إحراق 1350 سيارة واشتعال 2500 حريق فى مبانى حكومية والهجوم على 47 مركز شرطة بقذائف الهاون

حصاد الليالي المرعبة في فرنسا بعد مقتل مراهق من أصل جزائري على يد الشرطة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

■ كتبت: مي السيد

..احتجاجات عنيفة عاشتها باريس وضواحيها، بجانب مناطق فرنسية أخرى، على خلفية مقتل شاب يدعى نائل من أصول جزائرية، برصاص شرطى فى نقطة تفتيش مرورية، وتحولت الشوارع إلى ساحات حرب بين المتظاهرين وأكثر من 40 ألف شرطى، ووقعت أعمال نهب وحرب عصابات فى عدة أحياء، وأحرقت العديد من السيارات والمحلات والمباني خلال تلك الاحتجاجات، وهوجمت السجون ومراكز الشرطة.. فما القصة؟، ولماذا تصاعدت الأمور إلى هذا الحد؟!

◄ الشرطة: المحتجون دمروا مدارس ومكتبات وحضانات ومطاعم وضبط 1311 متهمًا

◄ 40 ألف شرطي يحمون باريس.. والمظاهرات تنتقل لبلجيكا

كان يوم عادي فى حياة الشاب الفرنسي من أصول جزائرية نائل البالغ من العمر 17 عامًا، أو ناهيل كما تنطق بالفرنسية، حيث كان يعمل سائقًا على سيارة أجرة، بدون رخصة قيادة غالبًا، وهو ما تسبب له فى العديد من المضايقات الأمنية، واعتقل أكثر من مرة على خلفية كسره لقاعدة « رفض الامتثال»، عند مطالبته بالتوقف فى الأكمنة المرورية.

إلا أن هذه المرة لم تكن مثل غيرها، حيث كان يقود نائل سيارته الأجرة بصحبة اثنين آخرين، فى منطقة نانتير فى الضواحي الغربية لباريس، عندما أوقفته الشرطة المرورية، لكنه رفض الامتثال لطلبات الشرطى، واخترق الكمين المروري وفر هاربًا، وحظه العثر أوقعه فى إشارة حمراء وازدحام مروري أجبره على التوقف.

فى تلك الأثناء شرع الضابطان فى ملاحقته، وطبقًا للمدعى العام الفرنسي، فإن الضابطين المعنيين سحبا أسلحتهما لمنعه من تشغيل السيارة مرة أخرى، ولكن الشاب نائل لم يمتثل مرة أخرى للأوامر، وأسرع بالسيارة هاربًا فى الوقت الذى أخرج فيه الضابط سلاحه وأطلق عليه النار من الخلف، والتى استقرت فى جسده.

◄ بداية الغضب
كانت الرواية الأولية التى سربتها مصادر شرطية لوسائل إعلام فرنسية، أن نائل قاد سيارته باتجاه شرطيين على دراجتين ناريتين لمحاولة دهسهما، وهو ما دفع أحدهما لإطلاق النار عليه، من مسافة قريبة، ولكن المفاجأة التى قلبت الأمور رأسًا على عقب، وشككت فى رواية الشرطة، هو انتشار فيديو يوثق لحظة إشهار الضابطين السلاح فى وجه نائل، وقتله بعد ذلك عندما أسرع مبتعدًا عنهما.

تسبب هذا الفيديو الذى انتشر كالنار فى الهشيم، بجانب فيديوهات وصور مختلفة بثها نشطاء من موقع الحادث، إلى تأجيج الأوضاع، واتهام الشرطة بمحاولة إخفاء الحقيقة، وهو ما كان الشرارة الأولى لنزول المحتجين إلى الشوارع بالقرب من موقع الحادث، لتعقبها أعمال عنف ونهب وحرق المبانى والسيارات ومراكز الشرطة فى عدة أحياء فرنسية، على مدار عدة أيام.

أظهر الفيديو الرواية الحقيقية للحادث؛ فعقب إطلاق النار على نائل اصطدم بحاجز، ووصلت سيارة إسعاف، وحاول المسعفون إسعافه، وكان سائق سيارة الإسعاف يصرخ من اليأس وهو يتدخل في محاولة بائسة لإنقاذ جسد ناهيل الخامل، موجهًا هجومًا عنيفًا على ضابط الشرطة المرافق للسيارة، وتم نقله للمستشفى على أمل إنقاذ حياته، إلا أنه توفى هناك متأثرًا بإصابته.

◄ تحقيقات النيابة
عقب الحادث وانتشار حقيقة الواقعة، فتح مكتب المدعى العام فى نانتير تحقيقًا، طبقًا للبلاغ الذى تقدم به محامى الأسرة، وألقى القبض على ضابط الشرطة مطلق النار، وتم توجيه تهمة القتل العمد واحتجازه، وأكد المدعى العام، أن «الشروط القانونية» لاستخدام السلاح «لم تتحقق» فى الواقعة، لافتًا إلى أن النيابة استمعت «عدة مرات» لضابط الشرطة الذى أطلق النار، البالغ من العمر 38 عامًا، وزميله المعنى.

وقالت النيابة فى بيان صحفى: إن عمليات فحص الكحول والمخدرات فى الدم أجريت على المتهمين وثبت أنها سلبية، كما تم استخدام مقاطع فيديو للمراقبة ومقاطع فيديو للهواة تم التقاطها أثناء الفحص الذى أدى إلى وفاة نائل، وفى أقواله، أكد الضابط الذى أطلق طلقة واحدة خلال التحقيقات أنه أراد منع السيارة من المغادرة، و شعروا «بالتهديد» برؤية السيارة وهى تنطلق وكان يخشى أن تصطدم بشخص ما، بما فى ذلك هو أو زميله، وطبقًا للمدعى العام فإن نائل توفى بعد ذلك بوقت قصير متأثرًا بجراحه، وكان بصحبته اثنان، فر راكب أول، بينما تم القبض على راكب آخر وهو قاصر أيضا واحتجز.

وأظهر تشريح الجثمان إلى إصابة ناهيل بعيار نارى واحد اخترق ذراعه الأيسر وصدره، وكشفت تحقيقات النيابة أيضا أنه فى سبتمبر 2022، عرض الشاب نائل على قاضى الأحداث لرفضه الامتثال بتاريخ يناير من العام نفسه، كما إنه فى نهاية الأسبوع الماضى تم احتجاز الضحية مرة أخرى لرفضه الامتثال، ومثل أمام وكيل النيابة الذي أبلغه باستدعائه للمثول أمام محكمة الأحداث فى سبتمبر 2023.

◄ والدة نائل
وفور مقتل الشاب نائل، نقلت وسائل الإعلام الفرنسية  تصريحات من والدته مونيا، الذى تبين أنها إحدى النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعى، وأكدت والدته أنه قبل خروجه من المنزل «أعطانى قبلة كبيرة، وقال لي: «أمى أنا أحبك»، فودعته قائلة: «وأنا أحبك، اعتنى بنفسك»، مضيفة إلى أنه بعد ساعة علمت بأن نائل أطلق عليه الرصاص وقتل، وتابعت قائلة: «ماذا سأفعل؟ كان حياتى، كان صديقى المفضل.. كان ابنى.. كان كل شيء بالنسبة لى”.

عقب تلك التصريحات الحزينة، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى، وهو ما دفع مونيا للدعوة إلى مسيرة تذكارية الخميس، سميت بالمسيرة البيضاء فى مدينة نانتير، من خلال فيديو على التيك توك، وقالت «تعالوا جميعا هناك وسنقوم بثورة من أجل ابنى»، مضيفة أنها ستكون مسيرة تمرد، بينما هاجم  محامى الأسرة ياسين بزرو المدعى العام، متهمًا إياه بالتواطؤ المحتمل فى القتل العمد من قبل الشرطى الثانى، لافتًا إلى أنه سيتم رفع شكوى ثانية بتهمة التزوير فى كتابات عامة ضد الشرطة، التى ادعت أن الشاب حاول قتل شخصهم من خلال محاولة ضربهم وهو ما تبين عدم صحته.

تجمع ما يقرب 7 آلاف شخص، وافتتحت والدة نائل المسيرة مرتدية قميصًا كُتب عليه «العدالة لنائل»، مستقلة حافلة صغيرة، وخلفها آلاف من المشاركين حملوا لافتات تحمل الشعار نفسه ولافتات أخرى كُتب عليها «لن نقبل بتكرار ذلك أبدا»، وغادر المتظاهرون مدينة بابلو بيكاسو حوالى الساعة 2 مساءً ووصلوا حوالى الساعة 4 بالقرب من المحافظة، ولزم الجميع الصمت دقيقة بالقرب من مكان المأساة.

ومن تلك المسيرة بدأت أعمال العنف، أمام مقر محافظة المدينة، وأطلقت قوات الشرطة الغاز المسيل للدموع، على المشاركين، كما خرجت تظاهرات مماثلة فى عشرات الأحياء السكنية فرنسا، الأمر الذى دفع ماكرون للخروج بتصريحات فى محاولة لتهدئة الموقف، معتبرًا مقتل نائل بأنه «لا يغتفر»، لافتًا إلى أنه أمر لا يمكن تبريره.

بدوره دعا ماكرون لاجتماع لحل الأزمة فى مقر وزارة الداخلية، منددًا بأعمال العنف، كما دعت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن إلى تجنب أى تصعيد، معتبرة أن القضاء يؤدى وظيفته، وأيضا طالب وزير العدل المحتجين بالتوقف عن العنف.

رغم ذلك عاشت فرنسا، ليالى عنيفة من الاضطرابات، حيث هوجمت مراكز الشرطة ومداخل السجون بواسطة قذائف الهاون، وأحرقت مئات السيارات والمبانى الحكومية وتدمير عشرات المطاعم الشهيرة، ونهبت العشرات من المتاجر الفاخرة والمكتبات، كما هاجم مثيرو الشغب حافلات وعربات ترام التابعة للحكومة، وأحرقوا مئات من صناديق القمامة بمختلف الأحياء والمدن الفرنسية.

من جانبها أعلنت الداخلية الفرنسية عن حصيلة الاشتباكات، وقالت الداخلية؛ إن المحتجين أضرموا النيران فى إجمالى 1350 مركبة، و266 مبنى، بما فى ذلك 26 دار بلدية و24 مدرسة، و2560 حريقًا تم تسجيلها على الطرق العامة، كما إنه تم اعتقال 1311 شخصًا، وأضافت الوزارة أن 79 من رجال الشرطة والدرك أصيبوا، كما سجلت الوزارة 31 هجومًا على مراكز الشرطة و16 هجومًا على مراكز الشرطة البلدية و11 هجومًا على ثكنات الدرك، لافتين إلى أن مدينتى ليون ومرسيليا هما المدينتان الأكثر تضررًا من العنف.

وفرضت أيضا حالة التجوال فى عدة ضواحى لمن دون الـ 16 عامًا لمنع تجدد العنف، منها بلدية كومبيين، ومدينة كلامارت التى اعتمدت مرسومًا يهدف إلى تنفيذ حظر تجول بين الساعة 9 مساءً والساعة 6 صباحا من الخميس حتى الاثنين 3 يوليو، بجانب حى كلوس دى روزيز، بعدما أكد مجلس المدينة أن الكثير من قذائف الهاون استهدفت الشرطة ورجال الإطفاء أثناء الليل.

ومثل العديد من المدن الفرنسية الأخرى، اهتزت مرسيليا بسبب الاشتباكات وتكررت أعمال النهب على عدة شرايين فى المدينة، وهاجم المشاغبون متجرًا بمدافع الهاون وأخر بواسطة ونش ونهبوا المخزونات، وتحطمت نوافذ العديد من العلامات التجارية الأخرى واشتعلت النيران فى عدة أماكن فى المدينة، وتم نهب متجر أسلحة وسرقة بنادق صيد، لكن بدون ذخيرة.

و لم تقتصر أعمال العنف التى أعقبت وفاة الشاب نائل فى نانتير على الأراضى الفرنسية، فبشكل مفاجئ، اندلعت الاضطرابات فى العاصمة بروكسل البلجيكية، وقالت الشرطة، إنه فى بلديات مختلفة ، يتجمع الشباب ويلعبون لعبة القط والفأر مع الشرطة، ردًا على مكالمات بثت على مواقع التواصل الاجتماعى بعد وفاة ناهيل وإجمالا ألقت الشرطة البلجيكية القبض على 29 شخصًا، بينهم 26 قاصرًا.

خلال الأحداث المشتعلة، توالت ردود الأفعال من السياسيين المعارضين والمشاهير، منهم زعيمة المعارضة والمرشحة الرئاسية السابقة ماريان لوبان التى هاجمت الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وأكدت أنه أدلى بتصريحات غير مسؤولة عند تعليقه على الحادث كما إن باتريس بيساك، عمدة الحزب الشيوعى الفرنسى فى مونتروى، اتهم الحكومة بمحاولة إنكار الواقع وإخفاء وجود مشكلة في العلاقة بين الشرطة والسكان، مطالبا بنقاش سياسى يتضمن الاعتراف بأن جزءًا من قوات الشرطة لدينا تحتاج لتدريب.

وفى مجلس النواب قدم العديد من الأعضاء، مشروع قانون يهدف إلى السيطرة بشكل أفضل على عمليات إطلاق النار فى حالة رفض الامتثال، بينما طلب رئيس الجمهوريين، إيريك سيوتى، تفعيل حالة الطوارئ «دون تأخير».

◄ غضب الشرطة
بدورهم أعربت نقابات الشرطة الرئيسية عن غضبها وعدم فهمها لتصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء إليزابيث بورن، وشدد التحالف الذى يضم وحدة الشرطة، ضباط القوات الخاصة، والشرطة البديلة، على «افتراض البراءة» الذى يجب أن يستفيد منه زميلهم، إلا أن الرئيس الفرنسى فى نظرهم أدان ضابط الشرطة، وذلك خلافًا لتصريحاته بأنه يدعم الشرطة، مشيرين إلى أنه لا يمكن تصور أن رئيس الجمهورية ، مثل بعض القادة السياسيين أو الفنانين أو غيرهم ، يستهزئ بفصل السلطات واستقلال العدالة من خلال إدانة زملائنا حتى قبل النطق بالحكم.

يعتبر مقتل نائل هو ثالث حادث إطلاق نار مميت خلال توقف حركة المرور فى فرنسا حتى الآن فى عام 2023، انخفاضا من 13 وهو رقم قياسى عن العام الماضى، فقد وقعت ثلاث عمليات قتل من هذا القبيل فى عام 2021 واثنتين فى عام 2020، وفقا لإحصاءات أظهرت أن غالبية الضحايا منذ عام 2017 كانوا من السود أو من أصول عربية.

وفي عام 2021، سجلت السلطات حوالى 27 ألف حالة رفضًا للامتثال، بزيادة تقارب 50٪ خلال عشر سنوات، وفقًا للأرقام الرسمية ومن بين هؤلاء، سجل 5247 رفضًا للامتثال لـ «خطر الموت أو الإصابة»، وفقا لأحدث الأرقام الصادرة عن السلامة على الطرق الفرنسية.


 

;