تامر عفيفى يكتب : طرق أخرى

اللوحات للفنانة: نيڤين فرغلى
اللوحات للفنانة: نيڤين فرغلى

حاد الميكروباص عن الطريق المسفلت وأوغل فى طرق جانبية ودروب بين الغيطان والقرى، أغلقنا النوافذ متحاشين تراباً كثيفاً، لم نكن وحدنا، تبعتنا سيارات أجرة وملاكى. 
كل يوم نفس المشكلة، الطريق مقفول من المرج ولحد نزلة قليوب.


 كانت المرة الأولى لى، لا يغامر كثير من السائقين بسياراتهم الحديثة فى مثل هذا الطريق، كل شىء حولنا مظلم، الجو خريفى منعش، لولا هبات التراب الذى تثيره السيارات، تبدو الأشجار قريبة وغامضة فى الليل، ونحن نعبر جسوراً ومدقات ضيقة فوق ترع وخلجان صغيرة، ونلمح انعكاس أضواء بعيدة فوق مائها الراكد.

اقرأ ايضاً| سعيد سالم يكتب : دراما الحياة المطلق والنسبى

 

وعند مشارف القرى نرى مقاهى فقيرة على الجسر، ورواداً يتابعون مباراة كرة قدم، جماعة صغيرة تغادر منزلاً كبيراً، حلقة ملتحين بجوار مسجد، محلات هدايا وإكسسوار موبايلات، ورش إصلاح سيارات وموتوسيكلات، شنيش فاكهة، بنات بمكياج ثقيل، وسيدات فى عباءات سوداء ضيقة وأولاداً يركضون. 


 أصعب ما فى الأمر أن السائق يسمعنا أغنيات فجة لمؤدين أصواتهم خشنة وقبيحة، وأن لمبات السيارة بالداخل مطفأة، فلا أنا أقرأ ولا أنعم بالهدوء، بدت وجوه الركاب مرهقة وشاحبة بعد يوم عمل طويل، ورحلة عودة شاقة، بعض هذه الوجوه أعرفها من خلال رحلة العودة من العمل، أغلبنا يلتقون فى موقف العاشر، القادمون من مدينة نصر أو جسر السويس، ومصر الجديدة والعبور ومصانع العاشر من رمضان أو السويس، أو المجندون والقادمون من الشرقية وطريق بلبيس، كل مواصلة قبل موقف العاشر لا تقل عن ساعة، بمشكلات الزحام والتكدس، دخان المصانع وعادم السيارات وأبواقها العالية والإرهاق والجوع رسموا على الوجوه أقنعة شاحبة مريضة تبتسم رغم كل شىء وتهون على نفسها الطريق حتى تلحق بأى ميكروباص فتتثاقل الرؤوس وينامون وهم جلوس، بعدما اطمأنوا لوجود كرسى خال يحملهم. 


ثقلت رأس جارى بعدما نام ومال برقبته على كتفى، ضممت ساقى لأتمكن من التوازن وأطأطئ رأسى فأريحها على خلفية الكرسى الأمامى وأغمض عينىَّ، لكن رأس الجار الثقيلة منعتنى وتحرجت أن أوقظه، يأتينى النوم بغتة، ولا أفلح أبداً فى استدعائه، لذلك قدرت موقف الجار النائم.


صعدت بنا السيارة جسراً مظلماً فوق ترعة ومالت بشدة وهى تغادره فانخلعت أجسادنا من أماكنها. وصاح أحدهم، ونفث السائق دخان سيجارته بلامبالاة.


استيقظ الجار، رفع رأسه الثقيل، بعينين محمرتين وملامح لم أتبينها سأل: 
احنا فين؟
صوته مبحوح يشى بسن متقدمة، أوضحت له رحلتنا من الطريق الدائرى وانحرافنا إلى طرق أخرى جانبية هرباً من الزحام، لمحت على وجهه ابتسامة واهية ورأيت عينيه الشاردتين بعدما التقطا شيئاً من نور ضعيف على الطريق، يبدو شيخاً تجاوز الستين، فى جلباب داكن وبين يديه ملف مكتظ، قال مبتسماً: 
الخانكة، تبقى فرجت.
وضحكت.
راق صوته مع صمت الطريق وغطيط الركاب.
أصل أنا مانزلتش مصر من زمان.
صمت.
الولد راح يطلع شهادة الجيش لقوا غلطة فى الاسم، روح السجل المدنى فى بلدكم، اطلع على الإدارة فى المركز، اطلع على العباسية، سجل مدنى، مديرية الأمن، بلد أمك الأصلى، ورق من هنا ورق من هناك، سبعة شهور يا افندى وما وصلش لحاجة.
ياااه كل دا ليه؟
ما هو أنا اسمى مركب، أحمد جمال الدين إبراهيم فتحى زيد، تمام؟
تمام!
مواليد 12 أكتوبر 1942، أمى كانت من ميت عاصم، نواحى بنها، اسمها فتحية سيد أحمد إبراهيم وادى، ماشى؟
ماشى! 
انت عارف زمان مافيش ستات تطلع لهم بطايق ولا شهادات، لما توفت طلعنا لها بطاقة وورق بالضالين، أبويا كان شايل ورق وأختام، كلها اصفرت ودابت، مفهمناش منها حاجة، لما جه الولد يعمل الشهادة لقوا اسمى أحمد جمال الدين إبراهيم فتحى، يعنى أبويا هو جمال، مش إبراهيم، ومفيش (الدين) خالص، واخد بالك، وكمان لقوا جدته اسمها فتحية سيد إبراهيم وادى، فى حين الولد مكتوب (سعد أحمد جمال الدين إبراهيم فتحى)، يعنى كدا ابنى مش ابنى، ولا أنا ابن أبويا.
أردت أن أشعل سيجارة، لكن السائق سمع تكة الولاعة فصاح (ممنوع التدخين يا حضرات).
معايا يا افندى؟
آه!
المهم يا ابنى المشكلة إن (أم سعد)، مكتوبة فى سجل مدنى (ترسا) (فوزية السيد على أبوليل)، هى أصلا من قها واتكتبت واتسجلت عند جدتها فى (ترسا)، وبعدين طلعنا الورق من سجل قها، واخد بالك؟
معاك يا حاج!
لما طلبوا شهادة ميلاد أم سعد، لقوها فى قها (فوزية سيد على) بس، ولا السيد ولا أبو ليل ولا يحزنون، ولقوها فى ترسا (فوزية السيد أبو ليل)، يعنى كدا أنا متجوز اتنين، ما هو القسيمة على ورق قها، وشهادة ميلاد الواد على بلدنا، كدا قالوا أبوك مجوز واحدة فى (ترسا) اسمها (فوزية السيد أبو ليل)، ومتجوز واحدة تانية من (قها) اسمها (فوزية سيد على)، ولففوه القرى، قمت قلت لللواد: سيبك انت من الورق خليك فى شغلك، وأشوف أنا المشكلة دى، أصل هو شغال فى مصنع البلاستيك اللى جنبنا، وعنها، بقى لى سبع شهور بلف من هنا لهنا، لحد ما خلصت الورق كله الحمد لله.
الحمد لله
ومد لى ملفاً كبيراً قائلاً: ( شوف كدا)!
ياااه كل دا!
ونظر أمامه صائحاً
ناقص كتير يا اسطى؟!
لم يرد السائق، تراجع هو وأخذ ينظر إلى لمبة سقف السيارة الخافتة، تحرجت أن أعطيه الملف، ظل على ساقى، وثقل رأسى فملت على ظهر الكرسى أمامى ونمت، أحسست قبلها بلحظة برأسه الثقيل مرة أخرى يميل على كتفى.
قبل أن نترك الطرق المتربة بين الغيطان، توقفت السيارة لحظات، كان أحدهم يريد أن يتبول، وأفقت أنا على صمت ونقيق ضفادع وثقل رأس الرجل فوق كتفى، حاولت أن أوقظه، كان ظهرى يؤلمنى، لاحظت خطاً ينساب من فمه، أزحته قليلاً، مال وسقطت رأسه مرة أخرى، انتبه الراكب المجاور:
يا حاج يا حاج!
ثم حملق فى وجهى:
لا إله إلا الله الراجل مات.