سنوات من المحبة لله والوطن .. شهادة للتاريخ| البابا تواضروس الثانى يروى كواليس الأيام الأولى للثورة الخالدة

البابا تواضروس الثانى يروى كواليس
البابا تواضروس الثانى يروى كواليس

لم تكن ثورة الثلاثين من يونيو حدثاً عابراً وإنما علامة فارقة فى تاريخ الأمة فهى الثورة التى أخرجت البلاد من ظلمات حكم فاشى إلى أضواء جمهورية جديدة قوية راسخة تحترم المواطنة وتضمن للمواطن حياة آمنة وكريمة تليق بجموع المصريين

ولولا هذه الجمهورية الجديدة ما كان لى أن أنال ثقة قداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وصاحب الكرسى الرسولى الوحيد فى أفريقيا والشرق الأوسط وأن يخرج كتاب «سنوات من المحبة لله والوطن» والذى يعد شهادة تاريخية على كل ما دار على أرض مصر خلال السنوات العشر الأصعب فى تاريخها وفى هذا السياق يروى قداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية فى جانب من كتاب «سنوات من المحبة» كواليس هذه الثورة العظيمة وإرهاصاتها  

وعن الساعات القليلة التى سبقت اندلاع ثورة الثلاثين من يونيو روى قداسة البابا كواليسها قائلاً :

وسط تصاعد الأحداث وتحديداً فى الثامن والعشرين من يونيو كان لدينا مؤتمر فى منطقة بالطريق الصحراوى اسمها الأنافورا وتبعد عن القاهرة قرابة ١٥٠ كيلو وكان هذا المؤتمر عن التعليم الكنسي، بعده إلى الدير لمدة يومين ثم إلى مكتب الخدمة بالإسكندرية بمنطقة كينج مريوط التى تبعد عن الإسكندرية حوالى ٣٠ كيلو مترا، وجاء يوم الأربعاء الثالث من يوليو وتحديدا الثانية ظهراً فوجئت بمكالمة من القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية.

وطلبوا منى الحضور إلى اجتماع بعد ساعة بالقاهرة ورديت بتلقائية وأخبرتهم أننى فى كينج مريوط واعتذرت، لم تمض سوى دقائق قليلة وعاودوا الاتصال وأخبرونى بتجهيز طائرة هليكوبتر فى أقرب مطار لى وهو مطار برج العرب، وقالوا لى من باب الطمأنينة وحتى لا تقلق فضيلة الإمام شيخ الأزهر موجود بالأقصر وأرسلنا له طائرة، وبالفعل كنت فى مطار برج العرب الثانية والنصف ظهرا وكان فى استقبالى هناك رئيس المطار ورحب بى واستقللت الطائرة الهليكوبتر بصحبة اثنين من الطيارين وكانت المرة الأولى التى أركب فيها طائرة هليكوبتر.

وفى أقل من خمس دقائق كانت الطائرة محلقة فى السماء، وهبطت الطائرة فى مطار ألماظة واستقللت سيارة إلى مبنى المخابرات، وبعد وصولى وصل فضيلة الإمام شيخ الازهر، ثم جاء الفريق عبدالفتاح السيسى والفريق صدقى صبحى وبعض القادة العسكريين والكاتبة سكينة فؤاد والدكتور محمد البرادعى وممثل عن حزب النور وممثلون عن الشباب، وكان الحضور يتراوح عددهم حوالى ٢٠ شخصا.

وقام الفريق عبد الفتاح السيسى بقيادة الجلسة هذا الرجل الذى كان طوق النجاة للمصريين وبدأ يتحدث عن معطيات ما يدور فى البلاد والوضع الراهن وسأل كلا منا عن وجهة نظره، ومن بين الحضور من قال الحل هو انتخابات رئاسية مبكرة، وهناك من طلب منح مرسى سنة أخرى كفرصة أخيرة، ومنهم من وجه النظر لحالة الغليان فى الشارع إلى أن وصلنا لصيغة توافقية، وقمنا بصياغة البيان الشهير، وتم عرضه على المستشار القانونى بالقوات المسلحة لضبط الصيغة القانونية، ثم قام فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بمراجعته لغوياً.

وبعد ذلك أعطوا لكل منا كارتا ليكتب كلمته، والحقيقة أنى لم اكتب حرفا وفضلت فى هذه اللحظة التاريخية أن يخرج الكلام من قلبي، ثم أثير موضوع هل نقف أثناء البيان أم نظل جالسين، ثم قررنا أن نكون جالسين لأن الفترة ستكون طويلة سواء أثناء إلقاء البيان أو منح الفرصة أمام كل منا لإلقاء كلمته، وللتاريخ أحب أن أذكر واقعة غريبة، بعد المناقشات والإعداد لإذاعة البيان قام فضيلة الإمام ومعه كل الحضور ليصلوا فى نفس القاعة، فجلست فى مكانى احتراماً حتى تنتهى الصلاة، ففوجئت بالدكتور البرادعى لم يشاركهم الصلاة وجاء وجلس إلى جواري، وبالطبع  أنا كنت صامت احتراماً لقدسية الصلاة، وقد فوجئت أنه يتحدث معي، وطبعاً لا أريد أن أتحدث احتراما للصلاة، لذلك قمت ووقفت وظللت واقفاً طوال فترة الصلاة احتراماً لها ولأبعث له برسالة أنه لا يصح ذلك، وانتهت الصلاة.

ووضعت الكراسى والبوديوم بالشكل الذى تم عليه تصوير البيان، وألقاه وزير الدفاع بالزى العسكري، ثم بدأ كل منا يقول كلمته، وهنا لفت نظرى علم مصر وأنا عاشق له وعاشق للألوان، فتأملت العلم فى كلمتي، وأشرت إلى أننا نجتمع تحت علم واحد، يضمنا جميعاً فاللون الأبيض يشير إلى الساكنين على البحر الأبيض المتوسط، واللون الأحمر يشير إلى الساكنين على البحر الأحمر والنسر يحمل لون صحارى مصر والأسود يشير إلى طمى نهر النيل من الشمال إلى الجنوب، وكيف نعشق كل ذرة تراب لهذا البلد .

وبعد أن انتهينا كان الجميع فرحين وتبادلنا التهانى والأحضان، وجلسنا على مائدة واحدة نتناول الطعام ونتابع إذاعة البيان بالتليفزيون الرسمي، وكانت لحظات فارقة لا تُنسي، وبدأت أشعر أن الوطن يتعافى ويعود من خاطفيه، وكانت الطائرة بانتظارى لأعود مرة أخرى إلى برج العرب وأخذ الطيار يحلق بى مقترباً من الملايين الذين ملأوا الشوارع والميادين فرحين بما حدث، فاللحظة فارقة، لحظة بطولة حقيقية تستعيد بها مصر مكانتها، وبدأت فعلياً على الأرض من خلال خطة الوفاق الوطني.

وما أن تم خلع الإخوان بهذه الثورة الوطنية الخالصة إلا ودفع جموع المصريين الثمن بسقوط مئات الشهداء فى العمليات الإرهابية المنظمة ضد جموع المصريين كافة مسلمين ومسيحيين مع الرغبة الملحة لدى الإخوان فى استخدام سلاح الفتنة الطائفية، ولكن وطنية قداسة البابا وأقباط مصر كانت دوماً حاضرة لتثبت ثورة الثلاثين من يونيو أننا كنا ومازلنا على قلب رجل واحد.

ويُحسب لقداسة البابا تواضروس أيضاً إجراؤه لعشرات المقابلات داخل مصر وخارجها مع قادة وملوك ورؤساء وقد شرح لهم قداسة البابا بمنتهى الصدق والأمانة حقيقة الأوضاع فى مصر، وحظى بمصداقية كبيرة كونه رجل دين متجرداً ودائما ما يتجاوز قداسة البابا عما عاناه وعاناه أقباط مصر من آلام ليعطى المساحة الأكبر للتفاؤل وللجمهورية الجديدة والتى يرى دائماً أننا يجب أن نفخر بكل ما حققناه.. وتمضى الأيام وتحيا مصر دائماً وأبداً.