«النصف العلوي».. قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون

الكاتب محمود حمدون
الكاتب محمود حمدون

لم أذق الخمر من قبل, لم ينزل إلى جوفي أي شراب مُسكر غير أني لست أنكر أنني أميل  إلى احتساء " البوظة" تطرب نفسي لها كثيرًا كلما رأيت عربة " كارو" يعتلي ظهرها "زير البوظة" الشهير أجدني أندفع إليها, تسيطر عليّ رغبة في شرب كوب منه أحببتها بطعمها اللاذع, برائحتها المميزة. عدا ذلك لم أقرب ما يُذهب العقل, لطالما قلت جهرة: أننا نعيش في بلد جلّ ما فيه يذهب بعقل الأريب أن الحياة بين دروب مدنها وأريافها تستوجب إقامة الحد دون شهود.

 

لكنني رأيتني بالأمس, بمنطقة" السهراية", قد تغيرت قليلًا, فقد اختفت أفران الخبز التي تراها على يمينك, حلّ مكانها جميعًا متجرًا كبيرًا عريضًا بواجهة زجاجية معتمة لا تكشف من بداخله.

حين اقتربت إذا به محل "خمور" يقف وحده يعاند الموروث السائد بالمدينة, تتزين واجهته الزجاجية الواسعة المساحة, زجاجات من أحجام وأشكال مختلفة تخطف الأبصار, مغلّفة بعلامات تجارية أغلبها بلغات أجنبية, لم أحتاج لإعمال التفكير كي أدرك أنها تحوي بضاعته المحرّمة.

 

بمدخل المتجر بمنتصفه لمحتني امرأة أربعينية تحتفظ بجمال أوروبي يغاير الموجود بين نساء المدينة والمدن المجاورة كلها مع جسد شرقي يتميز بهضابه ومنحنياته كأن المكان يأبى إلاّ أن يترك بصمته عليها.

عيناها واسعتان تحملان جرأة ووحشية لم أعدهما أقبلتْ عليّ تعاملت معي بلطف ولباقة لعلهما سمتان تميزان المهنة والتجارة هذه. اقتربت منها وقلت بخجل يمتزج بتردد : أرغب في ..

فقاطعتني: أول مرة؟

أجبتها: نعم, هي المرة الأولى, لست أدري لما لويت مقود سيارتي وجئتك بطلبي هذا!, كنت أتكلم إليها وأتحاشى النظر في عينيها, إذ خشيت أن تشتعل جوارحي وأنا على مرأى من الناس, بلعت ريقي بصعوبة, أكملت وأنا أجول ببصري حولها دون أن أصطدم بها: لربما هي رغبة في الأعماق نضجت بوقت متأخر وأَبَتْ إلاّ أن تطفو إلى السطح.

كنت أتحدث إليها, يفصلني عنها طاولة من زجاج سميك مصقول يلمع بشدة, ترتفع عني في وقفتها بضع درجات, فأشارت إليّ أن تعالي, فصعدت درجتين من سلم رخامي أسود, حتى بان لي من نصفها العلوي, " قميصًا" فيروزي اللون مفتوح ثلاثة من أزراره بالتتابع من أعلى لأسفل,  كما أنه بدون أكمام, يكاد يضيق عن نهدين كبيرين بارزين ناصعي البياض, يضطربان وحدهما حتى ولو لم تتحرك صاحبتهما.

 

أخرجتني من حيرتي, سألَتْ من جديد: تفضّل نوعًا بذاته؟

فقلت: أخبرتك أنني لم أقرب الخمر طوال حياتي, لا أميل إليها, يحوّط عنقي قيد شرعي يمنعني عنها.

قالت لي: لا أختار لزبائني ما يشربون, اصعد وتفقّد المحل, اختر ما تشاء.

رحت أتجول قرابة نصف ساعة, حتى دمعت عياني مما رأيت, ظننت أنني وقعت في تيه كبير, لكنّي لم أرد أن أخرج خالي الوفاض, فحملت زجاجتين صغيرتين, كل منها مربعة الشكل, عُدت للمرأة, نَظَرَتْ إلى حمولتي, قالت : الحساب 6862 جنيها.

 أخرجت لها " كارت فيزا", من محفظتي, وضعته بآلتها, عبثت بأزرارها, ثم طلبت كلمة المرور, فطبعتها بنفسي على أزرار "الماكينة".. لكني تداركت الأمر, إذ تذكّرت أن في حسابي في " البنك" , مبلغ لا يزيد على ستين جنيهًا, هو كل ما تبقي, فتنحنحت, قلت: عفوّا, ألاّ توجد أصناف أقل سعرًا؟

 

لعلها فهمت ما يعتمل بداخلي, إذ عادت لوجهها بسمتها الأنثوية المثيرة, مالت عليّ بجزعها, أحاطتني بذراعيها البضتين, أجزم أن رائحة عطرها أسكرتني ثم شملت المكان حتى أنّي أخذت فترة كبيرة بعد الحادثة كي أفيق, ثم قالت: لك ما تشاء وترغب, ثم أخرجت من بين ثدييها, قنينة صغيرة جدّا, تحوي سائلًا ذهبيًا, قالت: هدية لك, ثم ناولتني" كارت الفيزا", فأعدته لمكانه, حين أردت الانصراف, التفتُ إليها وقلت : رجاء لا أريد أن يعرف أحد بزيارتي للمكان.

فأشارت لعينيها بأصبعها, قالت: سرّك بين حنايا صدري أحمله.