دافع بقوة عن الهوية القومية ..«شكرى عياد».. فيلسوف النقاد

د. أمانى فؤاد و د. شكرى محمد عياد
د. أمانى فؤاد و د. شكرى محمد عياد

هى الشللية فى حياتنا الثقافية لطالما زيفت الأجواء، وأفسدت الأنحاء، ولوثت المجال، وقد ارتفعت بأدعياء كثيرين، وسلطت عليهم أضواء لا يستحقونها، وفى المقابل أقصت افذاذا حقيقيين، واستبعدتهم من منصات الاهتمام، وأجلى دليل دامغ على مهازل الشللية وجرائمها فى حق القيمة والحقيقة.. ذلك الاسم اللامع الذى حفر بصماته الغائرة على وجه ثقافتنا، وأهدى دروبنا علامات مضيئة فى الأدب والنقد، ومع ذلك ظلمته الشللية حيا وميتا، فلم ينل فى حياته ما يستحق من تكريم حصل عليه من هم أدنى منه، وبعد مماته أسقطته البعض من الذاكرة ، وتجاهله الأدعياء من مرتزقة الأدب، لذلك دعونا اليوم نحتفى بالناقد الكبير الراحل د. شكرى محمد عياد فى ذكرى وفاته عبر مقال الأديبة المتميزة والناقدة البارزة د. أمانى فؤاد التى بذلت الجهد المهدى إلى جريدة «الأخبار»، وصفحة ثقافة اعتزازا بالدور المتفانى فى الاحتفاء بالمخلصين والمنحاز إلى الحقيقيين بعيدا عن شللية الزائفين وصبيانهم المدلسين.

استطاع الناقد والمنظر الكبير د. شكرى عياد أن يحقق منجزاً نقدياً متميزاً، يوصف بعمق ‏التأمل وتنوعه، وتضمنه للرؤى الشاملة، لمَّا تميز به من التحصيل العلمى المتنوع ‏والغزير، الذى بدأه بدراسته للتراث العربى، وعلوم الفلسفة، وتاريخ المذاهب النقدية ‏العالمية، الغربية والعربية، ودراسته لتاريخ الأنواع الأدبية، وعلم النفس، وسعة إطلاعه ‏على الأداب العالمية؛ لإجادته عدد من اللغات الأوروبية، هذا بجانب إبداعاته الخاصة ‏فى القصة القصيرة، والسيرة الذاتية، وترجماته المتعددة، ومؤلفاته النقدية التى تجاوزت ‏ثمانية عشر كتاباً، والتى عدها بعض النقاد أقرب إلى التنظير منها إلى التطبيق، وإن ‏كانت قد شملت الجانبين‎. 

اقرأ ايضاً| تقدير متبادل| «التجنيد» تحتفل مع ذوى الهمم بإنهاء إجراءاتهم


كان للناقد الكبيو د.  شكرى عياد موقف محافظ من تيار الحداثة فى مصر والوطن العربى، ‏يقترب من الرفض لتيار الحداثة العربى، الحداثة التى يقابلها فى المصطلح النقدى ‎ ‎Modernism، والتى هى فى جوهرها ظاهرة تعكس معارضة «جدلية»، ثلاثية الأبعاد: ‏معارضة للتراث، ومعارضة للثقافة «البرجوازية»، بمبادئها العقلانية والنفعية، وتصورها لفكرة ‏التقدم الزمنى، ومعارضتها لذاتها تقليداً وشكلاً من أشكال السلطة المهيمنة
ظلت الحداثة العربية موضع تساؤل مستمر عنده، يتضمن استجابة لجوهرها، ورفضاً ‏لعواقبها، منذ بداية كتاباته فى مقال صغير بعنوان النقد والمذاهب الاجتماعية الذى كتبه ‏سنة 1959م ضمن مؤلفه «تجارب فى الأدب والنقد‎» 


‎ وفيه يتحدث عن الواقعية الاشتراكية والحداثة وما بعد الحداثة، ويسجل للحداثة وما بعدها ‏إنكارها لطرق التعبير، المألوفة وموقف المثقفين الحائر من المجتمعات الغربية، ثم ‏يتحدث عن محاولة نقاد بلدان الحياد خلق مذهب أدبى متحرر من رذائل المذهبين، إلى ‏أن أفرد مؤلفاً كاملاً عام 1993م لمناقشة وتقييم تيار الحداثة فى مصر ولبنان، بداياته ‏وتجلياته وجدواه فى كتابه «المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين»‏‎. 


ويصعد شكرى عياد فى هذا المؤلف قضية تحليلية وتقييمه لتيار الحداثة، ليتساءل عن ‏مصيرنا ومصير العالم، ويعد الأدب ومعه النقد مدخلاً لمناقشة أزمة الوجود، وجود ‏العالم، ووجودنا فى العالم، من منطلق أن الأدب والنقد ليسا ظلين للسياسة بل هما بعض ‏الكيان الإنسانى منذ فجر التاريخ إلى آفاق المستقبل، بلا حدود، وقيمة تحاورهما الدائم ‏مع الزمن الحاضر‎. 


ويرى د. «شكرى عياد» بعد استعراضه للتيارات الفنية، وللأجواء العامة فى المجتمع ‏الأدبى، تلك شكلت الحداثة العربية، أن الحداثى العربى يمارس التمرد الذى هو جوهر ‏الحداثة لكنه لا يعى أسباب هذا التمرد، كما يرى أن دعوى «عربية الحداثة» دعوى زائفة؛ ‏لأنها لا تزيد على أن تنقل إلينا مفاهيم الحداثة الغربية، بل مفاهيم حداثة معينة، حداثة ‏الغريب واللافت والمثير‎. 


كما يقرر أن الحداثة العربية ثورة النخبة التى تعتمد على بطولات فردية، يمكن أن تتجه ‏إلى تدمير عمد النظام القديم، ولذا يصبح من الطبيعى أن التعبير الفنى عنها يأخذ شكل ‏الرفض القاطع للتقاليد الفنية السابقة، بل رفض لفكرة التقاليد نفسها، وتأكيد للحركة ‏المستمرة فى الفن، ومن هنا تتشكل خطورتها لديه على التراث العربى، ومن ثم على ‏الهوية الخاصة للعرب‎. 


ويرى «شكرى عياد» أن الحداثيين العرب يجمعهم شعور حاد بسقوط الحلم العربى، والعجز ‏المطلق عن الحركة الفاعلة، وأن هذه الحالة من الإحباط تدفعهم إلى البحث عن الخلاف ‏فى الفن حتى لو كان بدون «أيديولوجية».


كما يرى أن الفجوة بين الأدب الحداثى ودائرة القراء متسعة بل شاسعة، وأن الأدب ‏الحداثى لابد أن يحتوى على الإدهاش والمفاجأة ليتقبله القارئ العادى، لكنه يعود فى ‏موقف تصالحى متردد ليقرر مع «إدوار الخراط» مستنداً على بعض مقولاته «أن الحداثة ‏أدب رافض، وبذا فهى ظاهرة صحية، حتى لا نستسلم للواقع الكالح»، ثم يثنى على ‏تجددها المستمر، وأنها تعطى الفن قيمته الحقيقية، قيمته التنبؤية، الكشفية الجسورة، ‏وتنتشله من وهدة الدعاية الرخيصة، ثم يقرر أنها معبر إلى تقاليد أفضل، أو نهاية ‏لمذهب وبداية لمذهب آخر، لكنها انتشرت فى مجتمعنا لأننا نخضع لفترة مخاض طويل ‏نظراً لظروفنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخاصة.‏‎ 


وينطلق «شكرى عياد» فى موقفه من تيار الحداثة من موقع التزام الناقد مع طبيعة الرسالة ‏التى حددها لذاته، ومع القاعدة العريضة من القراء، فالفعل النقدى يختلف عن القراءة ‏العادية، وعن الإبداع إلى حد ما، فى أنه فعل تواصل، فجوهر النقد جسر يمتد بين ‏الإبداع والتلقي.‏‎ 


وتتعدد مستويات قراءة الناقد الذى يحمل فى دمه رسالة نهضوية طليعية فهو فى حالة ‏حوار مع نفسه، ومع المؤلف، أو الإبداع، أو التيار الذى هو بصدد تحليله وتفسيره، ومع ‏القارئ الذى يتوجه إليه، مع ضرورة إلمامه بالمستوى الثقافى، والاهتمامات المعاصرة لهذا ‏القارئ الذى يمثل جمهوراً، أو القاعدة العريضة من الجمهور، وليس القارئ النخبوى‎. 


ويدرك «شكرى عياد» أن على الناقد وظائف تداولية تجاه القاعدة العريضة من القراء‎. 


تقول «آن موريل» عن النقد فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين «أنه لا يفتأ يلامس «‏الميتافيزيقا» كما قال «بودلير»، أى المحافظة على قيم مجتمع بعينه أو تغييرها، والتعبير ‏عن فكر ذلك المجتمع.‏‎» 


ويخشى شكرى عياد ضياع الهوية القومية للمجتمع العربى والمصرى؛ لذا يقف بتوجس، ‏يدفع بكل قواه الفكرية الآلة التى تتوجه نحو التراث وتقاليده وتشكلها رؤى الحداثة، ‏وتمردها على كل ما هو ثابت ومستقر.‏‎ 


ولو أننا تفحصنا الظواهر والتيارات التى استقرأ ورصد من خلالها د. شكرى عياد تيار ‏الحداثة فى صورته العربية، لوجدنا تتبعه لها يتلخص فى مجموعة من التيارات كما يراها ‏وتتلخص فى‎:
‎أن الحداثة العربية بحسب ما يقول الواقع التاريخى فرع من فروع الحداثة الأوروبي.‎ 
تبدأ «الحداثة السريالية» مع ظهور جماعات من الأجانب المحليين، وفئة صغيرة من ‏المثقفين وطلبة الجامعات من المصريين، كانت الماركسية قاسماً مشتركاً بين معظمهم، ثم ‏تميزت جمعية «الفن والحرية»، وأصدرت مجلة شهرية بإسم «التطور» 1940م، وأصدر ‏‏«سلامة موسى» «المجلة الجديدة» سنة 1928م، وكانت هذه الجماعات ترى أن الحداثة فى ‏الأدب والفن تعنى التجريب المستمر، وأن كل خلق فنى جديد يقابل بالتوجس والاشمئزاز ‏طالما يهدد النظم الثقافية التى تثبت قدم المجتمع، وخاصة فى البلاد «الأوتوقراطية»، وأن ‏الحرية الفنية التى وصفها البعض فى ألمانيا بالفن المنحط تعّد من قبل مروجيها رجعية ‏وسجوناً للفكر، وأن الفن مبادلة فكرية وعاطفية تشترك فيها الإنسانية جميعاً، وأنهم لن ‏يقبلوا أية حدود مصطنعة من شأنها أن تعرقل حرية الفن وانطلاقاته‎. 


ويعلق «شكرى عياد» بأن وقع هذه البيانات على القارئ المصرى تعد صدمة قوية، فأين ‏‏»ابن البلد» الذى لا ينحاز إلى الوطن  أو الجنس أو الدين، وأن هذا المزيج من الثورة ‏الاجتماعية، والفن الثورى، يمكن أن يكون مقبولاً ومعقولاً فى بيئة غربية، ومحدود التقبل ‏فى البيئة العربية بالنسبة للنخبة، أو المجموعة التى تروج له، وليس لعامة الشعب، لكنه ‏يرى أن جماعة «الفن والحرية» جعلت الأدب تعبيراً عن هم فكرى، ومغامرة فى المجهول ‏لكل تيار جاء بعدها، لا مجرد صياغة لأفكار معروفة سلفاً، وبذلك بدأ الأدب العربى ‏المعاصر رحلته الطويلة نحو اكتشاف الذات.‏‎ 


ولنا أن نقف هنا مع تعقيبه الذى لا يرفض الدعوة فى جوهرها، بل يلتمس بعدها الفكرى ‏العميق، الذى يعد مرحلة فى تطور تناول المبدع لذاته ولإبداعه، وتسجيل موقف بيني ‏متردد للناقد الذى يخشى الانفلات غير المحسوب، لكنه يسجل النقاط المضيئة للتيار ‏الجديد، فيتنازعه روح الناقد المحافظ، وروح المبدع المتحرر.‏‎