خواطر الإمام الشعراوي| لا خير في عمل بعده النار

الشيخ محمد متولي الشعراوي
الشيخ محمد متولي الشعراوي

يستكمل الشيخ الشعراوي خواطره حول الآية 206 من سورة البقرة حول قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم» بقوله: أى أن الأنفة والكبرياء مقرونة بالإثم، والإثم هو المخالف للمأمور به من الحق سبحانه وتعالى، «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد». أى عزة هذه التى تقود فى النهاية إلى النار؟ إنها ليست عزة، ولكنها ذلة، فلا خير فى عمل بعده النار، ولا شر فى عمل بعده الجنة.

فإن أردت أن تكون عزيزاً فتأمل عاقبتك وإلى أين ستذهب؟ «فَحَسْبُهُ» أى يكفيه هذا فضيحة لعزته بالإثم، وأما كلمة (مهاد) فمعناها شيء ممهد ومُوطأ، أى مريح فى الجلوس والسير والإقامة. ولذلك يسمون فراش الطفل المهد. وهل المهاد بهذه الصورة يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تماماً؛ لأن الذى يجلس فى المهاد لا إرادة له فى أن يخرج منه، كالطفل فلا قوة له فى أن يغادر فراشه. إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على أبعاضه. فإن كان المهاد بهذه الصورة فى النار فهو بئس المهاد. هذا لون من الناس وفى المقابل يعطينا سبحانه لوناً آخر من الناس فيقول سبحانه فى الآية 207 من السورة نفسها: « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» والله سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة (يشري) يجب أن نلاحظ أنها من الأفعال التى تستخدم فى الشيء ومقابله، ف (شرى) يعنى أيضا (باع). إذن، كلمة (شرى) لها معنيان، واقرأ إن شئت فى سورة يوسف قوله تعالى: «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» «يوسف: 20». أى باعوه بثمن رخيص.

وتأتى أيضا بمعنى اشترى، فالشاعر العربى القديم عنترة ابن شداد يقول:  فخاض غمارها وشرى وباعا إذن (شرى) لغة، تُستعمل فى معنيين: إما أن تكون بمعنى (باع)، وإما أن تكون بمعنى (اشترى)، والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منهما فقول عنترة: (شرى وباع) نفهم أن المقصود من (شري) هنا هو (اشترى)، لأنها مقابل (باع)، وقوله تعالى: «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» «يوسف: 20». يوضحه سياق الآية بأنهم باعوه. وهذا من عظمة اللغة العربية، إنها لغة تريد أناساً يستقبلون اللفظ بعقل، ويجعلون السياق يتحكم فى فهمهم للمعاني. «وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ» ونفهم (يشري) هنا بمعنى يبيع نفسه، والذى يبيع نفسه هو الذى يفقدها بمقابل. والإنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحى بها، وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهى الشهادة فى سبيله عز وجل، كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله. ومثل ذلك قوله تعالى: «إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ» «التوبة: 111».

◄ اقرأ أيضًا | خواطر الإمام الشعراوي| العزة بالإثم

إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم. إذن فقوله: « وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله» يعنى باع نفسه وأخذ الجنة مقابلاً لها، هذا إذا كان معنى (يشري) هو باع. وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل شيء فى سبيل أن تسلم نفسه الإيمانية.

ومن العجب أن هذه الآية قيل فى سبب نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين، معنى (باع) ومعنى (اشترى) فها هو ذا أبو يحيى الذى هو صهيب بن سنان الرومى كان فى مكة، وقد كبر سنه، وأسلم وأراد أن يهاجر، فقال له الكفار: لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا وأنت الآن ذو مال كثير، وتريد أن تهاجر بمالك. فقال لهم: أإذا خليت بينكم وبين مالى أأنتم تاركوني؟ فقالوا: نعم. قال: تضمنون لى راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟ قالوا: لك هذا.

إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته، فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر فقالا له: ربح البيع يا أبا يحيى. قال: وأربح الله كل تجارتكم. وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره بقصتك، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ربح البيع أبا يحيى. إذن معنى الآية وفق هذه القصة: أنه اشترى نفسه بماله، وسياق الآية يتفق مع المعنى نفسه. وهذه من فوائد الأداء القرآنى حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين.