سعيد سالم يكتب : دراما الحياة المطلق والنسبى

اللوحات للفنانة: نيڤين فرغلى
اللوحات للفنانة: نيڤين فرغلى

تأخر الاتوبيس الصحراوى المتجه من الاسكندرية إلى القاهرة عن موعده ربع ساعة ثم حضر السائق الذى استغرق حوالى عشر دقائق أخرى فى قطع التذاكر للركاب وشرب الشاى والحديث مع ناظر المحطة، كان من بين الركاب عجوز ذو وجه عابـس وعصبية شديدة ولكن فى براءة أقرب إلى الطفولة، تزعم العجوز ثورة الركاب على السائق الذى كان يتمتع ببرود أعصاب قاتل وزبيبة كبيرة على جبهته وصلعة دائرية فى منتصف رأسه شبيهة بصلعة برنارد شو تماماً، لم يعبأ السائق بمظاهر الثورة وبدأ يقود عربته.  
فى هدوء شديد. سأله العجوز بنبرة زاعقة:
متى تصل هذه العربة الى القاهرة؟
أجاب السائق بنبرة مطمئنة واثقة:
الله أعلم، وقد لا تصل.
قلبت إجابة السائق البارد مواجعى، إذ تذكرت سؤالى لخراط بالمصنع عن تشكيل قطعة نحاسية:
كم من الوقت يكفى لتشكيل هذه القطعة؟
فأجاب الخراط بنفس الطمأنينة والثقة:
الله أعلم، وقد تأكل المخرطة أصابعى قبل تشكيلها.
وعندما ربطت ما بين الموقفين تجسدت أمامى تلك «البلطجة الدينية» التى أصبحت تسيطر على حياتنا حتى فى مواقع العمل الإنتاجية والخدمية. تسأل العامل متى ينهى عمله المحدد فيقول لك بكل بساطة:
ربنا يسهل إن شاء الله.
لكنه لا يجيبك عن السؤال مثلما فعل السائق والخراط، مأســــــاة. تسأله عن أمر نسبى فيجيبك بأمر مطلق.  لا أحد ينكر أن كل شىء مرهون بإرادة الله، ولكن المفترض أن هناك زمناً محدداً تستغرقه العربة الصحراوية حتى تصل إلى القاهرة، مثلما هناك زمن - ولو تقريبى - للانتهاء من تشكيل القطعة المعدنية، ثم إنه ليس هناك أدنى تعارض بين المشيئة الإلهية وبين الاعتراف بالزمن النسبى لإنجاز عمل محدد جرى العُرف وأكدت الممارسة العملية على أنه محدد بزمن معين لو كان الأداء صحيحاً طبقاً للأسس العلمية أو الفنية أو العملية التى تسير بمقتضاها الأعمال الدنيوية وتُنجز بدقة.


ثم عدت  بذاكرتى إلى الحوار الذى كان بينى وبين العامل الذى حذف الجهد والمعرفة والإخلاص فى العمل من قاموسه الفكرى وألقى بكل شىء على كاهل المشيئة الإلهية. الذى حدث أننى كنت صبوراً للغاية، وفى نيتى أن أقنع العامل البسيط بمدلول الإجــابة العلمية الصحيحة، بعيداً عن السفسطة والحديث عن العلمانية والمطلق والنسبى والدنيا والدين. سألته سؤالاً محدداً قاطعاً:
هل يمكنك أن تقيس طول هذه القطعة بالكيلوجرام أو أن تزنها بالسنتيمتر؟
فأجــاب بصدق:
بالطبع لا.
لماذا؟ 
لأن للوزن مقاييسه وللطول مقاييسه أيضاً.
الحمد لله. وصلنا.
وشرحت له استحالة قياس شىء بمقياس لا يناسبه، أو بمعنى آخر استحالة قياس المطلق بالنسبى أو العكس، أى أنه لا يجوز تنسيب ما هو مطلق أو مطلقة بما هو نسبى.. طبعاً دون أن أجعله ينفر منى لاستخدام مثل هذه الكلمات، فلى أسلوبى الخاص فى التفاهم مع هـؤلاء البسطاء، والذى غالباً ما ينجح، خاصة مع من يتسمون منهم بحسن النية والرغبة فى الفهم والتعلم.


 وبعد أن فهم العامل مقصدى - أو هكذا تصورت - فوجئت به يسألنى سؤالاً فى منتهى الذكاء:
أليست هناك وسيلة للتوفيق بين النقيضين؟
قبل أن أجيبه تأملت فى عجالة - مع نفسى- واقعنا الشرقى المذبذب المنفصم على نفسه بين النقيضين، وانحياز الجانب المنفصم الأول ضد الثانى على طول الخط سواء بداخل الفرد نفسه أو بداخل المجتمع ككل.. لتصبح المسألة فى النهاية تفاضلية – لا تكاملية – فإمــا الدنيا وإما الدين. إما الأصالة وإما المعاصرة. إما الأصولية وإما الليبرالية. إما أنا وإما نحن إلى آخر هذه المتناقضات.


 حاولت محاورته لأطيل من فترة تأملى قبل أن أجيبه، فطلبت منه أن يقصر سؤاله على مسألة موعد إنهاء العمل المكلف به والذى يفترض أن يكون ساعتين. أعطيته الفرصة للمزيد من التوضيح فقال ببراءة أشفقت عليه منها:


إذا قلت ساعتين، أخشى أن يحدث لى أو للآلة شيئا فأكون كاذباً.. وإذا قلت ربنا يسهل إن شاء الله أكون متواكلاً أو متهرباً من المسئولية حسبما فهمت منك.

حينئذ قلت له:
إن كان لا بد من التوفيق بين النقيضين فلماذا لا تقول (ساعتين إن شاء الله)؟
أسقط فى يده دون أن يدرى فقال:
معك حق يا باشا.. الله ينور عليك.
ولخبرتى الطويلة بالعمال فقد كنت واثقاً أنه لا ينافقنى كمهندس يعمل هو مرؤوسا له، وإنما كان مقتنعا مائة بالمائة.
إذن فحل معادلة التناقض ليس بمعضلة سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، وذلك بإيجاد الحل التكاملى الذى لا ينفى أحد النقيضين نفياً باتراً ويؤصل النقيض الآخر فى تعصب أعمى.. والبديل الخطير لإيجاد الحلول التكاملية - غير الملفقة - هو الوضع الخطير الذى آل إليه حالنا اليوم.. وضع المشلول العاجز عن الفعل واتخاذ القرار سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى.. وضع الذى تقتصر مواقفه على ردود أفعال تجاه أفعال تحدث من الآخر ولا تنبع من ذاته وفق رؤيته الشاملة المتوازنة وإرادته الحرة الكاملــة.


ولنضرب مثلاً على ذلك فى محيطنا الثقافى الذى ما زال يعانى من الانفصام المشار إليه بين الأصالة والمعاصرة، فلكل نقيض أنصاره المتعصبون له والذين يواجهون نقيضهم بالعداء السافر الذى قد يصل إلى إزهاق الأرواح والتحقير والتكفير للفكر الآخر.. إننى أرى أنه كلما تعمقت الأصالة تألقت المعاصرة، ولا معنى على الإطلاق لاعتبارهما نقيضين، فكلاهما يكمل الآخر ويؤسس عليه ويبنى.. المطلوب فقط هو شىء من الانتقاء لما يناسب وما لا يناسب، فالدنيا تتغير، وما هو معاصر اليوم سيكون تراثاً غداً.. انظر إلى أولادنا وهم يضحكون علينا حينما نتمايل طرباً مع تكرار الاستماع إلى المقاطع المعادة من أغانى أم كلثوم. إنهم يصفون هذه الأغانى بالبطء والبلادة والحزن والملالة، لأن عصرهم يتطلب السرعة والبهجة والانطلاق وعدم التكرار.. وقليل منهم من يعطى لنفسه فرصة التأمل للاستماع إلى مثل هذه الأغانى والألحان وتقييمها واختيار الملائم منها لإنعاش روحه ووجدانه.. ولننظر أيضاً إلى نتيجة غياب الحلول التكاملية بفقدان الإرادة الفردية والجماعية تجاه الغزو الثقافى الأمريكى الصهيونى أو الصهيو أمريكى.

ولنكتف بشريحة واحدة من شرائح هذا الغزو العنيف ممثلاً فى الأفلام الأجنبية التى تبثها القنوات (القومية).. كلها عنف وجنس ومخدرات وانحلال وقتل واغتصاب.. وكيف أثر هذا على نوعيات الجرائم المستحدثة فى مجتمعنا، والتى نطالعها يومياً على صفحات جرائدنا، والتى بلغت قتل الآباء للأبناء وقتل الأبناء للآباء ومعارك السنج والسيوف فى وضح النهار على مرأى ومسمع من المواطنين والشرطة دون تدخل من أحدهما.. وكأنما عجزت مصر عن إيجاد رجل مسئول يتخذ قراراً بتنويع مصادر الثقافة السينمائية فى التليفزيون..

ذلك الشريان الثقافى الخطير.. لماذا لا نستورد أفلاما آسيوية -مثلاً- لتعرض جنباً إلى جنب مع الأفلام الأمريكية المقررة علينا من قوة فوقية مجهولة. عجزنا عن الفعل واتخاذ القرار الذاتى الحر يجعلنا ننشر هذه الوساخات والفظائع على أولادنا صبياناً وبنات كل يوم ثم نبكى من النتيجة ولا نستطيع مواجهتها.


ولننظر إلى الغزو الاقتصادى الغربى القادم علينا بجحافله الظالمة من خلال اتفاقيات الجات ووحدة السوق التى يفرضها علينا الغرب فيحولنا إلى عبيد مستهلكين لأدوات عبوديته.. لقد ضاعت صرخات روجيه جارودى فى الهواء حين قال عن الغرب إنه قد استبدل وحدانية السوق بوحدانية الله، وإن عشرين بالمائة من سكان العالم سوف يتحكمون فى مصائر وأرزاق الثمانين بالمائة المتبقين.


ولأننا لا نملك قوة ذاتية لمواجهة ذلك التيار الكاسح فإننا نضطر لما نسميه مواكبة العصر وما نردده كالببغاوات عن الألفية الثالثة وملاحقة القرن الحادى والعشرين، بينما نحن عاجزون حتى عن إنشاء سوق عربية واحدة نواجه بها تلك التكتلات الاقتصادية العملاقة على مستوى الدول والشركات. لقد نجح الأوروبيون على اختلاف لغاتهم وأديانهم ومواقعهم الجغرافية فى خلق اتحاد قوى، وفشلنا نحن أصحاب اللغة الواحدة والدين الواحد والمواقع الجغرافية المتلاصقة، حتى أننى - فى إحدى قصصى القصيرة بعنوان «الولايات المتحدة العربية» - جعلت عفريتاً من الجن مؤمناً بوحدة العرب يبتكر طريقة جهنمية لتحقيق هذه الوحدة المستحيلة، إذ قرر توزيــع الديانات البشرية المختلفة جميعاً على الأقطار العربية، وكذا اللغات العالمية بحيث تدين كل دولة بدين مختلف وتتحدث بلغة مختلفة، ثم قرر نقل هذه الأقطار من مواقعها بحيث يبعد كل قطر عربى عن الآخر بآلاف أو مئات الأميال، حتى يحقق لهم الظروف المماثلة للاتحاد الأوروبى، ومع ذلك لم ينجح الجنى فى تحقيق الوحدة ومات قتيلاً.
وتأسيساً على ما سبق من شرود وتأمل، وتجنباً لحدوث اشتباك بين العجوز العابس والسائق صاحب الزبيبة والصلعة، قررت أن أحقق الحل التكاملى لأنهـــى المشكلة فقلت للعجـــوز:
سوف يصل الأوتوبيس إلى القاهرة بعد ساعات ثلاث إن شاء الله.