تحركات جادة مطلوبة لمواجهة اختطاف كتابة التاريخ

«التحفة السنية» يكشف أسماء قرى مصر قبل 500 عام

صورة موضوعية
صورة موضوعية

■ إشراف: حسن حافظ

اهتم مؤرخو المماليك بالكتابة عن الشئون الإدارية للدولة المصرية فى العصور الوسطى، فأنتجوا مجموعة من النصوص شديدة الأهمية والخصوصية شكلت ثروة أدبية وتاريخية فى غاية الأهمية، عكست الحياة فى مصر بالعصور الوسطى، وقدمت الجذور التاريخية للعديد من الظواهر التي لا تزال تعيش بيننا حتى اليوم.

◄ ابن الجيعان ينتمي لمدرسة تاريخية خرجت من رحم الإدارة المصرية

ومن بين هذه الكتب كتاب «التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية» لابن الجيعان مستوفى ديوان الجيش فى عهد السلطان الأشرف قايتباي، الذى صدرت طبعة جديدة منه إعدها الدكتور أيمن فؤاد سيد، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر.

الكتاب صدر عن مركز دراسات الحضارة الإسلامية بقطاع البحث الأكاديمي بمكتبة الإسكندرية، وهو نسخة خزائنية محفوظة بمكتبة البودليانا بأكسفورد، كُتبت برسم خزانة المقر الأشرف الكبير العالى يشبك من مهدى أمير دوادار كبير بالديار المصرية فى عصر السلطان الأشرف قايتباي، وكُتبت سنة 883هـ/ 1478م، وترجع أهميته إلى أنه يعد آخر الكتب الجغرافية الإدارية التى وصلت إلينا من العصر المملوكي، والتي تمثل نوعًا من التأليف ازدهر على الأخص في مصر الإسلامية منذ العصر الأيوبي، وهو أوفى مصدر وصل إلينا فيما يتعلق بجغرافية مصر، والكتاب جامع لأسماء المدن والقرى المصرية آنذاك، ويشمل مساحتها بالفدان، ويذكر كل إقليم وما به من البلدان مرتبًا على حروف الهجاء متناولاً الأقاليم المختلفة مـثل القاهرة، والقليوبية، والشرقية، والدقهلية، والفيوم، ومنفلوط، وأسيوط، وقــوص وغــيرها، بالإضافة لثغور دمياط والإسكندرية وأسوان وعيذاب، والأخيرة كانت ميناء مصـــر الرئيسـى علـى البحـر الأحمر لفترة طويلة.

◄ اقرأ أيضًا | أصل الحكاية.. ماذا كان يرتدي الناس في إنجلترا في العصور الوسطى؟

أما مؤلف الكتاب فهو شرف الدين يحيى بن شاكر بن عبدالغنى بن شاكر المعروف باسم ابن الجيعان، وكانت أسرته من كبار الأسر الإدارية فى دولة المماليك، إذ تولوا العديد من المناصب الإدارية فى هذه الدولة، وكان منهم يحيى ابن الجيعان الذى شغل منصب مستوفى ديوان الجيش بمصر المملوكية، وكان على اطلاع كامل بكل ما له علاقة بتقاليد الدولة المصرية وأرشيفها فى العصر المملوكي، فتمكن بذلك من الاطلاع على معلومات لم تتوفر لغيره وأودع هذه المعلومات فى كتابه المهم (التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية)، والذى ذكر فيه أسماء المدن والقرى المصرية فى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى ومقدار ما تغله من محاصيل وما تعطيه من ضرائب وهى معلومات أساسية لمعرفة تطور مسميات القرى المصرية التى تغير الكثير منها على مدار الخمسمئة سنة التالية.

وينتمى ابن الجيعان إلى تراث طويل من المؤرخين المصريين الذين خرجوا من رحم الإدارة المصرية، أى أنهم فى الأساس عملوا كموظفين فى جهاز الدولة ما مكنهم من الاطلاع على وثائق رسمية أنتجت فى النهاية مجموعة من الكتابات التاريخية ذات الاهتمام الكبير.

وتعكس هذه الكتب حجم المادة الوثائقية التى تمتلكها مصر فى عصور ما قبل الاحتكاك بالحداثة (التى جاءت بفكرة الأرشيف ودور الوثائق)، وهى ثروة هائلة من الوثائق المبثوثة فى الكتب التاريخية والإدارية، إضافة إلى معظم المصادر الحولية الأيوبية والمملوكية، مثل «الروضتين فى تاريخ الدولتين» لأبى شامة المقدسي، و«مفرج الكروب فى أخبار بنى أيوب» لابن واصل، و«نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنويري، و«كنز الدرر وجامع الغرر» لابن أيبك الدواداري، ثم مجموعة المقريزى التاريخية وأهمها: «المواعـــظ والاعــتبار بذكـــر الخـــــطط والآثار»، و«اتعاظ الحنفا بأخــبار الأئمة الخلفا»، و«السلوك لمعرفة دول الملوك».

وهذه الكتب تضم مجموعة وثائقية ضخمة تتضمن وثائق ولاية عهد الخلفاء والسلاطين وتعيين ولاة العهد، وتعيين كبار الموظفين ورجال الدولة، وغيرها من المكاتبات الرسمية والمخاطبات مع ملوك تلك العصور سواء كانوا داخل العالم الإسلامى أو خارجه؛ لما لعبته مصر دومًا كنقطة اتصال حيوية بين قارات العالم القديم.

لكن ينقص هذه المجموعة نصوص الاتفاقات التجارية بين خلفاء وسلاطين مصر مع المدن الإيطالية بداية من أمالفى ومرورًا بجنوة وليس انتهاء بالبندقية، بل ومدن أوروبية أخرى مثل برشلونة ومرسيليا، وهى نصوص مهمة جدًا لكنها محفوظة فى أرشيفات هذه المدن التجارية، ويمكن الحصول عليها بالتصوير والعمل على نشرها بعد ترجمة غير المترجم منها.

ولا تتوقف هذه المادة على الأرشيف الرسمي، فهناك ثروة وثائقية هائلة تم الحفاظ عليها بمحض المصادفة ووصلت لنا، إذ كانت مصر محظوظة بمناخ ساعد على بقاء وفرة من المادة الوثائقية الخام، فضلا عن الانتقال السلس للسلطة من الإخشيديين إلى الفاطميين فالأيوبيين فالمماليك، الذى ساعد على انتقــال الوثائق بين التنظيم الإدارى الذي ظل يعمل بكفاءة بيروقراطية، لم تكن ثمة انقطــاعــات كبيرة أو انتقــال عنيف يهدد الميراث الوثائقي الذى ظل محتفظا ببقائه في صور شتى، حتى لو كان الإبقاء عليه فى الغالب محض مصادفة سعيدة لنا.

بداية لدينا أوراق البردى الضخمة التى تغطى القرون الأولى للعرب فى مصر، وانتقال الإدارة من الحقبة البيزنطية اليونانية إلى العربية، هذه المادة تكشف تصويبات للمصادرة المتعلقة بالحكم الأموى فى مصر بالقرن الأول الهجري، وهذه المادة على درجة عالية من الأهمية فى الكشف عن تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهى مادة بدأ جروهمان فى نشر بعضها، لكنها تحتاج إلى جهد جبار بداية من تصوير كل ما هو متاح فى أنحاء العالم وعمل فهارس كاملة لها بالعربية، وإخراج سلسلة من المجلدات تعمل على نشر هذه الوثائق الفريدة.

بعدها لدينا أوراق الجنيزة اليهودية التى تغطى العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية، وتكشف حراك اليهود التجارى ليس فى مصر وحدها بل فى مجتمعات البحر المتوسط ومراكزه الاقتصادية، والجزء الأكبر موجود فى جامعة أكسفورد بعد نقلها من معبد يهودى فى القاهرة القديمة، وهى مجموعة يجب الحصول على صورة منها ونشرها فى مصر فى مجلدات تباعا، فلماذا لا تحصل دار الكتب على نسخة منها؟ ولماذا لا تنشرها لجنة علمية اعتمادا على ما تحقق من منجز فى هذا الحقل أوروبيًا؟

وهناك أيضا حجج الأوقاف التى تعود أقدمها إلى نهاية العصر الفاطمي، وقد أصدر محمد محمد أمين «فهرست وثائق القاهرة» عنها، وينقص فقط البدء فى نشر هذه الوثائق فى سلسلة أخرى.
المشكلة لدينا فى القدرة على أرشفة هذه المادة الضخمة ونشرها فى سلسلة محكمة بعنوان مقترح «أرشيف مصر فى العصور الإسلامية»، وهو عمل غير منجز ويبدو أنه لن ينجز فى القريب.
ورغم هذه الثروة الوثائقية الممتدة على أكثر من 14 قرنًا، والتى لا تتوفر لدولة عربية ولا لأى دولة فى المنطقة - باستثناء تركــيا العثمانيــة - نعيش فى ظلمات غياب الوثائق، ويتعرض التاريخ لعملية اختطاف لكتابة تاريخ آخر بمروية أخرى، يكون هدفها الوحيد غير تاريخى بالتأكيد.

هذه الأماني المعلقة والأحلام المؤجلة سببها غياب المؤسسة الثقافية القادرة على وضع خطة طويلة المدى، لكن أرشفة كاملة للتراث شرط أساسى لإجراء أى دراسة تسعى إلى الفهم الصحيح لتاريخ هذا البلد.