يوميات الأخبار

حسن علام يكتب: ليل القاهرة الساحر

حسن علام
حسن علام

لكننى أشهد أن الحالة الروحانية هناك لا تجدها فى أى مكان آخر.. الطاقة الروحية تتجدد، والطاقة السلبية تتناقص، فى أقدم شوارع القاهرة الفاطمية (شارع المعز)

«رغم أننى زرت معظم دول العالم، وسهرت فى أشهر معالمها السياحية، إلا أن ليل القاهرة له مذاق خاص، فأجواؤه الرومانسية الساحرة لن تجدها فى أى دولة أخرى، مما دفع مشاهير الطرب للتغنى بحسنه، فغنى عبدالوهاب: «عندما يأتى المساء»، وغنت أم كلثوم: «أقبلَ الليلُ»، ورددت فيروز: «سكنَ الليل» من ألحان عبدالوهاب أيضاً، و»يا امه القمر ع الباب» لفايزة أحمد، وغيرها من أغانى الليل البديع.!»

◄ الخميس:
أصبحت أكره قيادة السيارات بسبب هذا الزحام الشديد فى شوارع القاهرة، وذلك السلوك غير المتحضر من السائقين الذين لا يلتزمون بآداب المرور، والحركات «البهلوانية» لراكبى الموتوسيكلات بسرعتهم الجنونية، وأعتقد أن نسبة كبيرة من هؤلاء المستهترين يتعاطون المواد المخدرة، مما يجعلنى أطالب إدارات المرور ـ كما رأيت بالخارج ـ بالتوسع فى استخدام أجهزة قياس نسبة الكحول على كل المشكوك فى قيادتهم غير المنضبطة.!

ومع ذلك فإن القيادة أمر لا غنى عنه، هذا ما دفعنى إلى قضاء سهرة ممتعة على طريقتى الخاصة فى قلب القاهرة، حيث ركبت سيارتى قبل منتصف الليل بساعة وتوجهت إلى شارع عبدالخالق ثروت، لأجد مكاناً خالياً أمام نقابة الصحفيين، وما إن بدأت فى الاصطفاف بمحاذاة «الرصيف» حتى ظهر أمامى «السايس»، وبدأ فى مساومتى على الأجرة، فكان ردى حاسماً بأنه لا يحمل رخصة سايس، وأمام بيتى المهنى النقابة، ولو تطاول بكلمة واحدة فلن أدفع له شيئاً، فانصاع صاغراً للتحلى بـ «أدب القرود»، ووضع فى جيبه الجنيهات العشرة شاكراً.!

وقررت السير على الأقدام لأستمتع بأجواء ليل القاهرة الساحر، وأول ملاحظة بهرتنى أن الشوارع لامعة نظيفة، بعد أن عادت سيارات المحافظة لغسلها بالماء والصابون كما كانت منذ زمن بعيد، وأُعيد للأرصفة احترامها وقدسيتها لصالح المارة، وتم طلاؤها باللونين الأبيض مع الأسود، والأضواء بشكل عام خافتة لتعكس الهدوء والسكينة، بعيداً عن صخب النهار وحرق الأعصاب، ومازال باعة الكتب يفترشونها عند التقاطعات، والإقبال على الشراء ضعيف بسبب ارتفاع سعرها، فغالبية المارة يكتفون بقراءة عناوين الكتب، وقلة من المشترين هم المهتمون، ومعظمهم من كبار السن، أما غالبية الشباب فيتزاحمون على محلات «الآيس كريم» أو ساندويتشات «الشاورمة» التى تبيعها المطاعم السورية التى أصبحت ظاهرة فى وسط القاهرة، ويدفع أصحابها الملايين فى شراء هذه المحلات مهما كان نشاطها القديم كبيع الملابس وخلافه، ثم إعادة ترخيصها وتحويلها إلى مطاعم لبيع المأكولات السورية بجميع أنواعها، وتعدد مذاقها.!

كان طقس المساء حاراً، مما استدعى تناولى لبعض المرطبات، فقصدت مكاناً شهيراً لفسحة المصريين ولقاء المحبين، وهو «الأمريكين» تقاطع طلعت حرب مع ٢٦ يوليو، والمكان مازال نظيفاً ويقوم على خدمته «سفرجية» بملابسهم «الكلاسيكية» التى نراهم يرتدونها فى أفلام الأبيض والأسود، وهم من ذوى الجبهة السمراء الداكنة، ويبدو أنهم من بلاد النوبة، ويعاملون الرواد بأدب واحترام جم، واسترحت واقفاً على طاولة رأسية طولها متر تقريباً، وطلبت وجبتى المفضلة منذ نعومة أظافرى وهو «الكوشون»، وتعتبر أيقونة المكان الشهيرة من زمن، عبارة عن طبق معدنى يحتضن ثلاث «بولات» آيس كريم كما نفضلها، فاخترت الحليب والفراولة والمانجو وعليها مربة «لارنج» وقطع مجففة من فاكهة «الكرز»، وفوقها «كريمة لبانى»، وعندما طلبت الفاتورة وجدتها بقيمة مائة وعشرة جنيهات، وكنت أدفع ثمن نفس هذه الوجبة فى بداية حياتى الصحفية عام ١٩٧٦ (١٥ قرشاً لا غير).!!!

خرجت من المكان للنزهة داخل قلب القاهرة الخديوية بوسط البلد، وعيناى ترتفعان لأعلى مبانيها وعماراتها المبهرة من عظمة التصاميم للمبانى القديمة، وكأننى أسير فى قلب روما أو باريس، والتى تجسد تعدد الجنسيات والثقافات التى احتضنتها مصر فى عصر من العصور، وأشاهد وأتأمل الطراز المعمارى الأوروبى الفريد، وخاصة الفرنسى والإيطالى كشواهد على المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى عبرت بها مصر طوال قرنين، والتى لاقت فى هذا العصر اهتماماً كبيراً من الدولة لإعادة دهانها وتجديدها على أصولها كواجهة مشرفة لقلب القاهرة، أسير مزهواً وكأننى أخطو على قطعة من أوروبا، أعمدة ضخمة تقف عليها هذه العناصر المعمارية الفريدة، وكرانيش وزخارف نباتية مجسمة، وشرفات دائرية وقباب صممها أعظم المعماريين والفنانين فى العالم، وليختاروا مصر «أم الدنيا» لتجسيد مهاراتهم المتقنة عن باقى المدن العربية، كذلك فنون الزخرفة والرسم «المنمنم»، والتى نُقشت بدقة متناهية على جدران مبانيها العتيقة، وتبدو كلوحات خالدة على مر الزمان، لتحكى فى صمت حضارة مصر العظيمة التى كانت مقصداً للكبار والوجهاء والفنانين القادمين من أوروبا، وتبرز معالم التراث القديم لمصر الأنيقة التى كانت تنافس المدن الأوروبية فى تصميمها وجمالها وبهائها، لم أكن أشاهد وسط البلد بهذا الوجه الأنيق المتفرد نهاراً أبداً بسبب الزحام الشديد الذى لا يترك فرصة لتأمل هذا الجمال النائم.!

انتهيت من جولتى فى وسط القاهرة سيراً على الأقدام فى حوالى ساعة، وانتهيت بآخر شارع عبدالخالق مع تقاطع ميدان الأوبرا، وأخذت «تاكسى» إلى منطقة الحسين (رضى الله عنه) والتى تجمع بين السياحة الدينية والتاريخية والترفيهية فى وقت واحد، لكن أماكن المشاة للوصول إلى (خان الخليلى) مصممة بطريقة ليس فيها انسيابية بسبب كثرة الحواجز واللف والدوران، وكبار السن يعانون فيها مشقة وعذابا، ورغم أن الوقت تجاوز منتصف الليل، إلا أن الزحام كان ملحوظاً، فالكل هناك، ومهما كانت حالته المادية يستطيع أن يستمتع بليل القاهرة الساحر فى قاهرة المعز، ويُنفق فيها القليل أو الكثير، فجلسات السهر ممتدة حتى الفجر!.

لكننى أشهد أن الحالة الروحانية هناك لا تجدها فى أى مكان آخر.. الطاقة الروحية تتجدد، والطاقة السلبية تتناقص، فى أقدم شوارع القاهرة الفاطمية (شارع المعز) الذى يزيد عمره على الألف عام، تشم رائحة التاريخ، وتستمتع بمتعة السير، حيث يضم أكثر من مائتى أثر إسلامى خالد، ويجمع بين فنون العمارة المصرية والعثمانية والأندلسية، وتتجلى فيه المساجد والأسبلة والتكايا والبيوت القديمة ذات الطابع العتيق.

كما أن التسوق فى خان الخليلى أو مشاهدة «الڤتارين» التى تحتضن أرقى المصنوعات اليدوية والحُلى الذهبية والفضية والنحاسية شىء يبُهر، علاوة على مشغولات الصدف والأرابيسك والهدايا التذكارية التى تُبهج السياح وتحمل الطراز الإسلامى أو الفرعونى.

وعرف الجوع طريقى فاحترت فى اختيار مطعم نظيف مناسب لتناول العشاء، ثم اهتديت إلى مطعم سمك ارتاده من زمن طويل فى حى الجمالية، بجوار متحف صديقى عميد الخطاطين العرب خضير البورسعيدى، واخترت طبقا مشكلا من السمك والجمبرى تم طهوه أمام عينى، وكان مذاقه أكثر من رائع ودفعت ما لا يتجاوز مائتى جنيه، وبذلك يكون إجمالى تكاليف السهرة ما لا يتجاوز350 جنيها، وهو رقم لن تجده فى أى دولة سياحية سوى مصر!.

◄ الجمعة:
أنا زبون دائم على حفلات الأوبرا بمسارحها الثلاثة ـ معهد الموسيقى العربية، الجمهورية، والمسرح الكبير بمنطقة الجزيرة ـ ففى الأسبوع الأخير من كل شهر تُنشر كل برامجها على «النت» فى الشهر التالى، وتستطيع حجز الحفلة التى تناسبك بسهولة، وفى هذه الحالة تستمتع بحجز المقاعد المميزة فى الصفوف الأمامية، عكس لو حجزت من شبابيك التذاكر فستضطر لقبول ما هو متاح فقط رغم أنفك، لكنها متعة لا تُوصف أن تستمتع بسماع ورؤية فنانين موهوبين يخلدون روائع الزمن الجميل، الذى غاب عنا كل رموزه العظام أمثال أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، وعادل مأمون، وفايزة أحمد، وغيرهم. جمال الموقف يُبهج الروح وأنت تتابع مواهب فذة، وعازفين مهرة، وأصواتا حية، ومعظم رواد هذه الحفلات من «السميعة» القدامى، حتى أننا نعرف بعضنا بالملامح ورسوم الوجه أكثر من الأسماء، لتكرار وجودنا بهذه الحفلات الموزعة طوال الشهر.

دفعت ثمن التذكرة عن حفلة فرقة عبدالحليم نويرة للموسيقى فى المسرح الكبير٣٦٠ جنيهاً، وقد ارتفعت أسعار التذاكر بشكل ملحوظ منذ تعيين الفنان الكبير الدكتور خالد داغر  لرئاسة دار الأوبرا المصرية، والمفروض أنه يعى تماماً قيمة الفن ودوره فى الارتقاء بالذوق العام، ولا أدرى سبب ارتفاع أسعار التذاكر بجميع المسارح منذ توليه المسئولية، والمفروض أن يكون العكس، وأتساءل هنا: هل رفع أجور فنانى الأوبرا بعد هذه الزيادات.. أم ماذا؟.

◄ الثلاثاء:
خلدتُ إلى نوم هادئ جميل بعد أن تزيَّن صدرى بوسام الثناء على عملى من شخصية كبيرة محل احترام الجميع، فمن موجبات سعادة أى صحفى أن يرى صدى جهده وثمار تخطيطه فى أوساط الرأى العام، وتقدير المفكرين للمادة الصحفية التى كتبها ومدى تفاعلها، وكنت قد نشرت دراسة واستطلاعا فى الزميلة «ڤيتو» التى يرأس تحريرها الصحفى الكبير عصام كامل، عن: (كبار الصحابة وتعدد الزوجات)، فإذا بالمفكر الإسلامى الكبير الدكتور شوقى علام (مفتى الجمهورية) يُثنى عليها ويصف نتاج جهدى بـ (الفكر الرشيد والطرح السديد). شكراً يا صاحب الفضيلة.
سماحة مفتى الجمهورية الدكتور شوقى علام، عرفته عن قُرب، وتعاملت معه صحفياً فى حوارات عديدة، ورافقته فى الحج بدعوة رسمية، وكم تبارى علماء المسلمين من جنسيات مختلفة لتقديره والثناء على علمه وخُلقه وتواضعه.