يوميات الاخبار

فى رحاب المسجد النبوى

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

وعاد الأسطول المظفر بالأسرى إلى مصر. وحمى المصريون المسجد النبوى والجسد الشريف

طلع البدر علينا
بعد ثلاثة عشر عاماً من البعثة النبوية المباركة شد النبى صلى الله عليه وسلم رحاله إلى المدينة، بعد أن عانى من أهل مكة هو وأصحابه أشد المعاناة. حين وصل إلى المدينة على ناقته القصواء استقبله الجميع بالغناء:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت نورت المدينة مرحباً يا خير داع
وتقدم الجميع ليمسكوا بالناقة وكل منهم يقول: يا رسول الله، نحن بنو فلان، أقم عندنا فى العدد والعدة والمَنَعَة.
فيجيبهم صلى الله عليه وسلم: دعوا الناقة فإنها مأمورة.
أى أنها تسير بأمر الله ولا تسير دون توجيه. ويقول: إنما أنزل حيث أنزلنى الله.
أخيراً توقفت الناقة عند مِرْبَد ينشر فيه أصحابه البلح ليجف. وارتفع صوت يسأل:
- لمن هذا المِرْبَد؟
وسرعان ما جاءت الإجابة:
- ليتيمين اسمهما: سهل وسهيل. تحت ولاية رجل يسمى معاذ بن عفراء.. وذهب الناس لاستدعاء معاذ بن عفراء الذى أقبل مسرعاً، سعيداً بأن ناقة رسول الله بركت فى أرض اليتيمين اللذين يرعاهما. قال معاذ: هذا المربد يا رسول الله لسهل وسهيل ابنى عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه فاتخذه مسجداً.. ولم يرض النبى أن يأخذ الأرض دون شراء حتى يكون المسجد مبنياً على أرض حلال. ثم سأل صلى الله عليه وسلم عن مكان ينزل فيه حتى يكتمل بناء حجرات له ولزوجاته، فقال: أى بيوت أهلنا أقرب؟
وتقدم أبو أيوب الأنصارى قائلاً: بيتى يا نبى الله. هذه دارى، وهذا بابي، وها أنذا آخذ رحلك.
فقال له الرسول الكريم: فانطلق فهييء لنا مَقِيلاً (المقيل هو مكان القيلولة أو مكان الراحة والنوم).
أمر رسول الله بتهيئة أرض المربد، تمهيداً لبناء مسجده، ونزل بنفسه للمشاركة فى تمهيد الأرض وبناء المسجد مع الناس. فلما رأى المهاجرون والأنصار النبى يحمل الطوب اللبن حتى يغبر صدره، راحوا يتسابقون فى المشاركة ويبذلون الجهد ما استطاعوا. وهم يرددون:
لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
فيجيبهم صلى الله عليه وسلم:
لاهُمّ إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
ويردون عليه:
لئن قعدنا والنبيُ يعملُ لذاك منا العمل المضللُ
كان المسجد النبوى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً بالطوب اللبن. وسقفه من الجريد. وأعمدته من خشب النخيل. أما مساحته فكانت سبعين ذراعاً طولاً (الذراع يساوى 53 سم) وثلاثة وستين ذراعاً عرضاً. المهم أن أول ما أنشأه الرسول فى عاصمته الجديدة هو المسجد.
حين كثر عدد المسلمين قرر الرسول توسعة المسجد، وزيادة عشرين ذراعاً فى الطول، وعشرة أذرع فى العرض. وزاد فى الأعمدة صفاً من الأمام وصفاً من الخلف، وجعل له ثلاثة أبواب. وهكذا صار المسجد قادراً على استيعاب المصلين ومجالس العلم والحرب والقضاء، وكل ما يتعلق بشؤون المسلمين.
الأذان
سأل صحابى صاحبه: لم أراك شارداً؟ فيم تفكر؟
قال: فى أمر علمت أن النبى صلى الله عليه وسلم يفكر فيه.
- أى أمر؟
- إن النبى يفكر فى طريقة لإعلان المسلمين بحلول وقت الصلاة، ولم يهتدِ بعد لهذه الطريقة.
- لماذا لا يأمر باستخدام بوق مثل أبواق اليهود؟
- لقد هم بهذا الأمر لكنه كرهه.
- ليتخذ ناقوساً مثلما يفعل النصارى.
- لقد أمر فعلاً بصنع ناقوس، لكنى أشعر أنه غير مستريح.
وحدث أن جاء زيد بن ثعلبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، إنه طاف بى الليلة طائف. مر بى رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوساً فى يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟
فقال: وما تصنع به؟
قلت: ندعو به إلى الصلاة.
قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟
قلت: وما هو؟
قال: تقول: الله أكبر الله أكبر.. الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله
أشهد أن لا إله إلا الله
أشهد أن محمداً رسول الله
أشهد أن محمداً رسول الله
حى على الصلاة.... حى على الصلاة
حى على الفلاح.... حى على الفلاح
الله أكبر الله أكبر.... لا إله إلا الله
قال له النبي: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه، فليؤذن بها، فإنه أندى صوتاً منك.
وهكذا صار الإعلان عن الصلاة بالأذان.
المنبر
كان النبى صلى الله عليه وسلم فى البداية لا يستخدم منبراً. كان يقوم للخطابة فى الناس واقفاً، وكان يطيل الوقوف أحياناً حتى يشعر بالحاجة إلى أن يجلس أو يتكيء على شيء. هداه تفكيره، فأتى بجزء من جذع نخلة يمكن أن يستند عليه حين يشعر بالرغبة فى أن يتكيء على شيء. بعد فترة قدم رجل رومى إلى المدينة، فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم قائماً إلى جانب الجذع قال لواحد من الصحابة: لو أعلم أن محمداً يحمدنى فى شيء يرفق به لصنعت له مجلساً يقوم عليه، فإن شاء جلس ماشاء وإن شاء قام. فبلغ ذلك النبى فقال: إيتونى به. فلما حدثه الرجل عن شكل المنبر أعجبه، فأمر أن يصنع له منبراً ذا ثلاث مراقٍ (درجات) أو أربع. فاستغنى النبى صلى الله عليه وسلم به عن الجذع. وكانت هذه بداية المنابر فى الإسلام.
هذه قصة إنشاء المسجد النبوى الشريف ومنذ أن تم البناء الأول لم تتوقف القصة. لكن اللافت للنظر أنه تمت عدة محاولات للهجوم على المسجد النبوى وسرقة الجسد الشريف ولعل أخطرها كانت محاولة الصليبيين فى العصر الأيوبي، وإليك هذه القصة.
أرناط يفكر
لاحظت الأميرة ستيفانى أن زوجها الأمير رينو دى شاتيون شارد تماماً. حين يشرد زوجها هكذا فلا بد أنه يفكر فى شيء خطير، فهو ليس أى فرد من الصليبيين الذين يحتلون الشام، بل هو أمير الكرك والشوبك، الذى يسميه المسلمون أرناط، ويحسبون له ألف حساب. سألته: مالك يا رينو؟
- أفكر فى شيء لا يمكن أن يتوقعه المسلمون. شيء سيصيب صلاح الدين بالجنون.
- أى شيء هذا؟
- الهجوم على المدينة، وسرقة جثمان النبي. تصورى ماذا يمكن أن يصيب المسلمين جميعاً لو حدث هذا؟ تخيلى موقف صلاح الدين أمامهم، وهو الذى يبدو بطلاً يدافع عن الإسلام؟
- رينو، إحذر. المسلمون لن يسكتوا على هذا.
- سنرى ماذا يفعلون. لقد درست الأمر جيداً، فصلاح الدين غير موجود بمصر. الموجود الآن أخوه الكامل نائباً عنه، وأظنه لن يستطيع أن يفعل شيئاً. إن غياب صلاح الدين أكبر ضمان لنجاح مهمتنا.
العجلة تدور
استدعى أرناط صناع السفن الفرنجة. قال لهم: أريد أن يكون لنا أسطول فى بحر القُلزم (البحر الأحمر). إن أسطولنا فى البحر الرومى (المتوسط) لا يمكنه أن يتحرك بحرية، لأن أسطول المسلمين هناك لا يتركه لحظة، أما بحر القلزم فليس للمسلمين فيه سفينة حربية واحدة. هل يمكنكم صناعة السفن اللازمة؟
- طبعاً نستطيع
- المهم عندى السرية والسرعة. وهناك شيء آخر أهم: هذه السفن لنص يتم تركيبها فى مكان صناعتها، بل سننقل أجزاءها فوق الدواب إلى بحر القلزم بمنتهى السرية، حتى نفاجيء الجميع بها.
- تأكد يا حضرة الأمير أننا سنفعل ما تريد.
وصلت الأخبار للعادل أخى صلاح الدين، ونائبه على مصر فى غيابه. طلب على الفور قائده البحرى حسام الدين لؤلؤ. شرح له ما يقوم به الصليبيون. طلب منه إنشاء أسطول مصرى فى موانيء مصر، بمنتهى السرعة. وبدأ التنفيذ. ونقل الرجال السفن التى صنعت فى موانيء مصر مفككة فوق ظهور الجمال إلى القلزم، وهناك قاموا بتركيبها، وصار الأسطول المصرى جاهزاً للإبحار.
قبل المواجهة
حكى المقريزى فى حوادث سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة ما فعله الأسطول الصليبى فى البحر الأحمر فقال:
«قتلوا وأسروا وأحرقوا فى بحر القلزم نحو ست عشرة مركباً، وأخذوا بعيذاب (ميناء مصرى على البحر الأحمر) مركباً يأتى بالحجاج من جدة؛ وأخذوا فى الأسر قافلة كبيرة من الحجاج بين قوص وعيذاب، وقتلوا الجميع؛ وأخذوا مركبين فيهما بضائع جاءت من اليمن؛ وأخذوا أطعمة كثيرة من الساحل كانت معدة لميرة (لإطعام) الحرمين، وأحدثوا حوادث لم يُسمع فى الإسلام بمثلها؛ ولا وصل قبلهم رومى إلى ذلك الموضع».. شعر قائد الأسطول الصليبى بالفخر بما حققه. قرر أن يكون غزو المدينة المنورة وسرقة جثمان الرسول هما مسك الختام. حين وصل لمنطقة رابغ، بين مكة والمدينة، أمر قواته بالنزول إلى الشاطيء. وبدأ يتحرك نحو الهدف، لكن المصريون بقيادة حسام الدين لؤلؤ فاجأوه بأنهم خلفه، واشتبك الطرفان فى معركة دامية، لم ينج فيها أحد من الصليبيين، وسقطوا جميعاً بين قتيل وأسير. وعاد الأسطول المظفر بالأسرى إلى مصر. وحمى المصريون المسجد النبوى والجسد الشريف.