم بدأت بصمات الفنان تعلن عن نفسها.. عندما دخلت الكتابة على الخط.. واتسعت الدائرة..


حتى أصبحت الفنون ذاكرة كل أمة.. وبطاقتها. أو رقمها القومى الذى يدل عليها.. وقال القائل: انه أمنها الاجتماعى والروحى الذى يحفظ عليها تقاليدها وأعرافها. ويأخذ بيدها إلى مستقبلها.
فهل أبدع فنان هذا العصر.. وعينه طوال الوقت على وطنه.. أم أنه تفرغ للسبوبة وتحول إلى حصالة يجمع المال من الاعلانات والبرامج والفيلم الساذج والمسلسل الفارغ والأغنية منزوعة الروح والمشاعر.. حتى أن الناس قبضت على الأعمال الفنية الاستثنائية
وكادت تضع لها التماثيل وتقيم لها الأعياد.. فهل رأيت ثم رأيت.. ما جرى مع «الاختيار» بأجزائه و«الممر» وسلسلة الأعمال المخابراتية التى تكشف لنا كيف كانت عين الوطن موجوعة وقد اصابها رمد عصابات الاخوان واعوانهم.. فيما كانت قلوب وعقول أجهزة الأمن مبصرة.. أمينة على أسرار البلاد قابضة عليها بشجاعة نادرة.. وهى كتلة من اللهب لو تعلمون عظيم..


تميزنا عن غيرنا.. بصناعة الفن والأدب.. وفن الصناعة والاتقان.. وعندما تحولت الغالبية العظمى من أهل الفن الى مندوبين مبيعات.. وتحول كل من يمسك فى يده بالشاكوش والأجنة الى أسطي.. وهرب بلية من الورشة الى التوك توك.. لكى يسترجل وهو مايزال فى المهد صبيا.. وكانت الرجولة عنده سيجارة وبلطجة وصخب ومهرجانات لا تفهم أولها من آخرها وهناك من يدفعونهم الى صدارة المشهد والاستحواذ على الضوء.. حتى يصبح القبح موضة وتكون الرذالة والسماجة اسلوبا للحياة وتختلط مظاهر الرجولة.. بدلائل الأنوثة.. الشاب الطري.. والآنسة «الدبشة».. إلا من رحم ربى وظلوا على ضبط المصنع الإلهى العظيم الذى خلق وصور فأبدع سبحانه وتعالى.. حتى هبت اسلحة البوتكس والتدبيس والشفط والنفخ.. تبارز الخالق فيما خلق. وهو الذى كرم الإنسان على سائر مخلوقاته.. فإذا ارتقى وتسامى وارتفع اقترب من الملائكة.. واذا هبط وتدنى وانحط.. اصبح الى الحيوانات أقرب وقد استبدل عقله.. بشريحة 4G أو كارت ميمورى وعاش عبداً للهارد ديسك.
رسالة
يامصرنا الكريمة العظيمة السخية البهية..
نسأل الله أن نعرف قدرك حق المعرفة.. وأن نبلغ مستوى شموخك وكبريائك وعظمتك وخيرك ومكانتك ومكانك ايها البلد الذى منح القادة مجدهم وتاريخهم الاسكندر الاكبر وعمرو بن العاص وصلاح الدين الايوبى ونابليون.. انت من صنع تاريخ هؤلاء.


ايها الوطن الكريم.. الذى احتوى الغنى والفقير.. والقوى والضعيف والطيب والشرير.. والصالح والطالح.. والقريب والغريب.. ولم تبخل على أحد بشيء.. حتى نبلغ مستوى كرمك وانسانيتك ونسجد شكراً لله على هذه النعمة التى خصنا بها.. ونكون على مستوى هذه النعمة وقد قدرناها حق قدرها !


أخلاق الأمم
الحضارة فى جوهرها أخلاقية.. ومشكلة الحضارة أخلاقية.. وقد قال الفلاسفة: ان الانسان لن تكون له قيمة حقيقية بوصف شخصية انسانية الا من خلال كفاحه ليكون على خلق عظيم فإذا افتقد الأنسان الأخلاق تداعت الحضارة مهما ارتفعت وعلت وهو ما جسده أمير الشعراء أحمد شوقى فى أبياته الشهيرة:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه.. فقوم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم فى أخلاقهم .. فأقم عليهم مأتما وعويلا
وعندما أراد المفكر الأمريكى يهودى الأصل «مايكل هارت» أن يبحث عن أكثر الزعماء والقادة والفلاسفة الذين أثروا فى الانسانية سلبا وايجابا لم يجد أفضل من − خير خلق الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. ليكون على رأس القائمة وكانت حيثياته فى ذلك انه صاحب الخلق العظيم كما وصفه ربه سبحانه.. وكما قالت عنه أم المؤمنين عائشة رضى الله عنه.. «كان قرآنا يمشى على الأرض».. وهو الأمى الذى لم يقرأ ولم يكتب ولم يغادر الصحراء فى الجزيرة العربية.. لكنه صنع الدولة الكبرى التى امتدت شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.. بالحكمة والموعظة الحسنة ووصل بالاسلام إلى أبعد مدى. وصنع كل شيء من لا شيء.. وعندما طغت الامبراطورية الرومانية وتفشى فيها الانحلال والفساد.. انهارت وتلاشت.. وكانت سيدة الدنيا فى وقت من الأوقات وقد بشرت أمريكا عام ١٩٩٩ فى كتابى الذى أصدرته بعنوان: «باى باى امريكا.. شهادة وفاة دولة».. لانها وراء كل حرب أو فتنة تبيع السلاح للقاتل والقتيل.. هى من تنفخ فى نيران الصدام والخراب وهى من تنادى بمؤتمرات إعادة الأعمار..
تتحدث عن حقوق الانسان وتاريخها الأسود فى ذبح ومسح تاريخ الهنود الحمر. ثم الزنوج.. مايزال شاهدا على عنصريتها.. مهما تجملت وكذبت على نفسها وعلى العالم من حولها وهى تضع أنفها فى كل كبيرة وصغيرة وتريدها دنيا لها فقط دون سواها.