العمياء

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

كتبت: بسمة الخطيب
 

كنت أجلس في صالة بيتي ذات يوم بارد حين بدأت عيني اليسرى تحرقني ، وتركتُ هاتفي النقّال من يدي، بينما استمرّ فيديو تدهور العملة والغلاء الجنونيّ يصدح قربي ، حاولت حكّ عيني، ولكنّ الحريق استعر فوراً، ولم أستطع فتح جفني ، قرّرت أن أهدأ، وأتقبّل لسعات الحريق حتّى يلتهم بعضُها بعضاً وتنطفئ

فعلاً، بعد دقيقتين تقريباً، تمكّنت من فتح عيني اليسرى تدريجيّاً.

اقرأ ايضاً | ثقوب


كان فيسبوك قد انتقل لفيديو جديد عن مقتل رجل إثر اشتباك على خلفيّة سرقة حطب الأشجار، بعد أن صار وقود التدفئة رفاهيّة كبيرة.


مضت أسابيع، وأوشكت أن أنسى الأمر، حتّى باغتني الحريق وأنا أقود سيّارتي!


كنت أُقِلّ أولادي إلى بيت جدّتهم بعد أسبوعيْن من انقطاع زياراتنا لها بسبب أزمة الوقود ، أقفلتُ المحطّة الإذاعيّة بعد سماع مقارنة أحد النقابيّين بين معيشة المواطن وكلاب الشوارع.


لم أتمكّن من إغلاق جفني الأيسر مباشرة، لأنّ الطريق كانت مليئة بالحُفر، وسلوك السائقين ومستوى صيانة مركباتهم يتطلّبان تركيزاً شديداً ، كما أنّني كنت حاملاً في شهري السابع.


نزلت دموعي من عيني المحترقة.


لاحظ أولادي ما بي، وراحوا يصيحون: «ماما تبكي! لماذا؟ ماما؟».


أخبرتهم بأنّ عيني تؤلمني وتحرقني بسبب أدخنة إحراق المزابل، كما يحدث حين أقطّع البصل في المطبخ.


رغم أنّهم سكنوا واطمأنّوا، إلّا أنّني لم أحتمل ألم عيني، فأغمضتها، وقدت عوراء.


تكرّر الأمر، ولكن مع العين الأخرى، حين كنت في عملي، أضع طلاء الأظافر لإحدى الزبونات. عرفت أنّني لن أُنجز ما بدأته بشكل صحيح، فناديت زميلتي، وطلبت منها أخذ مكاني ريثما أغسل وجهي.


لحقتني مدام إيفون، مديرة الصالون، لتعرف سبب انفجاري بالبكاء وسط العمل. تابعت غسل عيني، فراحت تهوّن عنّي، وتقول إنّ كلّ طفل جديد يأتي ويجلب معه رزقه، وإنّها تتفهّم صعوبة إنجاب طفل في هذه الظروف القاسية، ولكنّ الله سيفرجها على عباده.


مسحتُ وجهي، وأخبرتها أنّني لا أبكي، بل أعاني من خطب في عينيّ، وقد أثارت رائحة طلاء الأظفار القويّة حساسيّتي.


استمرّت الحُرقة أطول من السابق، ولم أستطع فتح جفني إلّا قُبيل انتهاء دوامي.


كرّرت مدام إيفون إبداء قلقها، وطلبت منّي أن أذهب إلى الطبيب. 


قصدتُ أكثر من طبيب، وغيّرتُ الأدوية أكثر من مرّة، ولكنّ حالي ساءت إلى حدّ الانقطاع عن العمل، إذ صارت العينان تتلازمان في الحريق والألم.


ما عدت أرتاح إلّا في الظُلمة، لذا كنت أنتظر بشوقٍ هبوط الظلام، مكابِدةً الألم عبر إغلاق عينيَّ بشكل متواصل.


في الظلام فقط، أتمكّن من فتح جفنيَّ، وتروح عيناي تتحرّكان في محجريْهما بنهم بحثاً عن شيء تريانه.


جرّبت وضع نظّارة سوداء في النهار، ولكنّها لم تنفعني.


صرت كائنة ليليّة، لا يناسبني النهار ألبتّة. أجلس قرب أسرّة أطفالي، وأراقبهم وهم نيام، وأتأمّل وجوههم قدر الإمكان.


تمنّيت أن يأتيني المخاض ليلاً، وقد حدث. لكنّ أحداً لم يصدّقني حين طلبت إطفاء أنوار غرفة التوليد. صاحوا بعد سحب الطفلة أنّها بخير، رغم أنّي لم أسمع بكاءها. رفعت رقبتي وحاولت فتح عينيّ لرؤيتها، ولكنّ الحريق الشديد منعني. رحت أسألهم: «لماذا لا تبكي؟ ما الأمر؟ هل هي حيّة؟».


وضعوها في حضني، وحين لمست دفء نبضها ارتحت.


انقطعتُ عن أخبار البلاد والعباد، إذ كانت الأجهزة الذكيّة تؤذيني مهما تدنّت درجة حرارة شاشاتها.


ما عاد أمر انهيارات الاقتصاد والعملة والإنسانيّة يعنيني.


أخرج ليلاً.


البؤس ينام مع أصحابه.
أمشي بسعادة.
أصل إلى أطراف المدينة.
أجمع بعض الحشائش الصالحة للأكل والفاكهة البعليّة لأعوّض نقص الطعام في البيت.
أمرّ بصالون مدام إيفون المُعتم. أفهم أنّ الأغلال الإضافيّة على بابه بسبب تزايد السرقات. أتخيّل رعب مدام إيفون من السطو المسلّح.
ما عاد أحد يتّصل بي، فقدوا الأمل في شفائي.
خسرت كلّ معارفي.
الآن، يعرفني جامعو القمامة الأجانب، وموصّلو الوجبات المتأخّرة، وموظّفو الورديّات الليليّة.
زادت زيارات أهل زوجي له. يجتمع بهم في غرفة مغلقة. سمعتهم يتباحثون في أمري. «ليس مناسباً أن تترك زوجتك تخرج في الليل مثل العاهرات».
تشاجرت معه لأنّه لم يدافع عنّي.
تشاجرنا كثيراً لاحقاً.
إلى أن أتى يوم، وبينما أنا أسابق بزوغ الشمس لم أستطع إدخال مفتاحي في الباب.
عصبت عينيّ بشالي، ونمت على العتبة، إذ لم أحبّ أن أوقظ أسرتي. سيفيق زوجي في الصباح، وسيُدخلني.
لكنّه لم يفتح.
لا أحد في البيت.
غادروا مع القفل القديم.
لم أتمكّن من البحث عنهم إلّا ليلاً. ومع ذلك لم أفلح.
أخبرتني أمّي عبر الهاتف أنّهم هاجروا، وعليّ الرضوخ للأمر، والسكن معها.
لكنّي عثرت على فتحة شفّاط مطبخي ودخلت. صرت أنام نهاراً في أسرّة أطفالي الفارغة. وفي الليل أخرج لأسأل عنهم.
أمسيت أبحث مع الكلاب عن بقايا طعام صالحة للأكل، آخذها معي لغسلها، وأهزم الجوع.
لم أعرف أنّني أزعج أحداً، ولكنّ الكلاب هاجمتني ذات مرّة، إذ رأتني أرفع من مستوعبٍ ما فخذ دجاج مشويّ حدّ الاحتراق.
حين وصلت إلى البيت، وخلفي قطيع الكلاب النابحة، اشتعلت الأضواء حولي، وتبيّنت أصوات الجيران يتأفّفون من الكلاب وبلاد الكلاب التي يعيشون فيها.
>>>
مرّت سنة، ولم يأتِ زوجي لزيارة البلاد، كما يفعل معظم المسافرين في الصيف.
 >>>
ذات ليلة حارّة، وقعت في مرمى ضوء شاحنة، فأعمتني. أغمضت عينيّ، وعرفت أنّي هالكة. لكنّها أخطأتني. أسرعت نحو البيت. حين صرت عند العتبة، أصغيت، سمعت همساً وصليلاً.
«ها هو»، قال صوتٌ خشن.
انطلقت رصاصة. شعرت بها تتصدّع في لحمي.
ارتميت أرضاً فوق سائلٍ دافئ.
صاح رجل: «قتلته! قتلت الضبع».
علت الهتافات. رحت ألهث خلف روحي، وأرجوها أن تبقى معي.
لأوّل مرّة دمعتُ في الظلام. لم أقوَ على فتح جفنيّ. انتشر الحريق من عينيّ إلى كافّة جسدي.
مسّد أحدهم ردائي وقال إنّ فروي لا ينفع.
«إنّها ضبعة»، أضاف.
«ضبعة مخطّطة!»، تعجّب صوتٌ رفيع، «الله يعلم ما الذي أعادها من الانقراض!»
«ولكنّنا سنسلخها على كلّ حال»، قال آخر، ولم أسمع شيئاً من بعد ذلك.