مريم عبد العزيز تكتب : سيقان

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

ثلاث سيقان، اثنتان ترتعشان وثالثة بثبات تقودهما، وظهر انحنى بعض الشىء اعتيادا للميل عليها ، معدن لامع يلبس مطاطا رماديا عند طرفه كما تلبس أى قدم حذاءها الرياضى. رأيتها من الخلف، من أول الشارع، فأدركت أن قافلة السيقان هذه ربما يبيد الزمان دون وصولها للناصية الأخرى ، الشارع ليس طويلا لكن ما به من آثار عمليات الحفر والردم المتكررة لتجديد مرفق أو مد آخر يجعل رحلة الوصول أكثر صعوبة.

أتخيل الحياة دائما ك الألعاب الإلكترونية تزيد صعوبتها بتقدم اللاعب فى المستوى، تضع له عقبات أكبر، وتسد أمامه الطرق. أتساءل إلى متى ستظل الحياة تختبرنا، ألا يكفيها خطواتنا المتعثرة دليلا أننا لا نصلح للاختبارت. ماذا يغريها فى تعثرنا لتنقلنا لمستويات اللعبة الأصعب ، التيشيرت البولو البترولى قادم من عالم غير الذى أتى منه بنطلون رمادى بكسرتين من كل جانب، يخبرك الفارق الزمنى بينهما بالعبور بين صيحات الموضة أو العبور فى الحياة نفسها مع محاولة التأقلم أو تقريب المسافات بين معرفة المرء القديمة وما يستجد عليه من معارف. كنت اقترب بسيارتى الحمراء، وبدا أنه ثابت رغم حركة السيقان الثلاث فى صحراء الربع الخالى الكائنة بين أول الشارع وآخره. كنت أقترب حتى وقفت بمحاذاته تماما وقلت يا عمى.


كيف يواجه الإنسان قلبه الضعيف، أو ذكرياته الأليمة؟ أجيب بأن الضعف والألم هما الوحشان اللذان يبتلعان أبطال «الجِيمز» إذا لم يقتلوهما، الحياة حرب إذن.. حرب فى الخارج وأخرى باطنية. صرخت أمى عند سلم من درجتين فى ممر قصير يبدأ من غرفتها وينتهى فى صالة البيت. صرخت بعد فرقعة أتت من مفصل ركبتها اليمنى أثناء النزول. لطالما أصرت أمى أن الهبوط أصعب من الصعود، يخالف مبدأها كل منحنيات الرسم البيانى التى أتذكرها من دروس الإحصاء فأجادلها. يلهث الإنسان فى الصعود، تنقطع أنفاسه. فتقول إن الإنسان خلق فى كبد فى الصعود وفى الهبوط، وإن علم الإحصاء لن يفيد إذا كانت ساق «أم الإنسان» مصابة. صرخت فقطعتُ الممر هرولة فى خطوتين. تسمرت فى موضع الانفجار وأبت أن تتركه، حاولت إقناعها بالحركة دون جدوى حاولت أن أسندها فلم تقتنع بى عكازا يصلح للمهمة، أنا عكاز هشّ يهتم بمنحنيات الإحصاء أكثر من اهتمامه بآلام الناس. وبينما رفضت ذراعى الممدود ارتضت بعصا المقشة بديلا، ساق ثالثة صماء لا تعرف الجدل ولا ترتعش من هول الانفجار بل ليس لها ركبة من الأساس. بعد ساعة كنا قد عبرنا ممرا طويلا فى صحراء بيتنا.


ست سيقان، أربع لامعة تلبس المطاط الرمادى فى أطرافها، تجر بينها اثنتين فى استسلام. أقول إن هذا الدعم يقتل المقاومة. فيقول إن هذه السيقان المستسلمة يأست من المقاومة. خرجنا ولم يكن خروجنا فى تلك الأيام بالسهل. لكنها محاولة للتمرد على الاستسلام والاحتفاء بالحياة برغم وصول «الجِيم» لأكثر مراحله عنفا. خرجنا كجنود يسكرون قبل المعركة غير عابئين بما سيلاقونه غدا. السيقان الست تتدلى من باب السيارة يُربكها نفير سرب سيارات خلفها يتابع المشهد فى مزيج من الشفقة والضجر.

ومن الخلف بدا البنطلون الرمادى ذو الكسرتين والقميص الكاروهات بحرين يبتلعان جسد أبى. خطوتان للأمام يشوبهما الاضطراب سقط بعدهما البنطلون الرمادى مذعورا من الموقف فقيّد حركة الساقين المستسلمتين بالأساس. القيد والاستسلام وحوش جديدة أكثر ضراوة تدخل ساحة «الجِيم» فى المراحل المتقدمة جدا التى تقترب من النهاية. تخترق ضحكاتنا النفير كجنود سكارى فى ساحة المعركة. ونستعير من صيحات أزياء ميتة «حمالات» لتحمل الأكتاف عن الساقين عبء البنطلون الرمادى. 


للغة الفرنسية جرس رومانسى عجيب، فإذا ذكر أحدهم «باريس» فى حديثه مستبدلا حرف الراء فى وسطها بغين ومتجاهلا حرف السين فى نهايتها مكتفيا بتمديد الياء فقد ينسيك هذا الجرس جرائم تاريخها الاستعمارى ويسحبك لمساحات أرحب من المشاعر. حين قلت يا عمى، لم تكابر السيقان الثلاث وفى خطوات بطيئة شغل بنطلون رمادى بكسرتين وتيشيرت بولو بترولى المقعد الفارغ بجوارى. سألته عن وجهته فقال «باغييى». ضحكت وسألته من أى اتجاه نصل لمدينة النور، فأشار إلى اليمين. قال إن لقب «عمى» الذى ألبسته أياه لا يناسبه إذ هو فى عمر جدى، خدعه الوجه الطفولى الذى أخفى به سنوات عمرى. وحاولت بفرنسية ركيكة أن أطلعه على عددها الحقيقى ففشلت، فرد بأن عمر القلوب هو المعيار. أمتار قليلة قطعتها السيارة حتى وصلنا لوجهته وأمام باب العمارة قضينا ما يزيد عن نصف الساعة داخل السيارة تحدث فيها بلا انقطاع بسرعة تعوض بطء السيقان. امتد خلالها أثر باريس الرومانسى لحديثنا فحكى عن حبيبته التى تزوجت غيره وعن حضوره عرسها ثم سفره ل باريس يتلهى بالدراسة عن فقدان الحب وبعد ما يزيد عن خمسين عاما التقاها مرة أخرى فى نفس البيت الذى دخله مهنئا بالزفاف وللمفارقة كان يعزيها فى وفاة زوجها.

ولما كانت الشيخوخة قد غيرت ملامحهما فقد عرّفها بنفسه بأغنية لأم كلثوم سمعاها سويا فى زمن موغل فى القدم. كان يجلس بساق مصابة إثر حادث فى شرفة بيته المقابل لبيتها يستمع لحفل الست، وكانت هى زميلة لأخته تسكن البيت المقابل، أرسلت إليه طلبا بأن يرفع صوت المذياع قليلا ليصلها الصوت فى شرفتها، وتابع هو انسجامها مع اللحن عبر مرآة صغيرة فى كفه.

أتعجب من السهولة التى يحدث بها الحب وأتعجب أكثر من صعوبة نسيانه رغم كل شىء؛ رغم الألم والبعد والزمن الذى سرى بين اللقاءين. حين استحضر ساقه المصابة من تلك الذكرى البعيدة، نظرت للعكاز وبدا أن الشيخوخة بريئة من هذا الذنب وساورنى شك بأنه - أى العكاز - شاهد على هذه الأحداث وأنه بالضرورة كان رفيقه فى باريس وقد فسرت هذه العشرة كيف لكف واهن أن يقبض بتلك الشدة على المقبض. 


بعد زيارة الطبيب استعرنا من بعض الأقارب عكازا معدنيا ينتهى طرفه بقطعة من المطاط الرمادى. وأعطت أمى اسما لساقها المصابة. يقولون إن الأشياء حين تحمل أسماء فإنها تُخلّد، ألم يكن هذا هو درس آدم الأول. أنا لا أريد لهذا الألم أن يطول ربما لهذا فضلت الاستعارة عن شراء عكاز جديد، فهى تحمل أملا بأنه عَرَض مؤقت وأن العكاز ولو أطال البقاء فى بيتنا فإنه حتما سيعود لأصحابه.

وتمسكت ماما به لكنها لم تعطه اسما ربما لأنها تعرف أن كفوفا أخرى سبقت كفها فى القبض بعنف على رأسه، تحاول استحضار صورها وسيرتها مع العكاز نفسه فتخذلها الذاكرة. لم تعطه اسما لكنه ظل ملازما لها لا يبتعد عن مجلسها بأكثر من نصف متر؛ هو مقدار مد ذراعها.

وأصبحت عينى تبحث عنه لتعرف مكان جلوس ماما. ورغم الدواء والدهان وعكاز غريب لم يتغير حال الساق ذات الاسم. تجاهلت بدورى اسمها وتمسكت بفكرة الاستعارة بمعناها المادى ومعناها البلاغى؛ هذه الساق المعدنية استعارة عن الألم واستعارة عن العجز واستعارة عن ساق أخرى أخشى عليها من الاستسلام لسطوة المعدن الذى لا يتألم ولغواية قطعة مطاط فى نهايته تعدك بألا تنزلق فى نهاية «الجيم».