يوميات الأخبار

ثقافتنا إلى أين ؟

رفعت رشاد
رفعت رشاد

كان يشعر فى طفولته بمرارة فى أعماقه وهو يرتدى فى الأعياد ملابس مهلهلة ويسير حافى القدمين فى حين بقية الصبية يمرحون ويرتدون ثيابا جديدة

ناقش الحوار الوطنى قضية إحداث نهضة ثقافية فى مصر تنقذ ثقافتنا ولغتنا وتتيح الفرصة لهذه الثقافة للانتشار والتأثير فى محيطنا العربى والإسلامى على الأقل. جاءت المبادرة من الدكتور أحمد زايد مقرر الملف الثقافى فى الحوار. أعجبتنى المبادرة فهى مبادرة إيجابية ركزت على قضية مهمة لابد من شحذ الهمم لكى ننفذ أهدافها. نفرق فى لغتنا العربية بين كلمتى الثقافة والحضارة بينما فى اللغة الإنجليزية على سبيل المثال تستخدم كلمة ثقافة للتعبير عن المعنى الشامل للحضارة، فالأخلاق ثقافة وحضارة والتقاليد ثقافة وحضارة والعادات ثقافة وحضارة ونمط الحياة ثقافة وحضارة. 

عانينا فى الفترة الأخيرة من تراجع تأثير ودور الثقافة المصرية داخليا وخارجيا. لم يكن القائمون على الثقافة على قدر وحجم الدور المنوطين به. نتذكر ثروت عكاشة وما فعل بالثقافة المصرية. أهم ما ميز ثروت عكاشة كان إدراكه لدوره وطبيعة هذا الدور وتوظيف الإمكانات التى تتيح له تجسير المسافة الزمنية بين الحضارة الفرعونية وبين زمننا المعاصر. أى التواصل مع حضارتنا القديمة غير المتكررة فى أى مكان أو زمان. انطلقت الثقافة المصرية فبنت فكرا ومسرحا وسينما وأدبا وصل إلى العالمية. وصلت الثقافة بكل معانيها إلى الكفور والنجوع فى أقاصى البلاد. خرج من قصور الثقافة الشعراء والأدباء والرسامون والممثلون. 

كان عكاشة والذين معه يدركون طبيعة وعمق دورهم فانتعشت الثقافة المصرية وتبلور ما يسمى القوة الناعمة التى نسعى إليها الآن وننشدها. إن الثقافة ليست شيئا ماديا نمسكه بأيدينا، إنما هى شيء يتسرب ويتسلل إلى عقولنا ويشكل وجداننا فيصيغ عقلا جمعيا يتفاعل ويتفاهم ويتراكم لكى يكون هناك ما يسمى بالثقافة المصرية التى وإن كنا نأمل تقويتها الآن فى الداخل، فإننا لابد أن نسعى لكى تكون ثقافة عالمية أو كونية، فتاريخ مصر وحضارتها كفيلان بأن تكون ثقافتنا فى مقدمة فكر وعقل العالم أجمع.

اللغة العربية

إذا كنا نتكلم عن الثقافة والنهوض بها فحجر الأساس فى أى ثقافة هو اللغة. وللأسف فإن لغتنا العربية التى نعتز بها ونردد دائما ـ وهذه حقيقة ـ أنها لغة القرآن وفى هذا تكريم لها وللمتكلمين بها. تعيش اللغة العربية حاليا حالة مرضية خاصة فى مصر.

انتشرت بيننا عن قصد أو بدوافع عولمية لغات هجين من العربية ولغات أخرى خاصة الإنجليزية. تنتشر هذه اللغة بين الشباب ممن يتعاملون فى مجال الإنترنت. يمكن بسهولة لهؤلاء الشباب التواصل فيما بينهم بلغتهم الجديدة ومما يزيد الأمر خطورة أن الجهات القائمة على حماية اللغة العربية لا تقوم بدورها، بل تفرغت فى الفترة الماضية لصراعات انتخابية بين علماء حصلوا على عضويتهم فى المجمع للوجاهة. 

فى عام 1958 صدر قانون إبان الوحدة المصرية السورية لحماية اللغة العربية وشدد على ضرورة كتابة كل المخاطبات ولافتات المحلات باللغة العربية ولم يمنع أن تكتب لافتات بلغات أجنبية لكن بجوار اللغة العربية. ورغم أن هذا القانون سارٍ حتى الآن ولم يلغ إلا أن السلطات الحكومية لا تطبقه حتى على نفسها فنجد المحليات توافق على أسماء للمحلات باللغات الأجنبية كما أن شركات العقارات ـ تحديدا ـ هى الأكثر فى استخدام أسماء أجنبية لنفسها ولمشروعاتها وكأنهم يبيعون مبانيهم للأجانب فقط. الطريف أن محلات فى حوارى تتخذ لنفسها أسماء أجنبية. 

إذا أرادت قوى معادية ضرب دولة ما فأول معول يضرب لغة تلك الدولة لأنه يفقد أهلها هويتهم وبعدها يمكن ملء عقولهم بكل ما يريد المتآمرون. تقوية اللغة العربية أساس أى جهد لاستعادة ثقافتنا وقوتنا الناعمة. 

عبد الحميد الديب

بالقرب من بيتى فى شبرا شارع مهم يطلق عليه اسم عبد الحميد الديب. كثيرون لا يعرفون عبد الحميد الشاعر الذى التصق به لقب شاعر البؤس. ولد الديب فى عام 1898 بقرية كمشيش بمحافظة المنوفية لأسرة بائسة فشب وترعرع بين البؤس والحرمان. كان والده فلاحا متواضعا ويعمل جزاراً فى المواسم والأعياد فى محاولة لزيادة دخله حتى يمكنه رعاية أسرته كبيرة العدد. ألحق عبد الحميد بكتاب القرية كما هى عادة تلك الفترة فحفظ القرآن وجوده فى فترة وجيزة، لكن الديب كان متمردا وعنيفا فى التعامل مع شيخ الكتاب وله معه قصص وطرائف واستخدم موهبته فى نظم الشعر فكتب مواويل يسخر بها من الشيخ ومن أقرانه فى الكتاب فسببت له تلك الأشعار متاعب عديدة وكان يضربونه بالفلقة، لكنه لم يكف عن سخريته وعن كتابة الشعر. 

شب الديب وهو يرى الفقر يحيط به من كل جانب وترسبت فى أعماقه صور أسرته وهى تعانى من الحرمان وآلام الجوع. كان يشعر فى طفولته بمرارة فى أعماقه وهو يرتدى فى الأعياد ملابس مهلهلة ويسير حافى القدمين فى حين بقية الصبية يمرحون ويرتدون ثيابا جديدة ويطلقون الأغانى المرحة. وبعدما كبر، كان يجلس بمقهى فى حى بولاق وسمع شخصا يجلس أمامه يردد بصوت هامس شطرا من أغنية، تقول: والله تستاهل يا قلبى.. وظل الشخص يردد هذه الكلمات عشرات المرات بدون أن يتمكن من إتمام بقية كلمات الأغنية. تقدم منه الديب وقال: أقترح أن تتمها هكذا: والله تستاهل يا قلبى.. ليه تميل ما كنت خالى.. انت أسباب كل كربى.. انت أسباب ما جرى لى. كاد الرجل يطير فرحا وقام واحتضن الديب وقدم له نفسه فإذا بالرجل هو الفنان الكبير سيد درويش. صارا صديقين وبدأ درويش ينفق على الديب فعاش حياة مليئة بالترف والنعيم فأخذ يكتب قصائد راقية، لكن هذه الصحبة لم تدم، فقد توفى سيد درويش فجأة عام 1923 فى عنفوان رجولته وتوهج عبقريته. وعاد الديب مرة أخرى للبؤس والشقاء. واستمرت حياته على هذا المنوال ولما مات كتب عنه صديقه كامل الشناوى: اليوم مات شاعر تعرى واكتست الأضرحة.. جاع وشبعت الكلاب. 

جـمـيل جــورج

عندما بدأت عملى بجريدة الأخبار فى بداية الثمانينات فى القرن الماضى كانت هناك مجموعة من الأساتذة يتعاملون معى ومع رفاقى المواكبين لمرحلتى الزمنية برفق وتعاطف واحتواء. كان من هؤلاء الأساتذة : جلال السيد ـ أطال الله عمره ـ عفاف يحيى ـ أطال الله عمرها ـ جمال الشرقاوى، سيد الجبرتى، فايز بقطر، وجميل جورج. كان جلال السيد وفايز بقطر وجميل جورج أصدقاء مقربين، يلتقون يوميا، يتبادلون النقاش بشأن الجريدة وكل تفاصيل حياتهم. وكلما مر الوقت كنت أشعر بحميمية أكثر فى التعامل معهم. كانوا ناصحين لى ولزملائى، معلمين وموجهين. كان الأستاذ جميل جورج ذا صوت خفيض، لا ينفعل بسهولة ولا يعطى أحدا فرصة لإخراجه عن ثباته الانفعالى وهو ما جعل الجميع يحب جميل جورج ويحترمه فهو لا يتجاوز تجاه شخص ما ولا يخطئ فى حق زميل ما وكان مجاملا إلى أقصى الحدود. قبل وفاته بأيام بادر بالاتصال بى للمعايدة بعد انتهاء شهر رمضان ودار بيننا حديث فى غاية الود بين أستاذ وتلميذ ولكن جميل جورج لم يشعرنى أبدا أننى تلميذ له، كان يتعامل بكل تقدير ويبدى كل الاحترام. كان من مدرسة الشياكة فى الأدب والأخلاق والصحافة. ومن أبرز خبراء الصحافة الاقتصادية. ترك الأستاذ جميل ـ الجميل ـ رصيدا كبيرا من الحب والتقدير والاحترام لدى كل زملائه وتلاميذه فى الصحافة وفى أخبار اليوم. رحمه الله رحمة واسعة. 

رومــانـى

شاب عادى من بين الملايين فى مصر. أكتب عنه لأنه استطاع أن يلفت انتباهى بسلوكه وتصرفاته وجعلنى أحترمه كثيرا. عمله جامع قمامة، وبالتعبير الشائع الذى يشمئز منه المجتمع، زبال. ندعوه أحيانا باسم محسن، لكنى أفضل اسم رومانى الذى عرفته به. يجمع رومانى القمامة فى منطقتنا بشبرا منذ سنوات طويلة. يعمل مع والده عم عزمى ويقود سيارتهم التى تنقل القمامة إلى المقلب الكبير. يتعامل رومانى مع الناس بأدب واحترام غير معهودين فى مثل عمره وعمله. يظهر تقديره لكل شخص بغض النظر عن مكانته الاجتماعية، يحترم الجميع ولا يرفض طلبا لأحد ويقدم خدماته إلى أقصى حد طالما قدر على ذلك. لم أره مرة منفعلا أو ناقما أومتذمرا. من سمات رومانى الجميلة أنه عطوف على الحيوانات، يبحث عن الطعام فى القمامة ويجمع  بعضه ويضعه للكلاب والقطط. عندما تتوقف سيارته تتجمع الحيوانات حوله فيعطيها ما تجود به القمامة. نكتب كثيرا عن نماذج سلبية بيننا، ولابد أن نكتب عن النماذج المحترمة والأخلاقية التى تبث الطاقة الإيجابية من غير أن يكون حاصلا على الدكتوراه أو يتولى منصبا.. إن رومانى واحد من الناس.. لكنه من أفضل الناس.