يوميات الاخبار

هذا هو.. قاتلى وقتيلى!!

سمير الجمل
سمير الجمل

سمير الجمل

الكل أمام هاتفه هائم على وجهه.. تائه عن نفسه يتقاسمها مع حشد من البشر لا يعرفهم ولا يعرفونه ويملكون حق اقتحام حياته والتلصص على أخباره وهو حائر لا يدرى أيهما حياته الحقيقية

مشهد (١)
عندما انتهت دورة بطرس غالى الأولى أمينا عاما للأمم المتحدة وبعد أن أعلنت مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها.. أنه لا يبلغ الدورة الثانية مهما فعل.. وتحقق ذلك عقابا على رأيه الذى أعلنه وتعاطف انسانيا فيه مع ما جرى فى مذبحة قانا فى لبنان (١٩٩٦) على يد جيش الصهاينة وراح ضحيتها أكثر من ١٠٦ شهداء من المدنيين بخلاف الجرحى والمصابين.


كان غالى يداعب عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية قائلا وهو فى المنصب: أنا الباشا!.. ولما تولى منصب سكرتير الفرانكونية ردها موسى إليه: معقول يا باشا تقبل التنازل لتصبح مجرد بك أو أفندى؟! لان الفارق شاسع بين هذه وتلك كان جواب بطرس: يا موسى لو استيقظت من نومى ولم أجد أمامى ما أفعله.. فسوف أموت فى فراشى من هول الفراغ.. إن الحركة هى البركة.


مشهد (٢)
عندما داهمت غالبية موظفى القطاع العام فى عصر رئيس الوزراء عاطف عبيد عاصفة الخصخصة التى لم تبق ولم تذر.. وجد الاستاذ (س) ابن الخمسين أن حياته الوظيفية قد تم قصفها على غير ميعاد أو إرادة منه.. فى أول أيام المعاش المبكر استمتع بالكسل اللذيذ.. وبعدها دارت رحى الحرب من زوجته وبعد أن ضاعت مكافأة الخدمة فى احلام المدام المؤجلة.. فكان ينزل صباحا فى ميعاد شغله القديم.. يسلم نفسه إلى مقاعد المقهى ومنتخب العاطلين من أمثاله هربا من جحيم السؤال والمطالب.. حتى مات فى المقهى فى اللحظة التى فاز فيها لأول مرة بدور الطاولة المحبوسة.. بعد هزائمه المتكررة مع الفراغ.


مشهد (٣)
فى رواية «روبنسون كروزو» التى كتبها «دانيل ديفو».. يجد البطل نفسه فى جزيرة معزولة.. بعد أن نجا بمفرده من حادث مروع ابتلع السفينة التى كان عليها.. البحر من خلفه.. وشبح الموت أمامه.. لكنه لم يرفع راية الاستسلام فقرر أن يقهر عزلته ووحدته بما يضمن له البقاء ثم كان صراعه مع أحد المتوحشين.. وقرر أن يكون هدفه الأخذ بيده إلى اجواء العالم المتحضر الذى جاء منه.. وقهر الوحش بالمعرفة والعمل.. وكأنه قد قرأ كلمات الدكتور مصطفى محمود التى يقول فيها: العمل تشحيم ضرورى للعقل والقلب والمفاصل وبدونه تصدأ المفاصل ويتلف القلب وينطفئ العقل وينخر سوس الفراغ والبطالة فى المخ ومعها سلسلة من الأوجاع يعرفها أكثر أبناء الطبقة الراقية وأطباء الطبقة الراقية.
جملة مفيدة
وقت الفراغ خرافة وضعها فارغ فلا تردد هذا اللفظ حيث لا فراغ إلا عند التافهين.


مشهد (٤)
اختارها كزوجة لانها بسيطة على الفطرة ورحبت أن تكون «ست بيت» لكاتب مشهور.. وعندما وجدته يجلس كثيرا بدون أن يكتب أو يقرأ.. وعندما طلبت منه أن يشترى لها بعض لوازم البيت اعتذر لانه مشغول.. وادهشها حيث لا ورقة ولا أقلام ولا كتب ولا حركة فهو يجلس بالساعات على هذا النحو.. حتى لعب الظن برأسها أن يكون رأسه قد انشغل بامرأة اخرى.. وصبرت قليلا حتى تقطع الشك بسكين اليقين لكنها وجدته يترك مكتبه ويتجه إلى حوض المطبخ ويأتى على الصحون والحلل والملاعق حتى تعود كما ولدتها مصانعها.. بل ويذهب إلى السوق ويأتى لها بما تريد وما لا تريد.. ثم يعود إلى تلك الجلسة الصامتة.. وبعد أن ضاق باسئلتها وغيرتها وطلقها.. عرفت أن التفكير هو الجانب الأصعب فى شغل الكاتب.. يفكر فى ساعات ويكتب فى دقائق.. وما رحلته إلى حوض الأطباق والسوبر ماركت إلا فسحة من التفكير بشيء روتينى يدوى.. يعيد من خلاله شحن بطاريات النافوخ.
فى بيت أهلها هى تجلس بالساعات متأملة فى الفارق والاختلاف بين «فراغ قاتل.. وفراغ مقتول». قال لها شقيقها الذى يقرأ كثيرا إن زوجة تولستوى الكاتب الروسى العالمى كانت جميلة وابنة قصور تحب الموسيقى وتساعده فى كتابة رواياته على الآلة الكاتبة.. لكن الفراغ العاطفى حال بينها وبينه حتى قال: مصائبى فى الدنيا ثلاث.. اللغة وتغلبت عليها بالاجتهاد.. والفقر.. وقهرته بالاقتصاد.. وزوجتى وتلك هزيمتى الكبرى وكلمها أيضا عن زوجة ارسطو التى ارتبطت به منبهرة بحكمته وعلمه لكن «زانتيب» تقول عنه: لقد أحب الكتابة أكثر مما أحبنى.. ووجد الأُنس فى جلسات التأمل منفردا بعيدا عن الانس بى.. أما هو فقال: لقد ارتبطت بزوجة طائشة ساعدتنى كثيرا أن أكون حكيما.. وكانت تصب الماء فوق رأسه وهو يجلس بين تلاميذه.


جملة مفيدة
قال توماس هويز: وقت الفراغ أساس الفلسفة. وقال المفكر الإسلامى عائض القرنى: الفراغ طريق ناجح للانتحار.. وبين فراغ يعلمك الفلسفة.. وفراغ يأخذك إلى الهاوية ابحث عن العلم.. ولا تجعل عقلك فارغا.
مشهد (5)
فى ظهيرة أحد الأيام.. جلس مجموعة من الشباب يلعبون الطاولة ويدخنون الشيشة.. والسجائر.. ومر عليهم رجل بسيط يجمع القمامة.. نظر إليهم مستغربا: انتم قاعدين بتعملوا ايه فى وقت الشغل؟.. قالوا: إنها البطالة.. ونظر فوق رءوسهم حيث يجلسون فإذا لافتة معلقة على الشجرة تقول: نبحث عن عمال بأجور مجزية!!
مشهد (6)
عندما دخل أحدهم على رابعة العدوية أم الزهد والتصوف ونظر فى غرفتها فلم يجد سواها.. وأدهشه أن تعيش وحيدة وكانت قد بلغت من الكبر عتيا.. فسألها:
− من معك؟
نظرت إليه مبتسمة:
− أنا وحدى.. مع الله وحده.. ومن كان الله معه فلماذا يبحث عن البشر؟! والله الغنى والمغنى.. انظر إلى اعماقك فلست وحدك.. وإذا نظرت إلى روحك ووجدتها فارغة فمن يملأ هذا الفراغ.. وبأى شىء؟
وقد قالوا إن الطيور الصغيرة هى فقط التى تحتاج إلى رفقة.. لان النسر (سرب) بمفرده.. بهذا تميز عن غيره..
جملة مفيدة
تعددت وسائل الترفيه وشغل الفراغ.. حتى أصبح الموبايل أعز على بعض الناس من الأهل والولد..
وسبحان الله.. عندهم ما يشغل فراغهم.. حتى اكتشف العاقل منهم انه يأخذهم إلى فراغ أكبر.. والأمة التى ضيعت وقتها سفاهة.. أمة ضيعت نفسها بنفسها.
اعتراف
تقول الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمى فى روايتها «شهيا كفراق»: أهم أعمالى كتبتها أيام عزلتى يوم أن كان أصدقائى لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة فكيف أصبحت ادير عالما افتراضيا بتعداد سكان خمس دول عربية؟ هذا زمن التيه والتشتت.. الكل أمام هاتفه هائم على وجهه.. تائه عن نفسه يتقاسمها مع حشد من البشر لا يعرفهم ولا يعرفونه ويملكون حق اقتحام حياته والتلصص على أخباره وهو حائر لا يدرى أيهما حياته الحقيقية.. أهى التى يعيشها؟ أم تلك التى يشاهدها على شاشة هاتفه؟.. فقد سقط الحد الفاصل بين العالم الواقعى وذلك الافتراضى.. وانتهى زمن الاشتياق.. الآخر من تناولنا أخباره وأفكاره وأسفاره وصوره.. وأصبحنا نشتاق إلى أنفسنا التائهة وكل ما نتمناه هو أن نعثر عليها ونخلو بها ولو قليلا.


حديث
روى الإمام البخارى فى صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال النبى محمد صلى الله عليه وسلم:
«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ». ويأتى الفيلسوف والكاتب الانجليزى الشهير «برنارد شو» لكى يقول بعد ذلك بسنوات:
− الطريقة الوحيدة لتجنب التعاسة أن يكون لديك من وقت الفراغ ما يجعلك تسأل نفسك فيه فيما إذا كنت سعيدا أم لا؟.. وكيف تعيد حساباتك مع ذاتك ومع الآخرين..
وعن فراغ النفس قال أحد الحكماء العرب: النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.. وانفردوا بأنفسكم حتى تعرفوها حق المعرفة.. وتلك هى البداية إلى العلو والارتقاء باستثمار الفراغ نبلغ البصيرة.. وأن نترك الفراغ يأخذنا إلى حيث يريد نصاب بعمى القلوب والعيون على اتساعها شاخصة وقد قال ربنا سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم:
(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الاعراف 200/201).
وقال الإمام على كرم الله وجهه ورضى عنه:
إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فالتمسوا لها من الحكمة طرفا. وكان عبدالله بن عباس رضى الله عنهما إذا أفاض فى القرآن الكريم والسُنة قال لمن عنده: احمضوا بنا − أى خوضوا − فى الشعر والاخبار وما يروح عن النفس.. فهى إذا كلت ملت.. وساعة وساعة كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم.
قصة
فى الخمسين من عمرها.. وجدت أن قطار الزواج قد فاتها وأن وجودها بجوار أمها لخدمتها.. يستهلك بعض الوقت وكانت بالكاد تقرأ وتكتب.. ودعت لها أمها أن يعوضها الله خيرا.. وكانت أبواب السماء مفتوحة.. وبدأت تدرس من منازلهم وعرف الجيران بأمرها فانهالت عليها المساعدات فى علمها.. وحصلت على الابتدائية ثم قفزت إلى الاعدادية والثانوية.. وكلما تجاوزت مرحلة فكرت فيما هو أبعد ووجدت نفسها تبلغ مرحلة الماچستير والدكتوراه.. وبعد الستين بقليل كانت تبدأ الحياة من جديد وهى تنطلق وتصدر الكتب وتقوم بالتدريس وتحضر المؤتمرات وتسافر هنا وهناك.. ومع كل خطوة تتجه إلى قبر أمها تخبرها ببركات دعائها وتعدها بالمزيد. وفى مناسبة الاحتفال بعيد الأم فى واحدة من محاضراتها.. والمدرج عن آخره.. وجدت حالة من الصمت لم تعهدها من الطلاب والطالبات.. فقد أعدوا لها احتفالا خاصا عنوانه: «من مثلك من الأمهات عندها المئات من الشباب والشابات» ووسط دموعها الحارة لم تجد ما ترد به عليهم إلا أن قالت: (أشكر الفراغ.. قاتل غيرى.. ولكنه قتيلى).