أخر الأخبار

فرانتس بلَى.. فنان براج المجهول

الكاتب فرانتس بْـلَى
الكاتب فرانتس بْـلَى

أحمد الزناتى

فى دائرة أصدقاء كافكا الضيقة كاتب غريب الأطوار اسمه فرانتس بْـلَى (1871-1942)، كان صديقًا مقربًا منه ومن ماكس برود، وهو الوحيد الذى وصفه كافكا بإن شخصيته أذكى وأعظم مما يكتب

بْلَى كاتب أسلوبى (stylist) متفرد، يكتب المقالة والمسرحية والقصة، ابتعد عن القوالب السردية السائدة، مبتكرًا سردًا مختلفًا، صحيح أنه ليس جديدًا كل الجدّة، لكنه نسج لونًا متفردًا من الكتابة فى عصره، كان يكتب تحت أسماء مستعارة. نشَر فرانتس كافكا أولى قصصه القصيرة «وصف معركة» فى مجلة أدبية، لم تعمّر طويلًا حملت عنوان Hyperion، كان قد أسسها مع كارل شتيرناهايم بين سنتى 1908 و1910، كما أنه مترجم قدير، إذ ترجم أعمال والت ويتمان وأوسكار وايلد وموليير إلى الألمانية

تعرفتُ إلى اسمه للمرة الأولى بمحض الصدفة من سنوات لدى قراءة « أحاديث مع كافكا» فى لغته الأصلية لجوستاف يانوش (وبالمناسبة ثمّة من يشكّك فى صحة كثير مما ورد فى هذا الكتاب)، لكن الاسم لفت نظرى، كما شدّتنى كلمة كافكا عنه: شخصيته أذكى مما كتبه، ولكن كيف تكون شخصية كاتب أذكى مما يكتب؟ فى العادة، يكون العمل الأدبى أذكى وأعمق مما يكتب المؤلف، فالفن ينبع من أعماق سحيقة، يمتزج فيها الوعى واللا وعي، وما حدث وما لم يحدث، ومن ثمّ فالفن دائمًا أذكى، لأنه يتحرّر من سلطة الحواس الخمس. وشأنه شأن كثير من شِلّة براج العبقرية خمد ذكره بعد وفاته، بينما جرى تنجيم ماكس برود لأسباب لا تخفى على أحد، وهناك كُتاب كثيرون غيره من شلّة مقاهى براج أفل نجمهم لأسباب متعددة؛ المؤكد أنّ أشياء كثيرة جرت فى براج ماتت، وستظل مدفونة إلى الأبد. 

استطعت الحصول على نزر يسير من أعماله، والبقية فى الطريق. لكنى لاحظت أن أسماء كتبه عجيبة: الشاعر والحياة، رجال وأقنعة،العشق الأرضى والعشق السماوي، كتاب تعليمى عن الحب والزواج، الله والنساء، شهوة المخلوق، أشكال الحب وغيرها، الأمر الذى ينمُّ – للوهلة الأولى- عن نزعة حسّية واضحة ممزوجة بمسحة روحانية. 

ألَّف صاحبنا كتابًا أعجب منه شخصيًا اسمه معجم الحيوانات الرامزة فى الأدب المعاصر، اكتشفت أن للعنوان ترجمة مستقرة (ترجمة المرحوم د. مجدى وهبة فى معجم المصطلحات العربية) لمفردة Bestiary أو Bestiarium بالألمانية، هو مصطلح أُطلق على نوع من الكتب ظهرت فى القرون الوسطى وكُـتبت بالفرنسية أو اللاتينية، تضم مجموعات من الحيوانات الحقيقية أو المتخيلة الرامزة لها دلالات أخلاقية/دينية/سياسية.كان بْلَى واسع الاطلاع، لاسيما على التراث الشرقى، فكَتَب أيضًا الديكاميرون الفارسي، وهو إعادة حكى لقصص الحب الإيروتيكية الجامحة فى التراث الفارسى وفى ألف ليلة وليلة. اطلعتُ على بعض حكاياته، عمل أدبى شديد الجرأة والقوّة، وجدير بالالتفات. وقد آثرت ترجمة العنوان بمعجم الحيوانات الرامزة، لا كتاب الحيوانات الرامزة، لأن أسماء الأعلام مرتبة ترتيبًا أبجديًا فى شكل معجمى.

يضمّ الكتاب 181 بورتريهًا قصيرًا لكبار الكتاب والفلاسفة، منهم على سبيل المثال: ألفريد دوبلين، كارل كراوس، كنوت هامسون، هيرمان هسه، هنريك إبسن، فرانتس كافكا، جوستاف ميرينك، روبرت موزيل، نيتشه، راينر ماريا ريلكه، جورج برنارد شو، ستريندبيرج، تولستوي، فرانك فيديكيند، فرانتس فيرفيل، أوسكار وايلد وغيرهم. من وجهة نظر كافكا يُعدّ بلى واحدًا من أفضل متذوقى الأدب فى عصره. 

بعض الجمل الافتتاحية منها آسرة، قادرة على دفعك لإشاحة النظر عما تقرأ لتقول فى نفسك:» كيف صاغ الرجل حقيقة شخصية معقدة مثل الكاتب فلان الفلانى فى هذه السطور الموجزة؟ أو هل يمكن اختزال جوهر كاتب فى بضعة أسطر هكذا؟ أية موهبة أدبية يمتلكها هذا الرجل؟»

سأعرض فى السطور التالية مقتطفات موجزة من بعض البورتريهات التى رسمها بلَيْ عن الكتاب الذين ضمّهم إلى هذا المعجم لما فيها من طرافة وخفّة دم، مصدرها عمق الكاتب الشديد وفهمه لكل كاتب.

(الماكس برود): هو حيوان مُدجَّن احتُفظ به مؤخرًا فى المعابد اليهودية، وهو حيوان أليف سيلتقط الطعام من يدكَ حتى لو استفززتَه، مما يعنى أنه ملائم تمامًا ليكون حيوانًا متدينًا. يتنبأ البعض أن حيوان «البْرود» سيُوقّر ويُبجّل مثله كمثل مارتن بوبر، البقرة المقدسة عند اليهود.

(الكافكا): هو فأر بهى الطلة، نادر الظهور، لونه فى لون زرقة القمر، لا يأكل اللحم، وإنما يتغذى على الأعشاب مرّة المذاق، وهـو يتمتع بمظهر آسر، لأن لديه عينين بشريتين.

(الفالزر) «يقصد روبرت فالزر»: هو حيوان ضئيل الحجم، مفرط الحساسية، بالغ الرشاقة، غريب الأطوار، ينتمى إلى فصيلة السناجب. لن ترى الفالرز أبدًا متربعًا على قمم الأشجار، لأنه من النوع الذى لا يبذل أية محاولة للتسلّق.

(الهسّه): يطلقون عليه حمامة الغابة الرقيقة، لم يعد له وجود فى البرية. وهو كائن لطيف المعشر، لذا صار طائرًا مشهورًا، ومحبوسًا داخل القفص، يسّلى الجمهور عبر الإيماءات التى يجترحها داخل قفصه، كما لو كان يعيش فى غابة مفتوحة. وهو يمنح سكان المدينة إحساسًا بالطبيعة، ويزداد ذلك الإحساس زخمًا بفضل مجموعة من الغدد الصغيرة جدًا فى جسم «هيسَّنا»، التى تفرز رائحة تذكرنا قليلاً برائحة أشجار التنوب.

(الريلكه): ثمة جدال مستعر بين علماء الحيوان وعلماء النبات ما إذا كان حيوان الريلكه ينتمى إلى المملكة الحيوانية أم النباتية، فعلماء النبات يرفضون ضمّه إليهم ويريدون تصنيفه داخل مملكة الحيوان، بينما يقول علماء الحيوان إن الريلكه حيوان خالٍ من الدمّ، ولهذا يرفضون ضمَّه إليهم؛ يدّعى علماء النبات، من ناحية أخرى، أن لمخلوق الريلكه أسنانًا كأسنان الحيوانات، قادرة على التهام أبيات الشِعر مهما بلغ طولها، وحتى إن افتقرت الأبيات إلى «مِفصل» وإلى وزن وإيقاع. ومثله مثل «فيرفيل [كاتب نمساوى ينتمى إلى الجيل نفسه]. يُعرف الريلكه كحيوان مستأنس، ولاسيما لدى السيدات اللاتى تقدّم بهن السن لعفّته الجنسية، ناهيك بنظرة عينيه المشوبة بشيء من الورع والبلاهة، وهى النظرة التى تستدعى على الفور كلمة «البهجة السماوية» المحببة لدى أولئك السيدات.(التولستوى): كان فى الأصل حصان سهوب، لكنه ينحدر من سلالة خيول رفيعة الأصل.كان أول راكبيه هم المحاربون الجورجيون والشركس والقوزاق. فى وقت لاحق انتمى إلى سلاح الفرسان فى جيش الأدب، شارك فى جميع الحملات الكبرى فى شمال وجنوب الزمان والمكان، حتى أنه شارك فى الحملات التى كانت تستمرّ عدّة مجلدات ضخمة. وهو مخلوق صعب، جافّ الطباع، لكنه مشتعل بالحماسة، كقزم سهوب رائع.

الكلوديل «يقصد الكاتب الفرنسى بول كلوديل»: الكلوديل مخلوق كتب بعض المسرحيات الدينية، فأثبت فى النهاية أن الله غير موجود، ونال على ذلك وسام الصليب الأكبر لجوقة الشرف من حكومةٍ جمهورية، وحمل صليب التكريم كما حملَ المسيحُ صليبه.(التشيستيرتون): يستخدم حيوان التشيستيرتون ساقيه دون أن يلاحظه أحد، لا يمشى بهما أمام الآخرين أبدًا. فى الأماكن العامة يمشى على الدوام على رأسه، وقد بلغ فى هذه المشية حدًا من البراعة سمح له بالسير كيفما يحلو له. فى مقدور مخلوق التشيستيرتون المشى على رأسه متمهلًا، مهرولًا، مترنحًا، متبخترًا، مترجلًا، قافزًا، واثبًا وراكضًا، كل هذه المشيات يؤديها وهو ماشٍ على رأسه.

>>>

هل لاحظتم كمّ السخرية المبطنة التى تنطوى عليها البورتريهات السابقة؟ نعرف أن كلوديل كاتب مسيحى كاثوليكى متشدّد حاول إحياء الإيمان الدينى الكاثوليكى فى مسرحياته وأعماله، فجاءت النتيجة عكسية تمامًا من وجهة نظر فرانتس بلَى بالطبع، وكرّمته حكومة جمهورية علمانية. وماذا عن ريلكه؟ محبوب لدى السيدات المتقدمات فى السنّ! هل يقصد التلميح بخبث إلى علاقته بلو سالومى التى كانت تكبره بأربع عشرة سنة، وكان يعيش معها فى بيتها وفى حضور زوجها لعفته الجنسية؟ وروبرت فالزر؟ هل كان يقصد عزوفه عن الأضواء وعدم محاولته الظهور فوق قمم الأشجار؟ وهل كان يقصد أنّ الواقفين فوق قمم الأشجار قردة مثلًا؟ وماذا عن رفيق الدرب ماكس برود، وتبجيل اليهود له بسبب دعمه للحركة الصهيونية منذ بواكيره الأولى؟ وجى.ك.تشيستيرتون الذى تحدّى كل المفاهيم والقيم السائدة فى عصره، مهاجمًا بعنف ما يسمى بالأفكار الثورية والأناركية، مبرهنًا على بلاهة أصحابها، مدافعًا عن نزعته المحافظة، مستهزئًا بخصومه بلا هوادة؟ 

اخترت السطور السابقة، وهى غيض من فيض، كأمثلة سريعة فقط لمحاولة فهم التصور الذى انطلق منه بْلَى، وهو يرسم هؤلاء الكتّاب. فالكتاب ينسج على هذا المنوال على نحو آسر. صوَّر كاتبُنا الفنّان وحياته وأسلوبه وأفكاره فى لقطة واحدة جامعة مانعة، لا تفرّق بين أحد من العناصر المكونة، سواء العناصر الجسمانية أم الفكرية أم الروحية. ثمة عبارة أتذكرها للكاتب الألمانى فرانتس جريلبارتسر تقول:»إن تاريخ الأفكار وقابليتها للتصور والاستيعاب ليس إلا تاريخ التعبير عنها، إننا نفكر فقط فيما نستطيع التعبير عنه، وليست الأفكار نفسها هى التى تنمو أو تتزايد، وإنما إمكانية التعبير عنها».

وهذا هو مربط الفرس وفرادة العمل فى اعتقادي: خلق إمكانية جديدة للتعبير عن فكرة ما؛ وربما هذا هو سبب كلمة كافكا أن شخصية/عقلية فرانتس بْلَى أذكى مما يكتب، إذ التقط ذهنه جوهرَ الكاتب الذى يتكلم عنه ومَسْمَر الفكرة بمسمار أدبى صلب على جسد حيوان/مخلوق ما، فخرجت الصورة على الأوراق شيئًا آخر مختلفًا، مثلما نقف أمام آلة تصوير، منتظرين خروج صورة بتفاصيل معينة فى ذهننا، لكننا ندهش عندما تخرج لنا صورة مغايرة تمامًا كما يقول بيتر هاندكه فى يومياته.

لاحظت أن الكتاب خلا من بورتريه يصور دوستويفسكى! ترى كيف كان سيراه؟ حمامة مصابة بالصرع واقفة تنوح أمام الصخرة التى دفن عندها أليوشا ورفاقه صديقهم الفقير أبو حذاء مخروم إيليوشا؟ وكيف كان سيرى فلاديمير نابوكوف؟ ديك شركسى أصلع ذو سِنَّة لولى؟ أم طاووس خالٍ من الريش الملون لكنه لا يرى إلا نفسه؟ 

برغم اختلاف الحالتين، أتذكّر أن الجاحظ فى رسالة التربيع والتدوير التى قرأناها فى المدرسة مثلًا هجا غريمَه أحمد بن عبد الوهاب هجاءً ساخرًا ممتعًا، راسمًا بلغته الرصينة صورة هزلية له، ولم يتورع عن ذكر كل نقائصه، فأبدع كعادته فى التصوير حتى وصل بالقارىء إلى تخيّل شكل الخصم أمامه. والقياس مع الفارق نجح «بْلى» هنا فى ظنى فى نقل صورة حيّة لهؤلاء الكُتاب بشكل هزلى طريف، لكنها صادقة أشدّ ما يكون الصدق، بسيطة أجمل ما تكون البساطة. أتخيّلُ كاتبًا عربيًا (ومصريًا لبراعة وتفوق الكاتب المصرى فى الأدب الساخر خصوصًا، ربما كان الأجدر بها محمود السعدنى أو محمد مستجاب مثلًا) يؤلف عملًا على غرار معجم الحيوانات الرامزة فى الأدب العربى فيصوّر لنا طائرًا أو مخلوقًا يرسم صورة طه حسين أو يوسف إدريس أو نجيب محفوظ أو أيًا من الكٌتاب المعاصرين بهذه الطريقة (دون أن يأخذها كاتب على صدره لاعتقاده بعلوّ مكانته وفرادة أدبه وأنه الأجدر بنوبل بعد توماس مان على طول!)، إذ لم يتذمّر أحد من الكتاب المعاصرين لبلَى ولم يأخذوا كلامه باعتباره سبًا وقذفًا، بل إنّ بعضهم تفكّر وتأمل ورحَّب بها مثل روبرت موزيل (صديقه الصدوق)، بل حتى صاحب عُمره ماكس برود لم يسلم من لسانه الحاد كالمبرد كما رأينا.

الجميل أن نبوءة الفنان الهزلية قد صدقت. كتبَ فرانتس بلَى هذا الكتاب فى سنة 1922، وفرَّ ماكس برود إلى فلسطين فى سنة 1939، وعاش حتى مات بها سنة 1968، بعد أن تحوّل إلى حيوان مدجّن مُبجّل كما وصفه صاحبه. 

نقلا عن عدد أخبار الأدب بتاريخ 4/6/2023

اقرأ أيضًا :