صابر رشدى يكتب : بدايات

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فى تبادل مؤقت للأدوار، اتخذ الفتى شديد الانتماء دور المحاور، مبادرا الكاتب الكبير:
أخبرنى عن البدايات!
اللافت للنظر، أن الأخير، عرف على الفور أى البدايات يقصد مريده:
فى المدرسة!
قبل أن يقوم الشاب الصغير بتصحيح مسار الحديث، ظنا منه أن مدخل الحوار قد جاء على نحو خاطئ، عاجله الرجل: 
انتظر، ما أقوله صحيح. 
وصمت قليلا، ربما استطاع اختراق الماضى، والعودة إلى سنوات بعيدة ، استطرد بعدها، بادئا الكلام: فى صباى، بالمدرسة الإعدادية تحديدا، كان يجلس إلى جوارى تلميذ عبقرى، موهوب بعمق، يعشق الرسم، ويجيده على نحو فريد ، كان مثار إعجاب الجميع، طلبة ومدرسين. فن البورتريه يستهويه بشدة، يرسم الوجوه والملامح بإتقان شديد، لا يكف عن عمل تخطيطات، وإسكتشات سريعة، يقوم بتلوينها وفقا لذائقة رائعة فى هذا العمر المبكر. وكنا ندفعه إلى الرسم بالطباشير على السبورة السوداء، بين الحصص، أو فى الأوقات التى يتغيب فيها أحد المعلمين، كان الصبى يعشق صورة جمال عبد الناصر. البروفايل الشهير، الملتقط من جانب الوجه، وتلك الصورة التى يرتدى فيها قميصاً بنصف كم، ويضع قبضة يده اليمنى أسفل ذقنه، وهو ينظر إلى العالم بثقة، يرسمه بسلاسة وانسيابية، ثم يكتب بخط عريض أسفل الصورة: «الزعيم».

كلمة واحدة محملة بالدلالات، ولها صداها المريح. كنت أتابع أصابعه وهى تمر على اللوحة السوداء، حتى حفظت تحركاتها. من أين يبدأ، وأين ينتهى. وكنت أحاول تقليده، فشلت فى تعلم هذا الفن، لكنى تعلقت به منذ ذلك الحين، وصرت أتابع تطوره بشكل دقيق، محتفظا بكتالوجات ضخمة لعمالقة هذا المجال، جالباً معى ما أستطيع أثناء عودتى من سفرى إلى الخارج، بعد زيارة المتاحف الكبرى. ربما هزتنى أخيراً، لوحات الرسام الكولومبى الشهير فرناندو بوتيرو، وتركت لدىَّ أثراً لا يمحى، عندما قام بتجسيد وحشية الاحتلال الأمريكى للعراق.

لقد فُجع العالم بأسره من هذه الرسومات؛ التى فضحت حجم القسوة على ضحايا سجن أبو غريب، مُعيدة إلى الأذهان بشاعة تلك اللحظات، ومنحها للتاريخ محفورة بألوان نارية، كى لا تهرب هذه الجرائم من الذاكرة الإنسانية، وتنفلت إلى النسيان، جالبا لهذه المشاهد بقاء مؤلما.

كنت مولعا ببوتيرو، يدهشنى عالمه المبهج، المختلف، ملمح البدانة على شخوصه البرجوازية، المتخمين السعداء، بالغى الفخامة والتوقير، لكن عندما شق لنفسه مسارا آخر، متجها بريشته وبالتة ألوانه إلى بغداد، معرضا حياته للخطر، زاد إعجابى به، وتقديرى له كفنان من طراز نادر، لقد ذهب كى يسمع ويرى، ويعاين هذا الخراب عن قرب، لينقل إلى العالم ما جرى، من تعذيب، وممارسات شاذة ووضيعة، متخليا عن سخريته هذه المرة...


كانت أصابع الفتى، لا تطاوعه على رسم المدرسين الذين يمتازون بالعنف، والقسوة، كرد فعل صامت من جانبه، حيال من لا يستحق أن يجسد صورته، حتى جاء يوم وطلب منه تلميذ فى الفصل، أن يقوم برسم معلم مرهوب الجانب، حاد، وقاس، كنا نشعر بالرعب منه، ونعمل للمادة التى يقوم بتدريسها ألف حساب، كان لا يتسامح فى الخطأ، ولا يعطى فرصة لتصحيحه، يكون العقاب فوريا، وبلا إمهال، حصته بمثابة جلسة تعذيب، يتلقاها كل منا مكرها، حيث لا مفر من حضورها.. 


فى هذا اليوم، الذى أعلن فيه عن عدم مجيئه. أصررنا على رسمه، بإلحاح شديد، فرضخ الفتى الموهوب، وبدأ فى التنفيذ بخيال يتجاوز عمره. رسم وجهاً مكتملاً، مقطب الجبين، شديد الشبه بالمدرس. أضاف إليه قرن شيطان، ونابين طويلين، وأخذ يشكل له جسدا شائها، ويداً  تحمل سوطاً، والأخرى تحمل جمجمة. كان يبالغ فى استظهار البشاعة وهو مضيفا تفصيلة بعد أخرى. فور انتهائه، كتب كلمة واحدة: الأستاذ «دراكولا». فصاح التلاميذ، مصفقين، ومرددين: دراكولا. دراكولا. دراكولا. بإيقاع هستيرى، ساقط فى التشفى، وبنبرة انتقامية، تثأر لنفسها من التنكيل وضربات العصا الموجعة.


بذهنية يقظة، وإمعان فى التشويه، كان الفتى يبالغ فى الخطوط واللمسات التحقيرية. ظل يجود بتمهل، ودقة، حتى دخل العالم بعدها فى صمت عميق، لم ينتبه إليه الصبى، لكنه شعر بهدوء تام، يخيم وراء ظهره، وينسحب صداه على المكان. لم يعد هناك صخب أو ضجيج، تلاشت نداءات الاستحسان التى كانت تحرض على المزيد، وشعر بوخزات شائكة فى ظهره، وأن هناك عينين تخترقانه، وتراقب أصابعه، لم يسمع سوى أنفاسه، وحفيف الطباشير على اللوحة السوداء، مضخما، لا تصاحبه نأمة، فاضطر إلى الالتفات، ليعرف، ما الذى يدور خلفه. كانت المفاجأة صادمة. المدرس نفسه، هو من يقف وراءه، متطلعا إلى مايفعل، معاينا هذه الهواية السرية:


دعها كما هى! أمره محذراً.

كانت قلوب التلاميذ تخفق، مأخوذة بالرعب، وهم يراقبون ما يحدث.
أضاف: 
من هذا؟
كان الصمت يمر ثقيلا، مقبضا، لم يكن هناك مجال للمرواغة، فالحقيقة دامغة، إنه هو. حتى لو اتخذت الشخصية هذا الشكل الكاريكاتورى المشوه.
قال الصبى بصعوبة:
إنه «دراكولا».
لكنك كتبت تحته «الأستاذ دراكولا».
لم تكن نبرته تنذر بالشر هذه المرة.
ابتلع الصبى ريقه بصعوبة. نطق أخيراً، وبثبات، وسط دهشتنا:
كنت أقصد حضرتك.
كنا حائرين، بين انطلاق ضحكة مدوية، أو قبر تلك الحماقة الطارئة، حتى لا يكون الثمن فادحا. شاعرين بالتوتر، والتشوش. رحنا نكتم أنفاسنا حتى ينتهى هذا الموقف برمته.
عد مكانك. أمره المعلم.
ثم نادى تلميذا آخر ليزيل الرسم. وسط ارتياحنا الحذر.
بعد لحظات من التفكير، خاطبنا بنبرة رصينة أظهرت لنا إنساناً آخر:
ربما لا أعرف شيئا عن شكل المستقبل، ولا يمكننى التنبؤ  بمصير أى منكم، ولكنى أراهن على هذا الولد، إنه موهوب، يجيد ما يفعله، ويعبر عما بداخله بوضوح. لم ينكر ما قام به. لم يخف، وهذه أولى درجات الشجاعة النادرة، والنزوع إلى الحرية. قد لا تستوعبون ما أقوله الآن، ولكن سيجىء وقت وتدركونه...


فى هذا اليوم، جرى كل شيء بعيدا عن توقعاتنا، لم يحدث العقاب المنتظر. تبدلت علاقة المعلم بنا، وبالصبى على وجه الخصوص، صار راعيا له، ومشجعا، يحثه على المواصلة، حتى أصبح بطلا مكرسا لحقبة صبانا إثر هذه الايماءة المبكرة...


هذه هى البداية يا صديقى، ألف باء مقاومة. صغير لا يملك سوى الخيال، وإصبع طباشير، يقوم من خلالهما بالنيل من النماذج المعادية، ومعلم شرس، يفاجئنا بحكمته، وتقديره للموهبة. ويقوم بتثمينها بأسلوب متحضر، متغاضيا عن إهانة بريئة، مسيطرا على موقف شائك فى لحظة واحدة، قابضا على ما هو جوهرى، وتثبيته فى عقولنا. فكلماته ما زالت محفورة فى ذهني. إنه أمر لم أستطع نسيانه..


التقط الكاتب الكبير أنفاسه، ثم أضاف مختتما حديثه: هناك تجارب كثيرة أيضا، وخبرات مكتسبة، حولتنى من مؤرخ للخسارات، يطالع ممروراً ما يجرى، ويسجله بأسى، وروح عدمية، إلى شخص آخر، يغويه التمرد.