محمد عبد الدايم هندام يكتب: كلب المعمل: سيرة طبيب ومسيرة كلب

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

«تأخذه الرقة بعيدا
يكتب تاريخا مرضيا لنفسه
يوقف الزمن
منذ ثلاثين عاما
أو قبل ثلاثين عاما
ليس مجازا
بل حدث بالفعل ومنذ ثلاثين سنة بالكمال أحب:
جرس الإنذار بأجهزة التنفس الصناعي
رشاقة المعدن
لهفة الأصابع فى الدماء
الذاهبين إلى الألم
العائدين إلى الحياة
سطوة الأبيض الملائكي
عزلة الإله فى غرفة العمليات
رهافة الأزرق
دفقة البول فى الأكياس
بهجة الأسرة حين ينخفض الأنين
النداء الآلى
مطلوب فى الطوارئ الآن
الآن
كأن الوقت لا يفنى

إبراهيم البجلاتي، أنا فى عزلته، شعر، دار بدائل للنشر والتوزيع، ص 6- 7 


فى ديوانه الشعرى «حكاية مطولة عن تمساح نائم» (دار ميريت، 2016) طاف إبراهيم البجلاتى بقرائه عالم الحيوان، عملت الذات الشاعرة فى قصيدة نثر طويلة، بطول الكتاب، على أنسنة كائنات حية، ما بين الحشرات والحيوانات، من فصائل مختلفة وأحجام، الحقيقى منها والأسطوري، البرى والبحري، المستأنس الداجن والأليف والمتوحش، تحدث البجلاتى عن التمساح، بطل ديوانه، وابن آوي، والسلحفاة والفأر والقط والبقر الوحشى والحمار الوحشى والثور والجاموس والغزال والقط البرى والنعجة والخفاش والجمل والزرافة والحصان والقرد والسمندر، النعامة والطاووس والبطة والعصفور والهدهد والعقرب واليعسوب، الأخطبوط والضفدع والسلطعون والحلزون والحوت، حتى الديناصور النباتى والعنقاء والتنين، وغيرها من الكائنات الحية.


ظهر عالم الحيوان فى الفضاء الشعر لإبراهيم البجلاتي، فى ديوان التمساح، وقبله فى «أنا فى عزلته (دار بدائل، 2014)، وبعده فى «ماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك» (

الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018)، و «شاى وبرتقال وأجنحة خضراء» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2020).


تتشكل الرؤية الشعرية لإبراهيم البجلاتى من علاقة وشيجة بين الروح والجسد، بين الإنسان والكائنات الأخرى بالعالم، فى إطار من التماهى بين العاقل وغير العاقل، بين الآدمى والحيواني، بين المستأنس والهمجى المتوحش، ولكن ما يميز لغته الشعرية بشكل عام هو الصفاء، والشفافية اللغوية التى تحيل المتلقى إلى عالم بسيط على تعقيداته، عالم رائق على عكارته، عالم غنى بالإيحاءات الشعرية التى تعمل فى الأساس على تأطير صورة الأنا البشرية والآخر، كل ما عدا الذات الشاعرة هو آخر، إنسان أو حيوان أو نبات أو هيكل أسطورى موروث.


فى روايته الأخيرة «كلب المعمل» (المحروسة، 2022) يُصدر البجلاتى حيوانًا آخر ليصبح بطل عمله، أو أبطال عمله، حيث تقوم الرواية على سرد أحداث تجرى بين الراوى وبين كلاب مختلفة أنواعها وألوانها وصفاتها، فى رواية تبدو سيرة ذاتية لطبيب المسالك البولية، وسيرة ذاتية لكلاب شتى.


فى روايته البكر «سندروم» (دار الدار، 2009) يستهل الكاتب الطبيب إبراهيم البجلاتى الحكى عن سيرته الذاتية، سيرة الذى وُلد بالمنصورة، وتخرج من جامعتها طبيبا للمسالك البولية، وليس هو أول روائى طبيب يتخرج من طب المنصورة، وليس أول كاتب طبيب يكتب إرهاصات من سيرته الطبية فى إطار روائي، لكن البجلاتى يتحرك روائيا بين المستشفيات الجامعية والعامة والخاصة والمراكز الطبية المتخصصة، ويصطحب معه فى رحلته كلابًا ضمن أبطال روايته الجديدة، بل وصدّر الكلب كبطل رئيس للعمل، فى عتبة العنوان، ينافس الراوى على موقع الصدارة فى الرواية الطويلة (428 صفحة)، ومع ذلك فقد استغرقت الأحداث حيزا زمنيا قصيرًا إلى حد ما، لكن الاسترجاع الزمنى بسيرة الطبيب البطل وكلابه قد أوغل فى القدم.


وتدور أحداث الرواية، وفقا للتصدير الدعائى للعمل، عن «طبيبٍ شابٍ، يَبتكر عمليةً جراحيةً جديدةً، وبحكم القواعد العلمية يتوجب عليه أن يُجرب الطريقة الجديدة فى الكلاب؛ للتأكد من النتائج وقابلية التنفيذ فى البشر. يعانى الطبيب الشاب من خوف مرضى من الكلاب، فكيف يتغلب على خوفه؟ بل ويُعيد اكتشاف الكلب، أقدم صديق للإنسان، وأكثرِ الحيوانات المدجَّنة وفاءً لصاحبها، وفى الوقت نفسه يُعيد اكتشاف نفسه، ويكشف عن الخلل الجوهرى فى منظومة الطب والبحث العلمي.

ودون أن ينسى أن يكتب مقالًا عن: الحُزن التَّشريحى لعُيون الكلاب». لكن الرواية فى الواقع لا تنشغل كثيرا بالطريقة الجديدة فى علاج حالة عويصة من حالات المسالك البولية، بقدر ما تشتغل فى تشريح «طبي» و»روائي» لمشاعر إنسانية هجينة، بين الخوف والشجاعة، الجرأة والتراجع، الحزن والفرح، الإقدام والتقهقر، الطموح والانهزام، الجنوح والعقلانية، الألفة والتوحش، وغير ذلك من المشاعر التى وجدها الراوى وشعر بها كإنسان، ورصدها عن قرب مع معايشته للكلاب التى يجرى عليها تجارب علمية طبية، يستهدف منها الطريق المثلى لكى يدر الإنسان بوله بشكل طبيعي.


وقد ينشغل الراوى بالتفكير فى مسألة تكيف الكلب مع الإنسان، أو العكس، يرجع البطل إلى أمهات الكتب، فى محاولة لفهم تاريخ العلاقة بين الطرفين، يرجع لمؤلف الدميرى «كتاب حياة الحيوان الكبرى»، لكنه يتوه فى مقدمة المؤلف ومنهجه فى التصنيف، وخلطه بين العلمى الدقيق وبين الشعبى العبثي، ينفر منه ويستعين بـ «كتاب الحيوان» للجاحظ، ويسرد عبره مسيرة الكلب، من بدايات علاقته بالجنس البشرى حتى الآن.


ولأنه طبيب مثقف، يعج فكره بالتساؤلات، وتصطدم مسيرته الحياتية والعملية بكلاب شتى، فى الشوارع والبيوت ومراكز الكلى؛ فإن الراوى يستعين بكتاب كونراد لورنتس، عن عالم الحيوان، (ترجمه الكاتب عن الفرنسية ونشره مركز المحروسة بعنوان «والتقى الإنسان بالكلب») وهو الكتاب الذى يتحدث فيه العالم المتخصص عن سلوك الحيوانات المستأنسة والطيور والأسماك، ويؤرخ للكلب كأول حيوان مستأنس، ويتناول تاريخه الطويل من التحول والتطور، من الجر والحمل والنقل والمشاركة بالصيد، وصولا إلى الصداقة العميقة مع الإنسان، وهى علاقة «محبة» خالصة، غير مشروطة، دون تخطيط مسبق، دون مقابل، محبة مجانية، لا تخضع لنظرية «رد الفعل المنعكس الشرطي» للطبيب الروسى إيفان بافلوف.


يحمل البطل خوفا مكتوما من الكلاب، خوفا منها يتحول مع الأحداث إلى خوف عليها، إلى ترابط إنسانى حيواني، ينتهى عندما يرى البطل الحزن فى عينى كلبه الأخير الذى مات جراء التجربة المعملية على مسالكه البولية، ويجر خلفه إلى العالم الآخر مجموعة أخرى من الكلاب، بموتها يموت أمل مهزوز لدى البطل، تموت كلاب المعمل، فتفشل تجربة البطل، لكنه يكتشف أن فشله «ليس سيئا تماما بل يمكن أن يكون حلا من الحلول»، لأن موت الكلب واحد لا ينهى على بقية الكلاب:
نجحت تجاربنا
والكلب يا أستاذنا العزيز مات
لكن سيظل فى الدنيا كلاب 
حتى القيامة والحساب   (ص 20، ومواضع أخرى)
كل كلاب الباشا
تعمل الرواية على تعرية قطاع كبير من المنظومة الصحية العملية، تنهض على تشريح العلاقة بين أفراد القطاع الطبي، بنوعيهم، الجامعى وغير الجامعي، لتظهر النظرة الدونية التى ينظر بها الأطباء من أساتذة الجامعات إلى نظرائهم ممن لم يعملوا كهيئة تدريس أكاديمية، كما يشرح الكاتب هوس بعض الأطباء باللقب العلمي، من أجل إضافة حرف الدال إلى أسمائهم لتزيين اللافتة الدعائية، ويستقطبون بها «الزبائن»، ويدحرون بها طموح غيرهم، كيلا يسحبون الزبون من عياداتهم الخاصة.


ولكن الشخصية الأبرز التى اشتغلت كبطل رئيس، يخطط وينفذ، يُعلى ويُنزل، يتحكم بمصير الراوي، ويحكم عليه، هى شخصية «الباشا»، مدير المركز الطبى الجامعى المتخصص فى أمراض الكلى، وهذه الشخصية الروائية إسقاط على شخصية حقيقية فى العالم الواقعي، معروفة بأنها تمثل «الديكتاتور العادل»، المدير الصارم، البروفسير المتسلط، الذى يحكم مركزه، وأطباءه، ومرضاه، وتجاربه، مثلما يسيطر «أبو شنب» (البيطرى مسئول الكلاب بالمركز) على الكلاب، يسحبها، يربطها، يلجمها، يضربها، يربت عليها، يكلمها، ويطعمها، ويشهد موتها أو ينفذ القتل الرحيم.


وتظهر سلطوية الباشا فى التفرقة بين أطباء المركز من الأكاديميين الجامعيين، ونظرائهم الذين لم يتمرغوا فى «ميري» الجامعة، وهى سلطوية منفرة، برائحة نفاذة، تكاد تخنق روح الطبيب أكثر من رائحة أمعاء الكلب المُشرح على طاولة التجربة المعملية، يتعامل «الباشا» مع البطل بأبوية أكل عليها الدهر وشرب، الأب «العام» الذى «يلعن جدوده أمام الجميع»، ويضع يده على كتف البطل بعفوية.


مسالك الطب ومسيرة الكلاب
ربما يفصح الكاتب / الراوى للمرة الأولى عن الزمن الروائى بعد مرور ردح من الأحداث التى عاصر فيها كلابا وبشرا، من أطياف مختلفة، وطاف بالمتلقى شوارع المنصورة وحاراتها التى لم يعد بعضها على حاله مثلما كان فى تسعينيات القرن الماضي.


وتحفل الرواية بتجارب طبية متخصصة فى المسالك البولية، يسير الكاتب / الراوى على مهل ليشرح المصطلحات الطبية والتقنيات العلمية بلغة مبسطة لا يستهدف منها تعقيد الفكرة على المتلقي، بقدر ما يستهدف محاولة فك التعقيد الذاتى المُلغز الذى يكتنف مسيرة البطل، ويقطع أمعاء كلابه، ويلقى بهم على طاولة المعمل، قبيل انتهاء دورهم كـ «كلاب معمل» يختبر الطبيب فاعلية الصمام الذى يُركبه لتحويلة المسالك البولية للكلب، وفى الوقت نفسه يفضح فاعلية المنظومة الطبية فى المستشفيات المصرية، بأنواعها، بالمنصورة، والقاهرة، وبورسعيد، هذه المنظومة متنوعة الألوان والأحجام، مثلها مثل كلاب المعمل التى تُقتل لأجل البحث العلمي، يتناول الكاتب مسائل عديدة كسرقة الرسائل العلمية، واهتراء المستشفيات، وتحول مهنة الطب إلى «سبوبة»، وغيرها من مشكلات الطب والبحث العلمى فى مصر.


فى سرده لمسيرة الطبيب وكلابه يبدو إبراهيم البجلاتى حريصا على تبسيط مشاهد الرحلة للمتلقي، يخرج كثيرا من غرفة العمليات، ينفث الثقل العلمى مع دخان سجائره، لأن العمل فى الأخير ليس لغاية علمية متخصصة، بقدر ما يحمل تفاصيل رحلة طويلة، إنسانية فردانية وجمعية، وحيوانية كذلك، رحلة الإنسان والكلب، منذ بدايات ارتباطهما حتى الآن، تقطعها وقفات قصيرة للبطل الطبيب الذى يشرب الشاى دائما، ولا يشرب القهوة، فى المعمل، فى المخبأ الذى يختلى فيه الأطباء للتدخين، فى شوارع المنصورة، فى حجرة الطبيب المنتحر، أو على كرسى البامبو الأثير بحجرته، وغير ذلك من الأماكن التى يتحرك فيها البطل بسرعة شديدة، تناسب حركة طبيب شاب يبحث عن حلم غامض، يبحث عن نجاح عملي، وإجابات على أسئلة إنسانية.


انفتحت الرواية على نهاية مفتوحة، فشلت تجربة الطبيب، أو فشلت خطوة من خطواتها، لكن هذه المسيرة الطويلة كشفت له «الحزن التشريحى لعيون الكلاب... التى تخفى تركيبا هشا وكائنا تابعا لا يعانى من عقدة أوديب»، هذا التماهى بين حالات الكلب، وسماته، وخصاله، وصيرورة مسيرته هى الشغل الشاغل للكاتب الذى دشن عملا روائيا مقارنا بين الإنسان والكلب، إلى درجة أن يتعلق مصير الإنسان بمصير كلب.


وبعد مسيرة طويلة، اكتشف البطل أن بإمكانه أن يحلم، وهذا ما اعتبره نجاحا يعوضه عن «الفشل» الوقتى للتجربة، يتوقف عند مفرق مزلقان القطار، لينفتح المفرق على مسالك مختلفة، مسلك استكمال الكفاح للحصول على الدكتوراة، ومسلك الخنوع لسطوة «الباشا»، ومسلك البحث عن المال، فى مصر أو الخليج، ومسلك السعى للترقى الوظيفى بالعمل فى منطقة نائية، ومسلك ترك المعمل وكلابه والسفر للخارج، وبين هذه المفارق يقف الراوي/ الطبيب / البطل يفكر فيما يفعل بـ «نبتته الوهمية». 


مرضى المجتمع وكلابه.
رواية بهذا الحجم تولت أحداثها شخصيات كثيرة، بجانب الشخصيات الرئيسة، الطبيب الشاب، وكلاب المعمل والباشا، هناك شخصيات كثيرة لأفراد عائلة البطل، أمه وأبيه وعمته وأخته وزوجها، ورفاق الطبيب وأصدقاؤه والعاملون فى المستشفيات وأساتذته ومرضاه، شخصيات مصرية وأجنبية، والملفت أن البجلاتى لم يجعل من وجود أى من هذه الشخصيات افتراضيا، أو زائدا عن حاجة صيرورة الأحداث، لكنه دمجها جميعا فى بوتقة كبيرة، تحمل أطيافا مختلفة من النماذج البشرية.


واستهلكت شخصية الأستاذ ياسين، صاحب كتاب الجاحظ، حيزا كبيرا نسبيا من الأحداث، وهى شخصية محورية فى حياة البطل، خاض كلاهما صراعا مريرا، يخدش جروحا نفسية لدى الاثنين، البطل والأستاذ، وتعرى مواجهتهما الصراع بين جيلين، ومسألة اختلاف بين شخصية طموحة وأخرى خانعة، لكن الشخصيتين أظهرتا انهزامهما.


تجلى الصراع بين الأستاذ وتلميذه، البطل وصديقه الذى يكبره، فى الحوار الصدامى بينهما، المعبر عن هوة نفسية كبيرة، تعبر عن انسحاق أبطال كلب المعمل، الأطباء والمرضى، رفاق سهرة لوكاندة القاهرة الكبرى، الذين يتوسلون أيام الماضى القريب، ويسرقون لحظات استرقاق الحاضر واستجداء الزمن الحالي، الرؤساء والمرؤوسين، الطامحين والخانعين، والكلاب أيضا، فى الأخير تبسط ذراعيها، وتُعلق مصلوبة على طاولة المعمل.


ومن بين الشخصيات، التى عبرت سريعا، شخصية ممدوح المالكي، خريج الهندسة، الذى لم يتكيف مع العمل الأكاديمى بالجامعة، لأنه اصطدم بوجود نماذج أخرى من «الباشا»، نماذج تمثل سطوة الأساتذة وعقم منهجية التدريس الجامعي، فسافر لألمانيا، ثم رجع مريضا نفسيًا، تنتابه نوبات اضطهادية موسمية، هجرت زوجته، وعاش وحيدا مع نباتات منزلية وأرقام لا نهائية، وفى الأخير أحرق الكتب فى طست نحاسى كبير، قبل أن يُحتجز فى مصحة نفسية، ويخرج منها كائنا هلاميا شفافا.


وفى مستشفى بورسعيد ظهرت شخصية الطبيب مينا، الذى يسمى نفسه مايكل، يتقمص شخصية أخرى، كأنه ارتضى حالة من الفصام، التى لازمته بعد موت أمه، وفى المستشفى نفسه ظهرت شخصية طبيب التخدير، الذى تواتر خبر عن موته منتحرا، أو بسبب جرعة زائدة، كذلك شخصيات مثل مدرس الحساب المولع بضرب تلاميذه على ظهور أياديهم، الأسطى فتحى الحلاق السادى وصبيه صبحى الباكي، أستاذ أمراض النساء الذى يضع حذاءه فى وجوه طلابه أثناء امتحان الشفوي، أبو الفتح الذى يضرب بالشلوت.


فيما، تبدو مسيرة الكلب، من بدايات لقائه بالإنسان، حتى جر جثته إلى كيس أسود بالمعمل، متراوحة بين الصعود والهبوط، الانهزام والنصر، بين كونه صيادًا وبين كونه فريسة محل تجارب علمية، هذه الشخوص تقدم نماذج تعانى اغترابا فى المكان، تنشغل بمعنى «الهبوط الإجباري» مثلما وصف الكاتب حالة البطل.


لا يفوت الراوى أن يعرج كثيرا، من خلال شخصيات روايته، على دروب الواقع الاقتصادى والاجتماعى العام بمصر بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، وانزواء اليسار، فى مقابل صعود نهم لرأس المال، الذى أحال الإنسان إلى عملة، والطب إلى بيزنس، والمريض إلى زبون، والدكتوراة إلى صمام مسالك بولية.


وعلى طول الرواية يبحث الطبيب عن مسار سلس لمجرى البول، ومسالك آمنة لتجارب فردانية، تأخذه الرقة، فيكتب تاريخا مرضيا لنفسه، يوقف الزمن، يتطلع إلى رشاقة المعدن، ولهفة أصابعه فى الدماء، والكلاب الذاهبة إلى الألم، والعائدة إلى الحياة، وعزلة المُجرب فى غرفة العمليات، برهافة الأزرق، ودفقات البول فى الأكياس، وبهجة أسرة المرضى حين ينتهى الأنين، وصوت النداء الآلي، مطلوب فى الطوارئ الآن، الآن، فى كل وقت، حتى تزهق روحه، أو تموت الكلاب، أيهما أقرب.