«مرحباً يا أبي» قصة قصيرة للكاتبة منة نور الدين

قصة قصيرة للكاتبة منة نور الدين
قصة قصيرة للكاتبة منة نور الدين

في التاسعة مساءً.. أجلس في المنزل، ينتابني شعور بالفراغ والملل الشديد، قمت بارتداء معطفي الأحمر للذهاب إلى الحديقة المجاورة من منزلي، ربما أستمع إلى بعض الموسيقى في أجواء الشتاء الكئيبة لتخفف من حدة مشاعري بالوحدة..

 

أثناء التجول تحت المطر شاهدت ضوء القمر ينعكس على شجرة زهورها أرجوانية اللون، سمعت صوت بكاء يأتي من الخلف، أخذني الفضول لما يخبئه القدر لي، اتجهت مترقبة في صمت.. لأتفاجئ بفتاة تجلس في وضع الجنين.. كانت دموعها تشبه صراخ ( استغاثة )

 

بدأت بالتحدث بصوت هادئ ربما تطمئن لي وتخبرني ما يحدث بها، لكنها نظرت إلي نظرة كانت تشبه « وطن مفقود »  محاط بجيوش للدفاع عما تبقى من بقايا مبعثرة.. في انتظار الهجوم على من يتعدى ندوب تسكن قلبها..

 

اقتربت منها ببطء شديد.. لإعطائها الأمان، حتى لا تعطي ردة فعل وكأني  « عدو »  يجب أن تنقض عليه لتحمي نفسها، قمت بعناقها بكامل الحب غير المشروط، لتزداد بكاء مثل طفل في الخامسة من عمره تركته أمه وحيدا وضائعا..

 

بدأت بالتحدث بصوت يرتجف وهي تكرر  كلمة واحدة  «  أبي » !!

وبعد التكرار الكثير لنفس الكلمة.. بدأت تروي ما حدث.. لقد أمضت سنوات تبحث في كل رجل تقابله عن ملامح أبيها المفقودة ولا تستطيع أن تجدها، أيضاً لا تتذكرها.. تحاول جاهدة يومياً لينتهي بها الحال لصورة مشوهة داخلها..

 

حتى هذا اليوم.. حان ميعاد اللقاء بعد غياب هذه المدة الزمنية، ذهبت إلى والدتها وهي تضحك من السعادة، على عكس والدتها وجهها أصفر اللون شاحب ومتحجر..

 

البنت خافت كثيراً والاحتمالات السلبية لا تكف عن الهجوم على عقلها، لا تفهم ما يحدث لوالدتها، سألتها.. هل انت بخير يا أمي ؟!

تحدثت الأم بصوت منخفض ويرتجف..  « لقد فارق الحياة » البنت مازالت لا تفهم ما يقال..

من الذي فارق الحياة يا أمي ؟!

- والدك فارق الحياة

ماذا تقولين ؟!!

أصيبت الفتاة بحالة من الجنون وذهبت فوراً إلى مكان مقتل والدها، الكثير من الأشخاص متجمعين في مكان الحادث، يشاهدون جثته داخل السيارة..

 

صرخت الفتاة في الجميع ( ابتعدوا ).. وبدأت في الاقتراب منه ببطء شديد، وهي تشعر بالقهر والظلم، تحدثت مع جثته وهي فاقدة للأمل، خائفة من المجهول، وكأنها شخص اقتلعوا جذوره من أرضه..

- يا أبي سنوات وأنا أنتظر اللقاء الأول بيننا، أتألم من هجرك، أحاول تذكر ملامح وجهك، أبحث عنك في كل شخص.. لماذا جعلته « اللقاء الأخير »

- لماذا وجهك وكأن غضب الله أصابه، ماذا فعلت قبل انتقالك إليه ؟!!

- رغبت في التحدث معك قبل رحيلك وإخبارك ما أشعر به.. أنا أسامحك،

- مازلت أحبك رغم هجرك لي، ربما هذا « عناقنا الأول والأخير »

 

بدأت الفتاة تضيق أنفاسها وتشعر بانقباض في قلبها، لتستيقظ من النوم.. وهنا كانت الصدمة  لقد كان « كابوس » أثناء نومها..

 

استيقظت منه وهي لا تتذكر ملامح والدها مجدداً، ليصبح ألم رحيله عبئاً ثقيلاً عليها، لتستمر رحلتها للبحث عنه في كل رجل تصادفه..

بعد كابوس ترك المزيد من الندوب لتسكن قلبها، كانت آخر كلماتها له..

 

ربما الحياة ليست عادلة بما يكفي لتفقدني أول من انتظرت منه الأمان، ربما رحيلك جعلني أجرح كل من يقترب خوفاً من تكرار تجربة هجرك مجدداً..

« ولكنني مازلت أنتظر عناقك حتى لو قطرات السم مازالت تتساقط من بين ذراعيك ».