«عالم موازي».. قصة قصيرة للكاتب محمد أبو زيد التيجاني

الكاتب محمد أبو زيد التيجاني
الكاتب محمد أبو زيد التيجاني

 "من أنا؟ ولما أتيت؟ وماذا عليا أن أفعل؟ خطواتى مُقدرة، لا دخل لى فيها ، لا أسمى، ولا أبى ولا أمى، حياتى لم تسر كما أهوى، عِشت الحياة طولها وعرضها بمبدأ واحد .." المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"منهج حياة، أسبح فى فلكه، أخشى أن أسير خارجه حتى لا تُصب علىٌ لعنات الله، أخشى أن أكون من المذمومين فى هذه الدنيا، اركض فيها ركض الوحوش فى البرية، فلن ينالنى سوى التعاسة، ولا ينالنى الا المَقدور.

تخرجت فى كلية الأدآب، ثم اللتحقت بوظيفتى تلك، تزوجت ابنة عمتى طوعاً لرغبة أبى، وأنجبت أربعة أولاد، واحد تلو الأخرى، عشر سنوات وما زالت متاخرًا فى درجتى الوظيفية، لا مانع من ذلك، فهى إرادة الله أولا وأخيرا، وأما عن زوجتى بكل ما تحمله من جمال، ساخطة علىٔ، تتهمنى بالتكاسل والخمول، فرق شاسع بينى وبين زوج اختها، أصبح رئيسى في العمل رغم أنى اقدم منه، لا بأس فلا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضى منها الآخر، لم تكن بتلك المزاج التي عليه الأن لماذا كل ذلك؟ هل المادة تملّـكَـتها أم أن غيرتها المجبولة عليها منذ الطفولة مع اختها هي من دفعتها أن تنهرني بذلك الجنون.

"لم تتغير هي فقط، الشيخ على مبارك تغير، لم يكن لديه لحية ما دعاه لذلك التَدين، أي تَدين؟ فهو بعيد عنه ولم تحدث أي علامات صلاح أو تمهيد حتى الآن مازال كما هو ما تغير سوى تلك الفطريات التي يسميها على حسب قوله " سماهم على وجوههم من أثر السجود" ، لكن بالطبع هو على وجههُ إحدى سمات السجود، هو يعبد العبادة أو على الأصح يُحب أن يُرى على ذلك، أما أفعاله تتنافى بل تغيرت تمامًا، أدهشني فعلاً، هل ما يقرأه من وعد ووعيد عن الدار الاخرة جعله فظ غليظ، أم تلك النكبة التي كان أثرها ذلك التغيير فتلاشت ابتسامته وأصبحت مصطنعة، لا ليس لصدقة بل كل فرد ينجذب لجماعته يعتد رصيد أنه مجاهد وبالتالي له منصب يدعه ذات مركز ويأخذ اللقب الملعون لقب شيخ أتدرون لما ملعون لأن كل ما يبذله من جهد لأجل هذا اللقب فقط هو ملعون حقًا، منذ شهور افتقد ترقيته رغم أنه كان جاد مجد طيب وديع، ولكن ماذا عن حديث الناس وقد تأخر فهو كما كان يروي لي مفتقد هويته وملاذه في منصبه أن يكون ذات لقب، لا مال ولا شئ سوى اللقب سيحقق ذاته.

 

" أما ذلك المكتب المُلتف حوله هؤلاء لينالوا نظرة رضا من أماني، لم تعد كما هي أيضاً، قطار الزواج فاتها وكلمات الناس ريح عاصفة تأخذ كل طيب في وجهها، تزوجت أماني اول رجل حتى اختلس منها كل أمانيها، فقدت كل ما كانت تحلم به وعندما يفقد الإنسان طموحه ماذا تنتظر منه، فالطموح روح إذا ماخرجت من جسد الأنسان أصبح بلا هوية، تحقيق هاويتها الآن هو أن ترى العيون تتلاحق عليها بطريقة أو بأخرى المهم أن تستنزف

 

" إبرهيم الساعي ، كان له مفهوم آخر للحياة، كان حكيم أكثر من أولئك في تعامله مع ذاك الصخب، بابتسامته التي تحمل ضياء النهار، لا أعرف ما السر فيها تحمل بشاشة يغزو منها شعاع إلى صدرك بردًا وسلام، صابر إلى أبعد حد يتحمل الجميع بود وحب صافي شغلني كثيرا  سر ابتسامته ، قلت له :

- ايه سر ابتسامتك الجميلة دي

- ‏اني شفتك

- ‏طيب أيه رأيك نقعد على القهوة شوية ؟

- ‏عيوني ..

انتظرته قليلا في الكافتيريا، أو كما نطلق عليها نحن، أما هو يراها جنته أو ربما بيته، نظافة وتنسيق نظرته ومراجعته لكل ركن بنفس الابتسامة، أغلقها برفق وانطلقنا لم يمر على شارع إلا والكل يلقي إليه السلام، ما هذا؟ هل أسير مع أحد المشاهير ولا أعلم .

في الطريق كان هناك حادث وسيارة إسعاف، ركب مع سيارة الإسعاف وقال: اركب تاكسي وحصلني

 

صاحب الحادثة شاب يركب درجة بخارية، ظننت من فرط حماسته اندفاعه أنه أحد أقاربه، عندما وصلت وجدته طريح الفراش ينقد إليه " كيس دم " اطمئن علي الشاب حتى جاءت زوجته وأبيه، وأثناء خروجنا من القصر العيني إذا بفتاة مع أمها  تجري بها على كرسي المرضى، وغالب الظن أنها توفيت على الكرسي، تقدم وحمل الأم وأدخلها إلى الطوارئ، أشار لي بالنظر يمين قليلا، شعب القصر العيني عالم آخر، فعلا الحياة هنا كفيلة أن تقول لي انت في نعمة كبيرة، أخيرا خرجنا، عرض عليا أن نسير شارع القصر العيني ومن ثم إلى كورنيش التحرير، كنت أحتاج أنا أيضا هذه النزهة من ضيق صدري .

وجلسنا نستريح قليلا ..

- تصدق بفكر انتحر واخلص يمكن اللي حواليا يرتاحوا

- نظر في سخرية:  تبقى حمار

- ‏كدة يا عم إبراهيم ؟

- أيوه عشان مستسلم لشوية أفكار زي السور حاجزة عن بصيرتك جمال الحياة يبقى انت ايه؟

" مازحني واسترسل حديثه، كان محق أنا حمار " كلها كانت أوهام الأفكار سور عظيم تغشى بصيرة الإنسان فلا يرى إلا غمام وضباب، معذور الشيخ مبارك ومعذورة أماني كل ما في الأمر ليس سوى عالم الأفكار، الفكرة تجعلنا ننظر للعالم في مرآتها، الشيخ مبارك ظل يتتبع أن تقدير ذاته في لقب اختصر ذاته الواسعة في لقب من بضع حروف أي كانت نتيجته وكذلك أماني تفعل ما تفعل ربما تنتقم لما حدث من الرجال لترى أن ألسنتهم تتلهث عليها أو أن هذه النظرات والالتفاف تقديرا أنها مازلت جميلة ومرغوبة وأما الناظرين كل يرى فيها شئ في نفسه ربما أضحوكة، وربما يقضي معاها سهرة محاولة عبور ليبرهن لذاته أنه أيضا مقدر فقد رضيت عنه أماني وانتصرت امنيته

 أما أنا آه من سنوات ضاعت بلا فائدة ، عشت سنوات وتحاصرني أفكاري في عالم موازي، تقوده الأوهام، كان ينبغي أن لا أدخل كل أبواب الأفكار، كان عليا الصبر، فليس كل الأبواب المفتوحة مناسبة بعضها فخ  .