«ظهور الجني الأبيض» قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات

«ظهور الجني الأبيض» قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات
«ظهور الجني الأبيض» قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات

صحيتُ مفزوعًا.

لـم يستمر نومي حتَّـى يوقظنـي أذان الفجر، بل أيقظنـي صراخ طفل يصرخ بلا توقف؛ ففتحت عينـي وسط الليل بعدما سـمعتُ صياحه، مُـعــاذ؛ طفل جارتنا الَّتـي تسكن الشقة التـي تـحت شقتنا، انتابته نوبة صراخ هستيري لـم أسـمعها منه مِن قَبل.

أردتُ معرفة هذه الساعة التـي يصرخ فيها مُـعــاذ؛ فمددتُ يدي إلـى الطاولة الصغيرة التـي بـجوار سريري؛ ولكنَّنـي لـم أستطع الإمساك بـهاتفي أو رؤيته؛ لأنَّ غرفتـي كانت مظلمة تـمامًا.

 مُـعــاذ الصغير بالأعلى يبكي ويصرخ بشدة، يبدو أنه رأى حُلمًا مُـخيفًا أفزعه أثناء نومه، صراخه ينزل لأدنى مباشرة عبر شباك غرفة نومي المفتوح على مَنور العِمارة، كان يصرخ لأمه:

-              خرج يا ماما..  

     خرج من هنا بسرعة، وسابنـي وأنا بلعب معاه وبأكِّله.

مُـعــاذ يتكلم وهو يصرخ ويستغيث بأمِّــه. ماذا رأى هذا الصغير حتَّـى يقول هذا الكلام الغريب فـي هذه الساعة الـمتأخرة من الليل؟

هل مسَّه مسُّ من الشيطان؟

أم حضر له جـنِّـي؛ فرآه أمامه؟

سـمعتُ أنَّ الـجان يـحبون أن يظهروا للأطفال؛ فهل يسكن مُـعــاذ أحد الـجان؟

وهل يعيش هذا الـجـنِّـي الذي يسكنه معنا فـي عِمارتنا؟

استعذتُ بالله، وأبعدتُ الغطاء الخفيف عن قدمي، وقمتُ من فِراشي، وتـحركتُ خطوات بـ جوار سريري وأنا أدعو له؛ كي يرحل هذا المس الشيطاني عنه.

أضأتُ مصباح غرفة نومي الصغير، وارتديتُ جلابية خفيفة. شقتـي مظلمة بل يضيء فيها غير مصباح طرقة الـحمَّام الأصفر الضعيف الذي لا أغلقه فـي الليل.

 مُـعــاذ الذي يصرخ لـم يوقظ أحدًا غيري، فلم تسمعه زوجتـي هدى النائمة ولا بناتـي الثلاث، فحمدتُ الله، ومشيتُ خطوات نـحو باب غرفتهن، فتحته بـهدوء واطمأننت على نومهن الـهادئ فوق أسرَّتـهن، ثُـمَّ مشيتُ نـحو الـحمَّام، دخلته وتوضأت، وعدتُ لغرفة نومي وأنا أجفف بالـمِنشفة وجهي وذراعيّ من قطرات الوَضوء التـي كانت تتساقط منـي.

وقفتُ أمام سريري، وصليتُ ركعتين، ورددتُ أذكار الصباح، ثُـمَّ صعدتُ فوق السرير بعدما أخذت بكفي مُصحفي الصّغير من فوق الطاولة الصغيرة الـمجاورة لسريري، وقعدتُ مقرفصًا بـجوار زوجتـي هدى النائمة وتلوتُ بصوت ضعيف آياتٍ من سورة الـجِن.

وأنا أتلو آيات سورة الـجن بخشوع، سـمعتُ صوتًا مُـخفَّضًا لـحركة خلف شُباك غرفتـي، وجَّهتُ نظري بسرعة إلـى سِتارة الشُّباك الصفراء التـي بدأت تتحرك بسبب شيء خلفها يتحرك.

رفعتُ صوتـي قليلًا بتلاوة آيات القرآن، وأنا مستمر فـي جلستـي لا أستطيع تـحريك قدميّ من جلستهما، لكنَّ الذي يتحرك خلف الستارة الصفراء بدأ بالطرق على شباكنا طرقات خفيفة.

مَن يَطرقُ شباكي فـي هذا الوقت الـمتأخر من الليل؟ مَن يريد الدخول إلـى شقتـي بـهذه الطريقة؟ الـحَراميَّة لا يطرقون الشبابيك ولا حتـى الأبواب قبل أن يتسللوا عبرها!

تـملَّكَ الـخوفُ من عقلي؛ فثبت جسمي الـجالس، ولـم يتحرك عضو فيه غير لسانـي الذي رفع صوتـي قليلًا وأنا أستعيذُ باللهِ العظيم من كلِّ شيطانٍ رَچيم. 

حاولتُ أن أفرد جسمي؛ لأنام وأتناسى ما يـحدث خلف شباكي، وأنا أتـمنَّـى أن يرحل وحده دون أنْ يضطرنـي لأنْ أتدخلَ فـي رحليه؛ لكننـي لـم أقدر على مدِّ ساقيّ.

حتـى وإن رحل وحده الآن؛ فلن يرحل عن ذهني أبدًا ما يفعله بـي هذا الطارق الليلي الذي لـم يرحل ولـم يهدأ؛ بل كثرت طرقاته غير الـمنتظمة على شباكي وأحدث ضوضاء خفيفة.

 لو استيقظت هدى أو إحدى بناتـي الآن بسبب هذا الصوت، سيصيبهن الـهلع، وربَّـما يؤذي إحداهن هذا الـمخلوق الـجريء الذي يقتحم شقتنا.

يَطرُقُ بإلحاح على قلبـي بشدة، ويُـحدِث ضوضاءه حول عقلي فشتت تفكيري. الشقة مظلمة، والصمت يسود غرفتـي إلَّا من خبط هذا الـمخلوق الـمؤذي، فكيف سيمكننـي النوم وأتركه يطرق علينا هكذا، ثُـمَّ يدخل ويفعل بنا ما يشاء؟

النوم لا يـحلُّ أيَّة مشكلة، ومهما أهربُ فأنا أهربُ لـمصيري الـمكتوب، استجمعتُ إيـمانـي بالله سبحانه وتعالـى، وقمتُ وتـحركتُ بـجوار سريري، اقتربتُ من الشُّباك، وأزحتُ ببطءٍ السِّتارة عن شباك غرفتنا الـمغلق؛ ففوجئتُ بأنَّ خلف سِلكِ الشُّباك الـمعدنـيّ طائر ضخم لونه أبيض كالقطن.

حجمه ضخم جدًّا ومنقاره أسود وكبير. طائر لـم أرَ مثله قَط، شكله ليس كالعصافير التـي نعرفها، إنَّـه طائر ضخم، وبياضه واضح كالقمر فـي ظلام الليل.

 غرز الطائر الضخم الأبيض مـخالبه فـي سِلكِ الشُّباك، وفَردَ جناحيه الأبيضين الطويلين، وأخذ يضرب بـهما فـي سِلكِ شُباكنا وكأنَّـه يرفرف.

الـجن يتجسدون فـي هيئات مـختلفة، وها هو يتخفى لـي فـي بياض هذا الطائر الضخم الذي يظهر لـي بوضوح فـي هذه الليلة السوداء، عيناه كانتا تنظران لـي بتحدٍ، وكأنَّه يقصدنـي أنا، ويريد منـي شيئًا، فأعدتُ السِّتارة الصفراء أمام الشُّباك؛ وأبعدته عن نظري؛ فعاد يضرب بقوة على السَّلكِ الـمعدنـيّ وكأنَّـه يطلبُ منـي ألَّا أهرب من أمامه.

فتحتُ الستارة الصفراء مرة ثانية، وواجهته بقراءة الـمعوذتيـن وآية الكرسي؛ ولكنَّه لـم ينصرف، ولـم يـختفِ مِن خلف شُباكنا؛ بل رفع عُرفًا أبيض فوق رأسه، ونفشَ ريشه الأبيض وبدا كأنَّه غاضبًا منـي، وظلَّ يرفرفُ بـجناحيه، وأظافره تتشبث بسلكِ الشُّباك الـمعدنـي، ولـم يُبعدها عنه وكأنَّـها عَلِقَت به.

يا الله، هل يريد هذا المخلوق الغريب أن أحرره لينصرف عنـي ويرجع عن أذيتـي؟ أم يكون قد نصب لـي شَـركًــا؛ كي ألـمسه فيصيبنـي مسُّ منه أنا الآخر، فمؤكد أنه مَن قام بفزع مُـعــاذ.

لا أعرفُ كيف سأقتربُ منه وأحرره؛ فهو طائر ضخم وقوي أخاف أن يؤذينـي  بقواه التـي لا أعرف مداها، حاولتُ مرات الاقتراب من الشُّباك وفتحه لتحريره، ولكننـي لـم أقدر على فتح شُباكي لـهذا الـمخلوق.

ارتفع أذان الفجر عاليًا حولنا؛ فشعرت بطمأنينة تسري فـي جسمي، وأحسستُ أنَّـه سيختفي عند سـماعه للأذان، ولكنَّ الأذان انتهى ولـم يـختفِ هذا الغريب.

ألـهمنـي الله بفكرة؛ فتحركتُ ودخلتُ الـمطبخَ، وارتديتُ فـي كفيَّ قفازي الطبخ القطنيين السميكين اللذين تُـخرج بـهما هدى الصوانـي السَّاخنة من الفرن، وعدتُ إليه، واقتربتُ ببطءٍ وحذرٍ من الشُّباك.

الوقت يمر ببطءٍ، أسـمع شعائر صلاة الفجر بدأت فـي الـمسجد بدونـي، وأنا ما زلتُ مـحبوسًا هنا مع هذا الذي لا أفهمه ولا أستطيع الاقتراب منه. انقضت صلاة الفجر فـي الـمسجد، وسـمعتُ الإمامَ فـي الـمسجد يدعو:

- اللهمَ لا تسلطُ علينا بذنوبِنا مَن لا يَـخافك ولا يرحمنا.

 رددتُ الدعاء نفسه خلف الإمام. اللهم لا تسلط عليَّ بذنوبـي مَن لا يَـخافك ولا يرحمنـي، ومرَّت أمام عينـي ذنوبـي التـي اقترفتها والتـي لا يُقصِّر ضميري فـي لَومي عليها، دعوت الله أن يغفرها الله لـي، ولا يعاقبنـي بسببها بالدخول فـي تـجربة صعبة النسيان مع هذا الكائن.

يا الله، لا تعاقبنـي بذنوبي بأنْ تُسلِّطَ عليَّ مـخلوقك هذا.

 كررتُ ذكر اسم الله، ثُـمَّ فتحتُ الشُّباكَ، ومددتُ كفيّ نـحو السِلكِ الـمعدنـيّ، حاولتُ تـخليص مـخالبه من السِلكِ، وأنا أدعو الله أن يرحل دون إيذاء لا نقدر على دفعه أو علاجه.

بكفيّ اللتين يغطيهما القفاز القطني خلَّصتُ أظافر الطائر الأبيض الضخم من سِلك شُباكنا، فارتفع بـجناحيه العريضين قليلًا، وهجم نـحوي، فرجعت للوراء بسرعة؛ فدخل غرفتـي.

 طار هائمًا فـي سقف غرفتـي، ثُـمَّ استقر فوق إحدى ريشات مِروحة سقف الغرفة الثابتة.

نظرتُ إليه، وطلبتُ منه أن يخرج بصوت منخفض:

- أقسمتُ عليكَ بالله، أن تـخرج من شقتنا، وأن تُبعد عنّا شرَّك.

فمالت الـمروحة من ثِقل جسمه الكبير، وقفز قفزات صغيرة فوق ريشتها وهو يـحاول أن يستقرَ فوقها، وما أن استقرت مـخالبه فوقها حتـى نظر إلـى عينـيّ وكلَّمني، نطق فعلًا، تكلَّم فعلًا معي مثلما يُكلِّم الإنسانُ الإنسانَ، وقال لـي بصوت متقطع:

- تفاحة.. مـعـاذ.. عايز تفاحة.

يا الله! طائر يتحدث مثل البشر! أي روح تسكن هذا الطائر، وتجعله يؤذي الصغير مُـعــاذ.

أيقنت أنَّــه من الـجان ويتجسد لـي فـي صورة هذا الطائر الكبير. ليس فـي شقتنا تفاح، كيف سأنفِّذ لـهذا الغريب طلبه ليرحل ويُنهي هذا الـموقف الـمخيف قبل أن تستيقظ هدى أو إحدى بناتـي.

أنا لا أعرف هل هو من الجان المؤذي أم من الـجان الطيّب، وليس فـي يدي غير أن أستعيذ بالله منه وأن أقرأ المعوذتين نـحوه، كي يـختفي؛ ولكن زاد رعبي سماعي لـخبطٍ آخر خفيف جدًا على باب شقتي.

من يَطرق علينا باب شقتنا وقت الفجر!

فـي هذه العِمارة لـم يطرق بابـي فـي هذا الوقت الفجري أحد من قبل، لا أعرف هل هذا جنـي آخر حضر يريد أن أفتح له باب شقتـي، هل قرروا فعلًا أن يسكنوا شقتـي، أم أنه شخص مُـخلِّص أرسله الله لإنقاذي وإنقاذ أسرتـي من هذا الـجنِّـي، وليصرفه عنَّا.

بـحذر شديد خرجتُ من غرفة نومي وعيناي تنظران إلـى الـمِروحة التـي يثبت فوقها، فوقعت عينـي على مرآة الغرفة فرأيته معي فيها، كنّا صورة فـي الـمرآة؛ وجهي شاحب اللون، وحاجباي مضغوطان، وفمي شبه مفتوح، وهو خلفي فوق الـمروحة ينظر لـي ببغضٍ ويرفع عرفه تـجاهي. كـنَّــا سويًّا نرسم لوحة مرعبة فـي مرآة الغرفة.

خرجتُ وسرت فـي ظلام شقتنا الليلي وأنا أضغط أزرار الـمصابيح التـي تقابلنـي أزرارها حتى أنرت معظم مصابيح الشقة.

فتحت باب شقتـي ببطء وأنا أدعو الله أن يعطينـي الشجاعة لـمواجهة هذا الـموقف الـمرير حتـى ينتهي.

رأيتُ أمَّ مُـعــاذ الساكنة تـحتنا واقفة أمام بابـي مباشرة وهي ترتدي إسدال صلاتـها، كانت تبدو كأنـها أنـهت صلاة الفجر منذ قليل، وجلست تدعو الله كي يبتعد هذا الأذى عن ابنها، أو كأنـها كانت ترقيه بالرُّقية الشرعية كي يهدأ وينام.

هل أرسلها الله لـي كي تقرأ الرُّقية داخل شقتنا لتطرده من هنا، أم شعرت بـما أشعر به الآن من خوف، بعدما حضر لـها هذا الـجنـي قبل أن يظهر لـي.

نظرتُ إلـى الأرض وحدثتها على استحياء؛ لكنَّ ابنها مُـعــاذ ظهر من خلفها فجأة فنظرتُ إليهما، فلفتت نظري عيناه الـحمراوين كالدَّمِ من بكائه الـمتواصل.

وكي لا تزعج أمّ مُـعــاذ أحدًا من النائمين فـي شقتـي؛ سألتنـي بصوتٍ خفيف:

- دخل عندكم من شوية كـوكـاتــو أبيض كبير؟

أتعرف أمّ معاذ اسم الـجـنِّـيّ وصورته!

اسـمـه غريب مثل الطماطمة، ويونَاس الـجـنِّـيّ الـحكيم، خِفت أن أعتـرفَ لـها بوجوده داخل شقتـي؛ كي لا تظن أننـي مَن يقوم بإحضار الـجَان للعِمارة، أو تظننـي مُشَعوذًا أقوم بـهذه الـممارسات وإيذاء ابنها الصغير؛ لكننـي اخترتُ الصدق فأخبرتـها بـحضوره عندي وظهوره داخل غرفتـي، وسألتها إن كان قد زارها أيضًا مِن قبل؟ وهل شاهدته قبلي؟ أو شاهده ابنها مُـعــاذ؟ وهل حاول إيذاءه؟

وقبل أن تُـجيبنـي أمّ مُـعــاذ على أسئلتـي الكثيرة، أحسستُ بالـهواء يتحرك بـجوار أذنـي وسـمعتُ رفرفات خلف رأسي؛ فنظرتُ بسرعة ورائي؛ فرأيتُ الطائر الأبيض الكبير وهو ينزل ليقفَ على كتفي بأظافره التـي أمسكت فـي جَلبيتـي كقبضتين ضخمتين تتشبثان بـي.

لـحظة لـم أعرف فيها كيف سأحـميهما منه أو أحـمى نفسي، لكنَّ مُـعــاذ الصغير عبر من أمامي إلـى شقتـي، ونظر للطائرِ الغريب، وصرخ:

- كوكو.. كوكو.. بغبقاني.

 نزع الطائر الضخم مـخالبه من جلبيتي، وارتفع قليلًا فـي الـهواء، ثُـمَّ حطّ فوق رأس مُـعــاذ الصغير، وهو يقول له بصوت مكرر:

- تفاحة.. مُـعــاذ.. عايز تفاحة.

 فابتسم مُـعــاذ، وأمسكه بكفيه، وظل يـحتضن الطائر الكبير ويقبله على رأسه وجناحيه الأبيضين، وأنا مذهول مـما يفعله.

شكرتنـي أم مُـعــاذ، ووضعت كفَّها اليمنـى خلف ظهر ابنها، ووجهته لينزل سُلَّم العِمارة، ونزلا إلـى شقتهما سويًّا، والـجنـي الأبيض يقف على كتفِ ابنها الصغير.

أغلقتُ بابـي خلفهما، وأنا أحاول تفسير ما حدث لنفسي، سـمعتُ هدى تنادي عليَّ من غرفتنا تسألنـي هل يـحدث شيء ما، فعدتُ إليها وكفي تـمر على الـحيطان تُغلق الأنوارَ التـي أضأتـها.

عادت هدى لنومها قبل أنْ أجيبَها؛ فأغلقتُ الشُّباكَ ورقدت بـجوارها، وأعدتُ الغطاء الـخفيف فوق جسمي بعدما نظرتُ إلـى ستارة الشُّباك الصفراء الـمفتوحة، سحبتُ الغطاء فوق رأسي، ورحتُ فـي نومٍ عَميق.

 ونسيتُ أنْ أُصلِّــي صلاة الفَجر.