نهال لطفى تكتب : ملاكى الحارس

اللوحات للفنانة:  نيڤين فرغلى
اللوحات للفنانة: نيڤين فرغلى

 استيقظت من نومى لأجدنى فى غرفة غريبة لم أرها من قبل، على فراش ليس لى.. ما هذا المكان؟ أين أمى؟ أين أبى وإخوتى؟ لماذا لست فى البيت؟ كان الضوء فى وسط سقف الغرفة متوهجاً جداً وكان رأسى يؤلمنى فأغمضت عينىَّ.


 لا أدرى كم مر من الوقت ولكن عندما فتحت عينىَّ رأيتنى فى نفس الغرفة غير أن جدرانها لم تعد بيضاء، أصبحت مغطاة بحشرات كثيرة متنوعة الأشكال والأحجام، أرعبنى منها الصرصور الذى طار من الحائط وحط على ذراعى، حاولت تحريك ذراعى ولكنها كانت مثبتة بخراطيم غريبة.. وعاد الطرق على رأسى فأغمضت عينىَّ.

اقرأ ايضاً| مسرحية مدرسة المشاغبين لا علاقة لها بفيلم «سيدنى بواتييه» الذى حمل عنوان «مع تحياتى لأستاذى العزيز»


عندما أفقت مرة أخرى كانت الصراصير قد اختفت وظهرت شمس وهاجة فى منتصف سقف الغرفة، كان ضوؤها يغمرنى، وكنت سعيدة، شعرت بحرارتها تدفئنى، ثم زادت الحرارة كثيراً.. كثيراً جداً حتى شعرت بدمى يفور فى شرايينى، وعاودنى الطرق مرة أخرى فأغمضت عينىَّ.


أيقظنى الألم. ألم شديد يطحن عظامى ويجتاح جسدى بأكمله، دمى يفور بحرارة غير محتملة، كنت وحدى فى الغرفة الغريبة، مربوطة بالخراطيم من كل جانب.. انتزعت نفسى من الفراش والخراطيم وركزت كثيراً جداً حتى أجد الباب.. كان صغيراً للغاية يكاد لا يبين وسط جدران شاهقة تغطيها ديدان تتلوى وثعابين تسعى، وعادت الصراصير، بصعوبة وجدت الباب، كان علىَّ أن أمشى على أربع لأستطيع العبور.. مررت، وتنفست أخيراً. وجدتنى فى ممشى طويل تتحرك جدرانه نحوى، تنطبق علىَّ، جاهدت لآخذ نفساً طويلاً قبل أن تسحقنى الجدران، بجانب عينى رأيت شقاً صغيراً فى الحائط ولجت فيه، لأجد فراشاً أبيض يدعونى للراحة عليه، كانت الدماء ما زالت تغلى فى شرايينى، وكان الفراش بارداً، منعشاً، احتضنت الملاءات البيضاء وذهبت فى سبات.


 فتحت عينى بصعوبة، كنت متعبة جداً ولكن على الأقل لم يعد جسدى يؤلمنى ولم تعد دمائى تغلى، كنت طيفاً تلفه الظلمة.. وكنت خائفة. جاءنى صوته مطمئناً يهمس فى أذنى:
حدثينى ماذا كنتى تقرئين منذ قليل؟
لا أذكر.
بالطبع تذكرين.. حاولى من أجلى.
كنت أقرأ روميو وجولييت
صح هل تذكرين أين توقفت؟
كان روميو يتمنى أن يكون قفازاً ليلمس وجنة جولييت.
وماذا أيضاً؟
أنا متعبة
حاولى.. من أجلى
كانت جولييت تسأل القمر عن هذا الغريب الذى اقتحم قلبها.
وماذا أيضاً؟
 آلمنى رأسى وشعرت بالرغبة فى التلاشى، فى التخفف من ثقل الجسد، أغمضت عينىَّ وذهبت فى عالم من ظلال لست أدرى مداه.
أيقظنى صوته. كان يجلس على أذنى مرتدياً الأخضر..
لا تذهبى
ولكنى تعبة.. أريد أن أنام
لا تنامى. هل تذكرين تلك المعادلة التى كنتِ تعملين على حلها قبل أن تأتى إلى هنا؟
لا أذكر
حاولى. حاولى من أجلى..
كنت تعبة جداً وليس لدىَّ أى رغبة فى الحديث ولكنه ظل جالساً على أذنى يهمس أحياناً ويصرخ أحياناً بطلبات غريبة.. مثل أن أعد من 100 إلى صفر بالمقلوب أو أتلو قرآناً أحفظه أو أبياتاً من الشعر، وكثيراً ما كان يلح فى أن أتذكر باقى حوار الشرفة بين روميو وجولييت.


مر وقت طويل لم أستطع إحصاءه، كنت منهكة جداً ولا أريد سوى الاستسلام والتلاشى فى الظلال، لكنه أبى على ذلك، ظل يلاحقنى ويمنعنى النوم حتى أستجيب لطلباته، وكأننا فى حلقة دراسة. 


بعد وقت لا أعلمه.. لم يعد رأسى يؤلمنى كما فى السابق، لم تعد الظلال تستدعينى بنفس الوتيرة. آلفت وجوده.. ابتسامته الهادئة وصوته العميق.. بذلت جهداً كبيراً لأتذكر باقى حوار الشرفة لأسعده، ولكنى كنت دائماً اقف عند روميو وهو يقسم بالقمر على حب جولييت بينما تستحلفه هى ألا يقسم بما يتغير كل شهر.. ثم لا أذكر شيئاً.


 أصبحت هوايتى فى تمرير الوقت هى محاولة استدعاء باقى الحوار أو حتى تخيله.


لم تعد الشمس تشرق فى وسط الغرفة.. فى عالم الظلال يمر الوقت غريباً، لا تدرى الليل من النهار، لا تدرك من حولك ولا ما حولك. اختفت الغرفة والشمس وبقيت الظلال.. تروح وتجىء، تظهر وتختفى.. وبقى ملاكى الحارس.. يجلس على أذنى يؤنسنى بصوته العميق وابتسامته الهادئة.


 اقترب منى ذات يوم وقال: «استيقظى، أنت بأمان» قلت له: «ماذا تعنى؟ أنا مستيقظة» قال «حقاً أنت كذلك.. افتحى عينيك». 


 فتحت عينى لأجد وجهاً فوق وجهى وعينان زرقاوان تحدقان بى!
 فزعت.
من أنت؟
أنا دكتور ضياء أقضى معك وردية الليل منذ سبعة أيام قضيْتِها فى غيبوبة بسبب التهاب السحايا.
 لم أفهم شيئاً مما قال ولكن تابعت التحديق فى عينيه.. جميلتان بلون أزرق صاف.. قلت له: «أريد رواية روميو وجولييت» لم يرد وضع يده على جبهتى وسألنى كيف أشعر.. كررت: «أريد رواية روميو وجولييت، إنها على منضدتى بجانب فراشى فى البيت». نظر لى مندهشاً وقال: «ألم تسمعى ما قلت؟ كنت فى غيبوبة بسبب حمى فى المخ و

النخاع الشوكى، وكنا نظن أننا فقدناك، وها أنت فى الرابعة فجراً تفتحين عينيك وتطلبين رواية!» قلت: «هناك سطر من حوار الشرفة لا أستطيع تذكره»!

 استمر علاجى لأكثر من عام بعد تلك الليلة وكان الأطباء يأتون إلىَّ ليتفرجوا على الناجية التى لم تصب بعاهة، ولم تتأثر مراكز الإدراك لديها رغم صعوبة الحالة. كان أحد أطباء يمازحنى قائلاً: «مدرسناش كده فى الكلية، لازم حاجة فى المخ تضرب». كنت أبتسم ولا أرد.


عندما مرضت كنت قد أتممت لتوى السابعة عشر ولم أكن أدرى عن المرض شيئاً، حتى الصداع الخفيف لم أصب به من قبل، كنت قويه واثقة محبة للحياة وللناس، حتى سحبتنى الظلال، والآن بعد مرور عشرات السنين على تلك الأيام السبعة أشكر الله كثيراً كل ليلة على ملاكى الحارس الذى لم يفارقنى لحظة، الذى ظل يطلب منى حساب معادلات، وتلاوة آيات، وتسميع أبيات من الشعر، وتذكر حوارات، لكى يظل العقل يعمل، لكى يستبقينى قبل أن تسحبنى الظلال، وكم كنت أود وقتها أن أستريح فقط وأستسلم لكنه أجبرنى على المقاومة. 


كان الطبيب يقول: «أنت بطلة مقاتلة» لم أكن أرد. ولم أخبر أحداً عن ملاكى الحارس الذى استبقانى، لم يتركنى لحظة.. حتى عبر بى متاهة الظلال إلى اتساع النور.