«لا» قصة قصيرة للكاتبة مارا أحمد

الكاتبة مارا أحمد
الكاتبة مارا أحمد

تأنقت ووضعت آخر لمسات زينتها، ثم جلست على كرسيها الهزاز لتسترخي قليلا وترتشف فنجان البابونج قبل النزول، أغمضت عينيها في غفوة قصيرة، وإذا بها تسمع انفجارا مدويا في المطبخ ليمتد سريعا إلى حجرتها ويلفها بين لهيبه، تشعر بألم الحريق للحظة ثم تغيب في الفراغ، تختنق، تكاد تلفظ أنفاسها، لتنتشلها إفاقة مفاجئة يهتز على إثرها الكرسي، يسقط من بين يديها فنجان البابونج، وطرقات خفيفة على الباب، تدخل بعدها مديرة المنزل:

 - سيدتي، السيارة جاهزة والحراس في الانتظار مع وفد من الحكومة.

 - أبلغيهم أنني سألحق بهم بعد لحظات.

 تنظر إلى المرآة وتمسح فمها وتحرك أحمر الشفاه بشكل دائري على شفتيها وتضمهما، تنظر في المرآة مودعة لتلك التي تطل إليها من خلف المرآة، وكأنها لن تراها ثانية.

تهبط الدرج الطويل بفيلا واسعة أنيقة تحتوي جدرانها على لوحات عالمية وفوق "البايوهات" المنتشرة الكثير من القطع الأثرية التي تحمل على جزيئاتها أسرار وتاريخ ذلك البلد؛ كلها كانت هدايا من رجالات الدولة والدول الصديقة، كانت كما الأميرات بفستانها الزهري المرصّع بالماس الصناعي والكريستالات الصغيرة التي منحتها شكلا رائعا وكأنها خرجت من كتب الأساطير، كان فستانها والقرط هديتين من جهاز كبير في الدولة، الجهاز يتعامل مع أكبر بيوت الأزياء العالمية وهم من ينتقون الفستان المناسب لليلة والذي يروق لمزاج الضيف.

 نادت على الخادمة، لتجيب: "نعم سيدتي"، طلبت منها أن تمسح البابونج الذي سقط على أرض غرفتها، ثم تتجه بناظرها إلى المنظفة وتتأملها: وتكرارها لكلمة: "نعم"، وكأنها سمعت كلمة مهينة أو لفظ سباب.

 - لماذا تكررين: "نعم"؟ يكفي مرة واحدة.

  - نعم، أقصد حاضر.

 يرن صدى كلمتي "نعم وحاضر" في بيداء روحها كما قرع طبول مزعج .. في طريقها لركوب السيارة تعثرت في ذيل فستانها، كادت أن تسقط لولا يد أحد الحراس أمسكت بها:

 - ألف سلامة يا سيدتي؛ أنت ثروة قومية، الحمد لله أنك بخير.

 نظرت إليه وعلى وجهها ابتسامة، خرجت من فمها كلمة لم يفهمها أحد من الحاضرين: "حوسلة".

 ركبت السيارة ولحق بها عدة سيارات؛ فهي الليلة في طريقها لأداء مهمة وطنية.

 إنها جسد تغذى من خيره وطينها من طميه، وهي صُنعت خصيصا لأجل الوطن، تدربت على يد هذا الجهاز العملاق وحصلت على أعلى الدرجات والتقييمات التي أهلتها أن تكون سفيرا لهذا البلد وكاتمة أسراره وكمبيوترا محملا بأهم المعلومات والأسرار الخاصة بضيوف الوطن، كم من صفقات تمت على يدها! وكم من معارك تم حسمها بعد تدخلها لصالح المواطن!

 قد تعلمت كلمة من ثلاثة أحرف، تكررها عند كل نداء أو اتصال أو مهمة: "نعم"،

 لا نقاش، لا سؤال، لا تأجيل، لا تبرير، فقط نعم.

 تذكرت وهي في السيارة أنها تعدت الأربعين ولم تعش قصة حب ولم تختبر دفء الأسرة ولم تنفرد بنفسها في رحلة أو سهرة، لا تجلس مع نفسها إلا عند النوم وعلى كرسيها الهزاز الذي ورثته عن أبيها، والذي اشتراه من حر ماله، وتحتسي فنجان البابونج، لا تشعر بالراحة والاطمئنان إلا على ذلك الكرسي، الشيء الوحيد الذي تمتلكه ولم يهدها إليها الوطن، إلا أن الليلة غادرها الأمان بذلك الكابوس الذي صار يطاردها عند كل غفوة أو نوم.

 تهبط من السيارة وتدخل قصرا محاطا بالحراس، ويستقبلها المضيف لها والذي هو ضيف الوطن من بلد شقيق، يقبل يدها ويتجه ممسكا بخصرها إلى الحفل الذي كان حصريا لهما، هي وهو فقط وعدد من الراقصات ومطربة؛ الحفل كان على شرفها.

 كانت الخمور من كل الأنواع والماركات، مد يده ليراقصها على أغنية تصدح نغماتها فملأت الأجواء بالرومانسية، لكن الليلة كانت ينقصها أهم ما فيها: الروح والحب؛ فهي أجواء مصطنعة كما مشهد في فيلم، طلبت أن تحتسي كأسا من "بلودي ماري"، تدلقها في جوفها ثم تفرد ذراعيها وكأنها تقول: أنا جاهزة للرقص معك الآن.

 توجه للضيف سؤالا: هل تعرف معنى "الحوسلة"؟

 - لا، أنتظر أن تخبريني.

 - أن يتحول الإنسان إلى سلعة، أنا سلعة، ولكني لا أحصل على ثمني؛ يقبضه الوطن،

 كم من أثمان دُفِعَت فيَّ ولكني لم أقبضها بيدي، قبضها الوطن.

 - يبدو أن الكأس كان ثقيلا عليك.

 - نعم، بل لا، نعم...

 - نعم أم لا؟

 - هي "نعم"، دائما نعم.

 - ما رأيك أن ندخل ونستريح في الداخل بعيدا عن الضوضاء؟

 - نعم، بل لا.

 لا، لا... ما أجملها من كلمة! ليتني تدربت عليها منذ سنوات، أحب تلك الكلمة واشتقت أن ألفظها، أقولها: لا، لا ...

 خلعت حذاءها وألقت بقرطها أرضا، خلعت عنها فستانها وخرجت بقميص قصير، طلبت سيارة أجرة وانصرفت.

في اليوم التالي، خبر صغير في إحدى الجرائد الوطنية، يعلن فيه ببالغ الأسى وفاة سيدة أعمال في انفجار أنبوبة غاز بمطبخ شقتها المتواضعة بأحد الأحياء الشعبية.