عادل العجيمى يكتب: في ظلها أستريح

عادل العجيمى
عادل العجيمى

فى ظل النخلة جلست وخلفى جذعها الذى أسندنى قبل السقوط فى الجدول المجاور لها والذى جف ماؤه وطالت حشائشه وبقيت الضفادع تسعى فيه بين تلك الحشائش. 


أحب الجلوس هنا وحدى أنظر فى القمر المستدير وأنسج حكاياتى مع سكانه الطيبين، كنت أرانى بينهم ألعب ألعابى التى عشقتها ولم ألعبها وأنا طفل، لم يكن ظهرى محنيا كعادته بل كان مستقيما مشدودا وفتيات القمر يلعبن حولى جميلات شفافات رائقات كماء نابع من الجنة وفيهن حبيبتى التى كانت تأتينى فى الأحلام. 

اقرأ ايضاً| الكابتن أحمد متولى


ظهرى كان محنيا بصورة واضحة والنخلة مستقيمة بصورة أوضح، الناموس طار فى دوائر وأز أزيزه المنفر فى أذنى فحركت كلتا يدى بحركة عصبية فطار بعيدا ثم عاد، كنت أحاول إبعاده عن عينى بكل الطرق وكأنه لاحظ ذلك فقامت مجموعاته بمحاولات اختراق عينى حتى نجحت واحدة وجعلتنى أترك المقاومة وأدعك العين التى تم اقتحامها بعنف لعدة لحظات حتى عمّ الظلام واختفى النور حولى إلا من نور هزيل قادم من بيوت قريتى التى ليست بعيدة عنى.


انتشر نقيق الضفادع مصحوبا بأصوات أخرى لصراصير تطير وتلتصق بعنف فى كل ما يقابلها ثم تطير مجنونة إلى مكان آخر، نظرت خلفى نحو جذع النخلة الخشن وحككت ظهرى عدة مرات فى محاولة لقتل الناموس الذى تسرب بين ملابسى وجلدى وأحسست براحة غريبة وأنا أحك ظهرى بسرعة أكثر، نسمة الهواء التى تسربت بين أعواد الذرة الخضراء جلبت معها انتعاشة مؤقتة وطيرت جماعات الناموس بعيدا.


ابن عمى الذى مر حاملا فأسه على كتفه ألقى السلام وجلس إلى جوارى ودون مقدمات أخرج علبة الدخان ولف لفافة تبغ وأعطانى إياها رغم علمه أننى لا أدخن، ومع ذلك تناولتها منه وانتظرت أن يلف لفافته ويشعل الاثنتين، سألنى وهو لا يزال يلف لفافته: مش خايف تتلبس؟!


قلت وقد استراح ظهرى إلى جذع النخلة: لا مش خايف.


لم يعقب على كلامى بل تركنى أنظر إلى أعواد الذرة المتمايلة فى هدوء ونور القمر الذى أخذ يتسلل من خلالها وعدّل من وضعيته ووضع اللفافة فى فمه وأشعل لى وأشعل لنفسه وقال واللفافة بين شفتيه: انت مخاوى يا ابن عمى؟!


ضحكت وأخذت نفسًا وكتمت الدخان الساخن ونفثته فخرج كثيفا سريعا وتلاشى فى الفراغ وقلت وأنا أفرك طوبة: مخاوى إيه وبتاع إيه؟!


ونظرت إليه وهو يتململ فى جلسته ويحدثنى عما يؤكده أهل البلد عن زواجى السفلى من جنية تلتقى بى مرتين مرة عند بزوغ الهلال حيث تدعوك إليها عند الساقية المهجورة ومرة عند كوبرى أم شوشة عندما ينتصف الشهر العربى ويملأ نور القمر المكان، كان يتحدث وأنا منتبه له، ثم هم بالقيام وسألته: ليه بتقول كده؟!


قال وقد وقف ووضع فأسه على كتفه: خايف عليك. 


هذه الجملة لم أسمعها مطلقا، فأبى الذى كان يرسلنى ليلا إلى الحقل كان لا يخاف علىَّ بل كان يحفزنى بأن أكون رجلا، ولا ألتفت خلفى فالرجل الحقيقى لا يخاف. 


ابن عمى تركنى ومضى فى سبيله مؤكدا على ألا أجلس طويلا فى هذا المكان، كانت المآذن تتسابق فى نداء الناس لصلاة العشاء وأنا أهم بالقيام للعودة تذكرت موضوع الجنّيَّة التى تزوجتنى وربطت بين هذا الموضوع وبين نظرات الأهل ينصحوننى بالزواج وفى عينيهم نظرة غريبة.


أسندت ظهرى إلى النخلة وضحكت وتذكرت لفافة التبغ فأخذت منها نفسين عميقين ثم دفنتها فى التراب إلى جوارى ونظرت لأعلى فوجدتها جالسة على جريدتين من جريد النخل تنشر شعرها فى الهواء وتنظر نحو القمر الذى انعكست صورته على خدها ثم طارت لتتوسط دائرة القمر وأنا أتبعها وأرى ابتسامتها عريضة جميلة بريئة، كانت نظرتها لى وهى داخل دائرة القمر تجذبنى فقمت وطلعت النخلة فاقتربت منها أكثر وأكثر واقتربت منى ابتسامتها أكثر وأكثر والصمت يلف المكان فى حين أن صوتها جاء رقيقا هامسا بأغنية عن النهر والنخيل والقمر سحرتنى فنبت لى جناحان وطرت نحوها واحتضنتها فاتسعت دائرة القمر أكثر وأكثر وامتلأت بالنخيل وسط ماء النهر يتمايل مع أغنيتها.