لم تختر اللغة العربية العصماء كلمة ( الفن ) اعتباطًا؛ للتعبيرعن مفهوم ومفاهيم الجمال في أبهى صوره؛ لأن الفن هو الجمال والإبهار والانبهار والدهشة؛ ولم يهبْ الله العلي القدير سمات الجمال للمرأة فقط باعتبارها ـ بقدرته ـ تصنع أغلى سلعة في الوجود وهي الإنسان؛ بل منحه للرجال أيضًا ـ ولنا أعظم المثال في “سورة يوسف” عليه السلام ـ وهذا سياقٌ آخر من سياقات الجمال ليست في صُلب موضوعنا ـ ومنحه للطير والشجر والكائنات في أعماق البحور والأنهار!
وقبل أن نعرج على موضوعنا الحيوي والمهم في وقتنا الحاضر؛ والذي أصبح حديث الرأي العام المصري والعربي؛ أود أن أسوق لكم تعريف ومعنى الفن في معجم المعاني : “ الفَن : بفتح الفاء؛ جمع أفنان وفنون وأفانين؛ وهو مهارة يحكمها الذوق كالرسم والموسيقا والغناء؛ وهي التي تثير العواطف كالحُب والإعجاب “ . إذن فإن “الفن “ هو جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة المشاعر والعواطف؛ وبخاصة عاطفة الجمال كالتصوير والموسيقا والشعر والرسم والنحت .. والغناء؛ ولابد أن يحكمها الذوق والموهبة؛ ويجب أن تُقدم في إطار جميل ليكون بهجة للناظرين والسامعين والمتلهفين لتحريك الشجن الجميل داخل النفس البشرية .
وما يعنينا للكلام عنه اليوم .. هو رافد مهم من روافد الفن الأصيل؛ وهو “الأغنية” التي تعارفنا على أنها تقوم بالدور المهم والفاعل في تشكيل الوجدان الشعبي؛ ويُعد “المطرب” أو “المؤدِّي” ـ بصرف النظر عن مضامين الكلمات ومعانيها ودلالالتها ـ الذي يقدمها للجماهير بمثابة “ القدوة “ للشباب والأجيال التي تتابعه؛ وتحاول تقليده في مظهره العام من حيث ملابسه وطريقة تصفيف شعره؛ بل وفي تقليد حركاته أثناء لقاء الجماهير من فوق خشبة المسرح أو من خلال شاشات العرض في السينما والتليفزيون .. أو ـ حتى ـ في الأفراح الشعبية .
فمن منَّا لم يشهد قمة الأناقة والشياكة في أزياء عظماء فن الطرب في مصرنا المحروسة؛ بداية من الجيل القديم ـ مع احترامنا للألقاب ـ : صالح عبد الحي، محمد عبد الوهاب ، رياض السنباطي ،محمد فوزي ،محمد قنديل ،كارم محمود؛ وصولاً إلى جيل الوسط : ماهر العطار وكمال حسني، هاني شاكر، ، محمد العزبي، محمد رشدي، عبد الحليم حافظ .. هذا المطرب الذي يقولون عنه إنه كان يقف الوقت الطويل أمام المرآة ليضبط “ربطة العُنق” قبل خروجه إلى خشبة المسرح للقاء الجماهير؛ حتى لقبته الجماهير بالفتى الذهبي معبود الجماهير صاحب الكرافت الشيك !!
واليوم .. نصطدم برأي النقاد في أزياء بعض المؤديين والمغنيين الذين يظهرون على المسرح بمظاهر تخاصم الذوق والجمال وتبعد كل البعد عن الأناقة بل تقترب إلى القبح الشديد،ويكون الغرض منها لفت الأنظار؛ بل نجدها تخالف العُرف والتقاليد المصرية والعربية الأصيلة؛ تلك التقاليد التي نشأت الأجيال على مفاهيمها السامية ومضامينها التي لايعتريها الإسفاف؛ وجعلتنا تلك المظاهر المستحدثة والدخيلة على عالمنا المعاصر؛ نخرج من عالم الأناقة و “الكرافتات الأنيقة” إلى عالم ملابس “الشيفون والدانتيلا” و”الزي الرياضي” و”الشورت” .. لنضرب مفاهيم الفن والجمال والذوق العام في مقتل !
صحيح إنها الحرية الشخصية ـ كما يقول البعض ـ ولكن تكمُن الخطورة في أن بعض المراهقين والشباب يُعدونها مثالاً فريدًا وقدوة لهم في سلوكياتهم وتصرفاتهم؛ لتكون البداية من هُنا سببًا في انتشار هذا القبح بين الأجيال الصاعدة؛ وما يتبع ذلك من تأثير سلبي على المجتمع وتقاليده العريقة التي حافظت على أعلى وأبهى قوانين الجمال؛ مذ قام النحات المصري بتصويره على جدران المعابد .
إن الوقوف على المسرح للغناء والتمثيل له قدسيته؛ ولكن لكل فن قوانينه التي لايحيد عنها؛ ولهذا لايدخل إلى قاعة عرض “الأوبرا” من لايرتدي الملابس الرسمية في أبهى صورها؛ وتتحلى السيدات بأجمل مافي حوزتهن من لآليء وجواهر؛ لينصتن في جلال وبهاء لما يقدم على خشبة المسرح من فنون وأغانٍ تهتز لها من فرط النشوة جدران الروح والوجدان .
ولكن .. ماذا نحن فاعلون أمام تلك الموجة العاتية المتلاطمة في بحار الفنون .. والأغنية ومطربيها على وجه الخصوص ؟ إنها ليست صيحة فنية ولا يحزنون ! إنها بمثابة “معاول الهدم” لأعمدة معبد الجمال الذي وهبه الله للبشر؛ بل ترتقي إلى مستوى “الخيانة” لكل القيم العقائدية النبيلة في الأديان السماوية كافة؛ ورؤيتي في هذا تنبع من ضميري الوطني اليقِظ؛ الحريص كل الحرص على الشروق الدائم لـ “ شموس الجمال “ في سموات عوالم الفنون بوجهٍ عام؛ وجُل أمنياتي ألاً تحجبها تلك السحيبات السوداء الضالة التي تحملها الرياح الآتية من العوالم الغريبة؛ والتي لاتتفق ولا تنسجم مع حضارتنا التي علَّمت البشرية أسمى معاني الجمال .
إن الالتزام بتلك المعايير المنطقية السامية؛ لاتحتاج إلى تدشين أو كتابة “ميثاق شرف”؛ ولا إلى وضع “لوائح انضباط” تحدد الثواب والعقاب بالتقييم المادي الذي طفا وطغى على المجتمع ! فالتقييم المادي ـ مهما ارتفعت قيمته ـ لايساوي “خردلة” أمام ارتكاب جريمة “ خيانة الأعراف والتقاليد”؛ ولكنها تحتاج إلى استمرار الوعي ويقظة “الضمير الوطني” الذي يتحتم عليه ألايغفو لحظة عن متابعة الساحة الثقافية والفنية لحماية “ العقل الجمعي” من تلك الشوائب والمخلفات التي تطفو على السطح بين آونة وأخرى .
ويقينا أن كل فنان يعبر عن نفسه في المقام الأول وعن ثقافته ،فمصرنا الحبيبة أكبر من أن توصم بتصرفات أشخاص لم يحالفهم التوفيق في الالتزام بجماليات تحتمها المواقف وتفرضها الأذواق السوية.
ألستم معي بأن البون شاسع بين “الكرافتات الشيك” و “ الدانتيلا ؟! بلي .. ياأهل المغنى .. نريدكم من أهل الجمال والذوق الرفيع !