ممدوح رزق يكتب : ذاكرة بيضاء: الصراع بين الكلمة والظل

ممدوح رزق يكتب : ذاكرة بيضاء: الصراع بين الكلمة والظل
ممدوح رزق يكتب : ذاكرة بيضاء: الصراع بين الكلمة والظل

ثمة ارتحال تومئ بضرورته المجموعة الشعرية «ذاكرة بيضاء» لمؤمن سمير الصادرة عن هيئة الكتاب رفقة «الكلمة» والظل». فى باطن الصراع اللامتناهى بينهما. ذلك لأن كلًا منهما منسوج من عتمة الآخر؛ فكيف لا يقوى أحدهما إذن على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر؟


«الدموع يا صديقى جملة منسية فى جيب فنان غامض وشفيف، خطفها مجنون وألقاها فاستقرت فى ذلك القلب الذى يحيا على الخوف والنسيان .. عبارات مثل هذه تجعلنى أعيد النظر فى أشيائى القريبة والبعيدة: أليس من الممكن أن تكون أقنعة لقنابل قد تمزق أمى وتحرق صوتى وسجادتى التى اختبأت فى نقوشها لأنجو من الزلزال؟».

اقرأ ايضاً|إدوارد سعيد وثورة الفكر النقدى


تمنح قصيدة «عجوز يغفو وسط الكلام» تعريفًا للدموع: «جملة منسية فى جيب فنان غامض وشفيف». لماذا «جملة» تحديدًا؟. لأن «الفنان» نفسه هو بنية «كلامية» متعالية. غيب من الكلمات. الجملة المنسية «الدموع» هى دليل غموضها وشفافيتها. لكن «الغموض» لا يؤشر لسمة «الكشف» فى «الشفافية» وإنما إلى «التجريد». إلى النقاء من «التجسد».

 

لذا؛ فالبنية الكلامية المتعالية «الفنان» محصنة بما يتجاوز اللغة ذاتها. لا تتسق معها «الدموع» فتصبح «نسيانًا». لكنها تلاءم «القلب»، وفى هذه الملاءمة تتحوّل من «جملة منسية» إلى «لغة الحياة والموت». يحاول «الكلام» إعادة اللغة إلى غيبيتها، أى أن «يسترد» المتكلم كينونته كـ «فنان» دون «جيوب تحمل جُملًا منسية دموعاً». إعادة اللغة إلى غيبيتها أى إزاحتها تمامًا من قلب المتكلم. بهذه الكيفية تُخلق مسارات العمل لتفسير غموض «الفنان»، لحل لغزه «التجريدي»، لتقمصه كمطلق، للتوحد بشموليته المبهمة وتقويضها، لكشف السر الأزلى للدموع كـ «جملة منسية». كيف يفعل المتكلم ذلك؟ بنزع الأقنعة عن الأشياء القريبة والبعيدة. الأقنعة التى تُضمر الهلاك وراء وعدها المحتمل بأمان ما.


«ألا يصح أن تكون يد أبى التى تُحكم الغطاء من حولى وأنا أتظاهر بالنوم هى صاعقة الله  الذى مل من ضجيجنا وبكائنا».
التفكير فى «صاعقة الله» تحفزه «يد الأب» تحديدًا، وفى لحظة العناية بالابن على الأخص، مقترنًا هذا التفكير بـ «الضجيج والبكاء» باعتبارهما سببًا للملل. توليفة عدائية تزعج وحدة «الفنان». نلاحظ «هي» الإثباتية فى منتصف الطريق الذى تقطعه «اليد» نحو التعرى كـ «صاعقة». الطريق الذى يقطعه «الأب» نحو «البطش المجرد». المتظاهر بالنوم إذن هو مصدر الضجيج والبكاء. الذى لا يتعلق ضجيجه وبكاؤه بأبٍ تقليدي، وإنما بـ «فنان» يريد أن يمارس عمله فى هدوء.


«أنفخ وأشمّر وأقول لنفسى أنا قادر بما يكفى ثم أبدأ بتكسير الجبال وإزاحتها من على صدرى وكأنها سماوات من الدخان .. لكننى للأسف، أغفو كأى عجوز فى وسط الكلام، فتتسرب جبال أخرى بدالها واسمها الظلال .. ليس فى غرفتى إلا الظلال.. تتناسل بهمة وتملأ حائطًا وحائطًا والحوائط لها عيون والعيون لا تشغلنى بما تراه ولكنها ترعبنى بكل ما تقبض عليه ثم تصر ألا تحكى .. حتى فى ليالى الشتاء».


يستعمل «المتكلم» لغته فى تكسير «الجبال» أى ما ستسمى مع كل انتباه متكرر «ظلالًا». كلماته مغلقة على تفككها الاستباقي، أو ما يتقدم على أى محاولة لاستعمال اللغة، وحين تعلن عن ذلك فإنه سيتمثل كـ «غفوة». يدرك المتكلم أن «الجبال» ليست إلا كلمات أيضًا أى ظلالًا متنكرة فى صورة أثقال حسية يمكن هدمها. يستخدم ما لا يُلمس لإزاحة ما لا يُفهم. نتذكر؛ كل منهما منسوج من عتمة الآخر. تحاول «الكلمة» أن توظف حطامها الأزلى فى تقويض «الظل». الظل المصنوع من حطام الكلمة ويتناسل بتوالد دلالتها الاحتجازية المنسجمة مع الحوائط. اللغة المعطوبة تسعى لانتهاك صمتها المتعيّن فى الظلال. تريد بـ «سردها» أن تستنطق «السرد المحتجب» لأشباحها.

لماذا تريد ذلك؟ لأن العيون الخفية للظلال تنتمى لذلك الفنان الغامض الذى (لا يتكلم)، والدموع جملة منسية فى جيبه. لأن ثمة رغبة غريزية لدى المتكلم فى تغيير اتجاه «الصاعقة» نحو «حقيقته». لكن بما أن هذه الحقيقة تظل كامنة فى «الظلال» أو أنقاض وأشلاء اللغة؛ فإن الصاعقة لا تفارق «الكلمات» المتناثرة فى «ليالى الشتاء» دون أمل فى القبض على «حكايتها المخلصة» أى على ذلك «الدفء» الإعجازى الذى لا تناله «غفوة».
«بقعة دم وجدتها على الحائط فى بيتي
بقعة تنبض، كبيرة وطازجة
تقول كلامًا مختلطًا
ثم تزفر بملل وتزووم..».
فى قصيدة «ذائقة الحروب» يتخذ الظل شكل «بقعة دم» فى مكانه اللائق والمعتاد كما فى قصيدة «عجوز يغفو وسط الكلام»: الحائط. ومثلما كان الحال فى القصيدة السابقة أيضًا يكشف الظل فى صورة بقعة الدم عن كونه «كلمات مفككة»: «تقول كلامًا مختلطًا»، وبالتالى فالمتكلم يتساءل أيضًا عن سرها. بقعة الدم مكوّنة من لغة السؤال؛ لذا فبقعة الدم والسؤال منذورين للبقاء كلعنتين من الخام الغيبى نفسه، يتجابهان بمشيئته حيث «لا يقوى أحدهما على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر».
«ردهتى العجوز
التى أكلت العناكب آخر ظلين ارتعشا فيها،
كيف تصلح لألغام ستنهشها الرطوبة فى الأعياد ..
أو لدبابة تتوه تحت النافذة وتنسى ماذا كان اسمها بالأمس
أو لصاروخ يحب اللعب مع الفراشات المختبئات فى فستان أختي؟
ثم أن أسرتى قديمة هنا
جاءت من المجهول مبكرًا
قبل أن تستيقظ الأشباح وتتمطى..».
يحشد المتكلم ما يظنها مبررات «منطقية» للحصول على الإجابة: الردهة ـ العناكب ـ الألغام ـ الدبابة ـ الصاروخ؛ يحشد ما يجربه ويختبره، ما يعتقد أنه يعرفه، ذلك لأنه يتحدث عن نفسه: «بيته ـ أخته ـ أسرته»، أى الكلمات التى يتصورها ليست مجرد كلمات، فى حين لا تتوقف بقعة الدم الظل عن إثبات كونها كذلك. لهذا لا يتعلق الأمر بالحصول على إجابة فحسب، وإنما، على نحو أكثر مراوغة، بالاحتياج القهرى لدفع ثمن عدم الحصول عليها، بالمقابل «العادل» لخراب اللغة الذى يمنعها من أن تصل بـ «المتكلم» إلى الحماية الأبدية من شر «الصمت» الرابض فى المطلق. هل تمثل «الحكاية التى تُربى فى الخيال» تعويضًا فى حد ذاتها للعجز عن اغتنام هذا الثأر؟ ليست الحكاية نفسها، وإنما الوعى بالصدوع البدائية التى تؤلف تفاصيلها. الوعى الذى  هكذا ـ لن يجعل الحكاية بديلًا للثمن الذى لم يُدفع، وإنما سيجعلها الثمن نفسه.
«تقبلى أيتها الروح شكرنا
وعرفاننا الصادق
لكل من يموت فى الجدران منذ الأزل
ويعود يبتسم كل حين».
كيف يمكن تأويل «الألفة» التى تتسم بها علاقة المتكلم بالكلمات؟ الألفة التى تستند حتميتها إلى الظلال؟ إن «الألفة» مسايرة إجبارية لما لا يمتلك المتكلم «يقينًا» مغايرًا له. ما ليس فى وسعه سوى أن يعتبره يقينًا. «الألفة» هنا ليست امتنانًا للحياة بقدر ما هى سعى للاختباء من الموت. من الفناء الذى تنتهى عنده «الكلمة» كـ «ظل». من هنا ينشأ ويعيش ويتجذر شعور كالحنين. التشبث بماضى الظلال حين كانت كلمات. حين كان المتكلم مازال يقاوم الإدراك بأن الجبال لا يمكن تكسيرها.
«صحوت فوجدت خبزًا قاسيًا
قطرت دمى وغمسته
وانتظرت..
فى الردهة قابلت ظلًا تائهًا
فاختبأت حتى وقع فى الفخ
ثم أسلمته للشيطان».
يعيد مؤمن سمير فى قصيدة «أشواك تنبض للآن» التأكيد على الكيفية التى يتحوّل به تفكك الكلمات / صدوع الحكاية إلى ما يشبه احتفالًا بما لم يحدث. بالوجود الغيبى الذى حُرم المتكلم من أن يكونه. «الظل التائه» يسلّم للشيطان، «اللغة المتهدمة» تُدفع نحو أيدى «المروق فى ذاته». المصير المستحق للحكمة. هنا يصبح «الشر» أساسًا لفضيلة مضادة. فضيلة فاضحة لخداع المعجزات. يستطيع المتكلم حينئذ أن يتفاخر بإثمه من حيث اعتباره «خيرًا مناقضًا» تقوده السخرية من المبررات والتدابير «المثالية» للقدر. يستطيع أن يتفاخر بذنبه من حيث اعتباره «كرامة استثنائية» يجدر بألمه أن يتوّج بها.
«طلعت نخلة وقالت أنا أمك
ثم تنهدت ودثرتنى بالأشواك
كى أقوم من الأموات وأصعد
قبل أن يهبط حول بيتنا 
البرصان والمجذومون
وتحوطنا الغيمة الطيبة..».
إن صراع «الكلمة» و«الظل» فى قصائد مؤمن سمير هو ممارسة «محو» ينتظر المتكلم نهايتها؛ اللحظة التى ينتهى كل منهما من طمس الآخر فلا يبقى بعدها سوى ما قبل الحياة وما بعد الموت. ما خسره المتكلم قبل أن يختطفه الزمن، وما يستعيده بعدما ينفلت من أسره. صراع «الكلمة» و»الظل» هو مطاردة «ذاكرة بيضاء».