خواطر الإمام الشعراوي| قصة خبيب

الشيخ محمد متولي الشعراوي
الشيخ محمد متولي الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوي خواطره حول الآية 207 من سورة البقرة: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» بقوله: ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى.

ففى غزوة بدر، وهى أول غزوة فى الإسلام، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين فى هذه الغزوة، وتمكن المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد، وأسروا منهم كثيرين أيضا، وكان مِمَّنْ قتلوا فى هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث بن عامر والذى قتله هو صحابى اسمه خبيب بن عدى الأنصارى الأوسي، وهو من قبيل الأوس بالمدينة، وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، إننا قد أسلمنا، ونريد أن ترسل إلينا قوما ليعلمونا الإسلام، فأرسل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة فقتلوهم إلا خبيب بن عدي، استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابى آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة، لكن خبيباً وقع فى الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذى قتل أبا عقبة الحارث فى غزوة بدر، فباعوه لابن أبى عقبة ليقتله مقابل أبيه، فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حياً، فلما تركه مصلوباً على الخشبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المدينة: من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟

قال الزبير: أنا يا رسول الله.. وقال المقداد: وأنا معه يا رسول الله.. فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه، فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه، فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه، فرآهم الزبير، فألقى خبيباً على الأرض، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض، وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التى كان يتخفى وراءها وقال: أنا الزبير بن العوام، أمى صفية بنت عبد المطلب، وصاحبى المقداد، فإن شئتم فاضلتكم يعنى يفاخر كل منا بنفسه وإن شئتم نازلتكم يعنى قاتلتكم وإن شئتم فانصرفوا، فقالوا: ننصرف، وانصرفوا، فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة التى صار إليها خبيب.

◄ اقرأ أيضًا | خواطر الإمام الشعراوي| العزة بالإثم

إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة، وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبى يحيى صهيب بن سنان الرومى تكون (شرى) بمعنى اشترى، وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى: باع.

وهكذا نجد أن اللفظ الواحد فى القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع.

وخبيب بن عدى هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذى اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله مقابل أبيه، قالت: والله لقد رأيت خبيباً يأكل قطفا من العنب كرأس الإنسان! ووالله ما فى مكة حائط بستان ولا عنب وإنما هو رزق ساقه الله له.

ولما جاءوا ليقتلوه قال: أنتظرونى أصلِّ ركعتين، فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال: والله لولا أنى أخاف أن تقولوا إنه زاد فى الصلاة لكى نبطئ بقتله لزدت، وقال قبل أن يقتلوه: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.. ويقول الحق: «والله رَؤُوفٌ بالعباد» وما العلاقة بين ما سبق وبين رءوف بالعباد؟ مادام الله رءوفاً بالعباد فلم يشأ الله أن يجعل ذلك أمراً كلياً فى كل مسلم، وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق القضية الإيمانية، لأنه لا يريد أن يضحى كل المسلمين بأنفسهم، وإنما يريد أن يستبقى منا أناساً يحملون الدعوة.. وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى أصناف الناس الذين يستقبلون الدعوة كفراً ونفاقاً، ومَنْ يقابلهم ممن يستقبلونها إيماناً خالصاً، نادى جميع المؤمنين فقال «يا أيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِى السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».