من قارئ إلى محرر كيف صنعت الجريدة مترجميها

من قارئ إلى محرر كيف صنعت الجريدة مترجميها
من قارئ إلى محرر كيف صنعت الجريدة مترجميها

حدث ذلك فى صيف إحدى سنوات النصف الأول من التسعينيات: وقفت أمام بائع الجرائد المعتاد، فى زيارة يومية فى الثانية عشرة صباحًا، وفيما أبحث فى الجرائد والمجلات (كعادة يومية استمرت لسنواتٍ طويلة) ظهر لى غلاف جديد يحمل أعلاه اسم أخبار الأدب». قال البائع إنها مجلة أسبوعية جديدة وهذا أول عدد فيها. منذ هذا اليوم البعيد فى التسعينيات، وعلى مدار ثلاثين عامًا، كانت أخبار الأدب تتراكم فى بيتى أسبوعًا وراء أسبوع. ورغم أن جودتها كانت تختلف من عدد لعدد، وموادها شيقة أحيانًا وأحيانًا لا (كنت حينها فى الخامسة عشرة تقريبًا) إلا أنها كانت خريطة للمشهد الأدبى، ومع الوقت لاحظت أنها تغطى أيضًا المشهد العالمي. حينها كان حلمى أن أنشر فيها، قصة أو قصة مترجمة، أن أساهم بأى شكل فى جريدة أنتمى إليها قبل حتى أن ألتحق بها. هذا الشعور بالانتماء كان أكثر ما يجذبنى إلى هنا.

بانوراما عالمية للأدب
لا أعرف إن كانت الصحافة الثقافية قبل «أخبار الأدب» قد ضمت فى تبويبها بابًا عن الأدب العالمى تغطيةً وتقديمًا لأدباء عالميين أم لا، لكنى متأكد أن تجربة الجريدة فى هذا المضمار فارقة فى شكل الصحافة الثقافية. كانت معرفة الآخر عبر أدبه خطًا واضحًا فى التأسيس، ولم يكن خطًا هامشيًا. لقد ساهمت أولًا فى دفع حركة الترجمة وقراءة الأعمال المترجمة، إذ تعود قارئ الجريدة على أسماء مثل: ماركيز وبورخس ويوسا وبول أوستر وهنرى ميلر وإيزابيل الليندى من كثرة التغطيات التى تخص أخبارهم الأدبية والشخصية، وكانت أخبار الأدب فى ذلك تتبع خطى الجرائد العالمية المكتوبة بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، من بين لغات أخرى. كانت عروض الكتب الأجنبية، والحوارات مع المؤلفين الأجانب تخلق هذا النوع من الألفة بين المؤلف والقارئ، وساعد ذلك بالطبع فى ترجمتهم وقراءتهم،  حتى بات عدد من الكتاب الأجانب يُقرؤون أكثر من كتاب مصريين وعربً، أو اعتبرناهم كُتابًا عربًا، يعيشون بيننا ونعرف أخبارهم. نعرف الصراع بين يوسا وماركيز، واللكمة التى سددها الأول للأخير، كما نعرف أعمال كل منهم التى ستصدر قريبًا. بشكل غير مباشر، كانت أخبار الأدب تكمل فى شكلها الصحفى دور المركز القومى للترجمة، فهنا نُعرّف بالكاتب، وهناك ينشرون له، وبين هنا وهناك قارئ إن لم يقرأ لـ «بيسوا» كتاب «القلق» فقد عرف على الأقل اسمه وقرأ له نصوصًا فى جريدة أسبوعية رخيصة السعر غنية المحتوى. 


على مدار ثلاثين عامًا، عرف القارئ بالعربية كُتّابًا مثل: خوان خوسيه مياس وروبرتو بولانيو، فى أول ظهور لهما بالعربية،  وعرفوا ساراماجو وتوماس مان وجونترجاس معرفة قريبة، وتناولت مواد مترجمة ألبير كامو وسارتر من بين كتاب فرنسيين آخرين، وأمبرتو إيكو وإيتالو كالفينو من بين كتاب إيطاليين آخًرين، بالإضافة للكتاب الأفارقة وكتاب امريكا اللاتينية، والكًتاب الأفارقة أو المسلمين ببريطانيا. هذه البانوراما الواسعة كانت تحدد بطريقة ما خريطة الترجمة بالعربية، أو تسلط الضوء على أعمال متٌرجمة بالفعل، أو كتاب صدرت لهم أعمال بالعربية غير أنهم لم يحظوا بما يستحقونه من شهرة.


ورشة إعداد مترجمين
وإذا كانت «أخبار الأدب» قد عملت على ترسيخ أسماء أجنبية جديرة بالقراءة، فقد عملت كذلك على خلق جيلٍ من المترجمين الشباب بدأوا ترجماتهم الأولى فى هذه الجريدة قبل أن ينفتحوا على سوق النشر ويراكموا أعمالًا كثيرة أثرت المكتبة العربية، وكاتب هذا المقال أحد هؤلاء المترجمين الذين بدأوا هنا، بقصة مترجمة وحوار وتغطية، قبل أن يتبلور مشروع ترجمة كتاب كامل، بجانب العديد من المترجمين الشباب حينها، مثل: ياسر شعبان، مروة رزق، مها عبد الرئوف، عبد السلام باشا، أيمن عبد الهادى، ثم فى فترة تالية لطفى السيد، وناصر عبد الرحمن، ومحمد عبد النبى، ومؤخرًا بسمة ناجى ورفيدة ثابت وعمرو رمضان، بالإضافة لمترجمين آخرين ساهموا من موقعهم الأكاديمى فى إثراء الجريدة مثل: د. على المنوفى، د. خالد سالم، د. خالد البلتاجى،  د. دينا عبده.


 ولقد ساهم عشرات المترجمين فى خلق شخصية للجريدة، بقدر ما ساهمت الجريدة فى بنائهم كمترجمين. ولو عدنا فقط عشرين عامًا للوراء، وتذكرنا قليًلًا، سيتضح لنا كيف كانت مهنة الترجمة مقصورةً على عددٍ قليلٍ من الأسماء المرسخة فى كل لغة، وكانوا من المترجمين الكبار فى السن والقامة، ولم يكن أغلبهم متفرغًا للترجمة، كان الفارق الزمنى بين هذا الجيل القديم وشباب المترجمين يتجاوز الأربعين عامًا، ما يعنى سقوط أربعة أجيالٍ من المترجمين فى الفراغ (يمكن حساب الفارق بين محمد عنانى وبشير السباعى وأحمد حسان وعلى المنوفى، وبين مها عبد الرءوف وأحمد شافعى مثلًا). حتى إننى أتذكر عند كتابة عقد ترجمة فى المركز القومى للترجمة عام 2003 أن سألنى الموظف عن وظيفتى، فقلت «مترجم»، فضحك ساخرًا وقال إن المترجم رجل كبير فى السن والخبرة.


خلال عشرين عامًا، تغيرت الخريطة كثيرًا، أصبح أكثر المترجمين تتراوح أعمارهم من 25 إلى 50، ونشأ جيلان من المترجمين فى كل اللغات المشهورة، ودخلت لغات أخرى عالم الأدب لم تكن موجودة من قبل، مثل: التشيكية والبرتغالية والهولندية. بل وأصبح عدد الكتب المترجمة أضعاف أضعاف الكتب المترجمة فى التسعينيات مثلًا، وكذلك دور النشر المهتمة بالترجمة.


لقد ساهمت أخبار الأدب، بانفتاحها على الثقافات الأخرى، وبإتاحة الفرصة للمترجمين، وبسياستها التحريرية بدءاً من جمال الغيطانى، فى هذا الرواج، والالتفات إلى الضفة الأخرى. وهى تجربة نسختها جرائد أخرى، وهو نسخ محمود، لأنه أدى لمزيدٍ من الحراك الثقافي.