حكايات| أمل دنقل شاعر الرفض.. «صوت لا يغادرنا»

الشاعر أمل دنقل
الشاعر أمل دنقل

كتب حسن حافظ

لاتصالح، والكعكة الحجرية، والبكاء بين يدى زرقاء اليمامة، ليست مجرد قصائد أو عناوين لدواوين شعرية، بل أصبحت جزءا من نسيج الثقافة العامة فى مصر، غالبية المثقفين يعرفونها والبعض يحفظها، رجل الشارع العادى ربما سمع بها ورددها يوما، هذا كله هو ميراث الشاعر الكبير أمل دنقل في ذكرى رحيله الأربعين التي مرت في هدوء فلا احتفالات رسمية ولا إحياء لذكراه بما يليق، ليبقى الأثر الكبير للشاعر فى نفوس كل من قرأ له، التكريم الحقيقى الذى سعى له دنقل وحصل عليه هو أن تقرأ أعماله وأشعاره، وهو الرهان الذى كسبه الشاعر الذى لا تزال أشعاره نقاط جذب لأجيال من القراء.

رحيل أمل دنقل

عن 43 سنة رحل أمل دنقل عن حياتنا، فى مايو 1983، بعد معاناة مع مرض السرطان، ورغم أن الشاعر المولود فى قرية القلعة بمحافظة قنا عام 1940، لم يعمر طويلا، فإنه ترك بصمة لا تمحى على الشعر العربى الحديث، فمع صديقى عمره الشاعر عبدالرحمن الأبـنودي والقاص يحيى الطـاهــر عـبدالله هـــبّت نسمة من صعيد مصر إلى القاهرة وغيّرت المشهد الثقافى وأعطته روحًا جديدة من مداد العباقرة الثلاثة، خصوصا أمل دنقل الذى تفجرت موهبته الشعرية بالتزامن مع تحولات عصر عبد الناصر وتصاعد مد القومية العربية وصولا إلى هزيمة يونيو 1967 الكارثية، ما ألقى بظلاله على نفسية دنقل الذى عشق تراب مصر وآمن بالمشروع القومى، فتضاعفت أحزانه التى ورثها منذ رحيل والده المبكر وهو فى العاشرة من عمره، لكن من قلب الحزن تفجرت ينابيع الموهبة لتندفع فى شلال هادر من قصائد لها حدة الرصاص، فتوِّج أمير شعراء الرفض فى مصر والعالم العربى.

دواوين أمـــل دنقــل

تزامــن نشـر دواوين أمـــل دنقــل مــــع التحــولات التى شهدتها مصــر فى نهاية الستينيات وطوال عقد السبعينيات، وهى الفترة نفسها التى تزوج فيها من الكاتبة الصحفية الكبيرة عبلة الروينى، إذ صدر أول دواوينه (البكاء بين يدى زرقاء اليمامة) 1969، ثم ديوانه الثانى (تعليق على ما حدث) 1971، ثم دواوين (مقتل القمر) 1974، و(العهد الآتى) 1975، و(أقوال جديدة عن حرب البسوس) 1983، و(أوراق الغرفة 8) 1983، وهو آخر الدواوين التى نُشرت فى حياة دنقل الذى عانى فى سنواته الأخيرة من مرض السرطان، وإذا كان المرض قد انتصر على شاعر الرفض وأودى بحياته، فإن كلماته عرفت كيف تنتقم له وتكتب له الخلود رغم أنف الموت، فلا تزال أشعاره محل احتفاء فى الأوساط الشبابية كما كانت يوم كتبها ونشرها لأول مرة، عندما أشهر سيف الكلمة رافضا ثقافة الاستسلام والركون للهزيمة.

وبطبيعة الحال لم تكن أشعار أمل دنقل محل ترحــاب فى عهـــد الرئيــس الأســبق أنور السادات، فتم منع دنقل من الكتابة، ولم تُنشر دواوين شعره إلا خارج مصر وتحديدا فى بيروت، لكن الموهبة الصادقة لم تعترف بالحواجز، إذ انتشرت قصائده كالنار فى الهشيم، وتحولت قصيدته (لا تصالح) لأيقونة الرفض لمعاهدة السلام مع إسرائيل، ورسّخ بها أقدامه كأحد أبرز ممثلى تيار الشعر الحر، الذى كتب من خلاله معظم أشعاره التى مزجت بين النهل من التراث العربى والعالمى واللغة العربية الفصحى الرصينة القوية، فنجد استخداما للتراث فى استدعاء رمزية شخصيات مثل زرقاء اليمامة وسبرتاكوس التى طوعها من أجل معالجة قضيته الرئيسية المتعلقة بحرية الإنسان والوطن.

الشاعر الراحل حلمى سالم

وقد وقف الشاعر الراحل حلمى سالم أمام جماهيرية أمل دنقل محللا فى دراسته (قوس قزح: جماهيرية أمل دنقل)، إذ اعتبر أن أمل دنقل حقق شعبية هائلة لم تتحقق إلا لبيرم التونسى وأحمد شوقى، وذلك رغم أنه كتب بالعربية الفصحى، كما لم يكن متوائما مع المناخ السياسى والاجتماعى والإعلامى والتعليمى، بل كان معارضا له ومتمردا عليه.

وأرجع سالم شعبية أمل دنقل الجارفة والمتجددة إلى اتكائه على التراث القديم لا سيما العربى الإسلامى، مما وفر أرضية مشتركة مع القارئ العربى خلال تلقى قصائد دنقل المعاصرة، والأمر الثانى هو اتصال دنقل بهموم وطنه ومواطنيه، وتعبيره الصادق عن أشواق شعبه فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، ويصل حلمى سالم إلى النقطة الثالثة فى تحليله بالقول إن دنقل نجح فى نسج الموقف السياسى الاجتماعى الناصع مع التشكيل الفنى الجمالى القيم، متفاديا بذلك الوقوع فى أحد المزلقين الشهيرين: مزلق إعلاء المضمون الثورى المضيء على حساب التشكــيل الفــــنى الرفـــيع، أو مـــزلق إعـــلاء التشكيـــل الفـــنى الرفيـــع علـــى المضمون الثورى المضيء، ويتابع حلمى: القد نجح الشاعر فى تلك الموازنة الرهيفة بين الموقف الناصع والتقنية العاليةب.

من جهــته، يقــول أنــس دنقــل، شقيق الشاعر الراحل، لـ اآخرساعةب، إن التكريم الحقيقى الذى حصل عليه شقيقه الراحل كان من الجمهور الذى يقرأ أعماله على الدوام، ولم ينقطع يوما عن استدعاء أشعار أمل دنقل وترديدها فلا تزال دواوينه متداولة بين الناس رغم رحيله قبل أربعين عاما، وأن هذا هو التكريم الذى كان يرغب فيه أمل دنقل، باعتباره آمن دوما أن الشعر للناس ومنهم، لذا لم يهتم يوما بالحصول على تكريم رسمى فى حياته، لأنه ظل حتى آخر لحظة من عمره يؤمن بكل كلمة يكتبها ولا يمالق ولا ينافق، تشغله فقط قضية الوطن. 

وكشف أنس دنقل عما بحوزته من أعمال شقيقه غير المنشورة قائلا: اهناك أشعار وأعمال لم تُنشر لأمل دنقل فى حياته، وقد نُشر بعضها فى ديوان بعنوان (قصائد أولى) تضم 32 قصيدة مجهولة، ولا تزال هناك بعض الأعمال غير المنشورة لأمل منها مسرحية شعرية بعنوان (الخطأ) وهى موجودة عندى بخط يده، سأقوم بنشرها فى الفترة المقبلة، كما أن له دراسة نثرية بعنوان (قريش عبر التاريخ) سأعمل على نشرها كاملة وهى دراسة عن قبيلة قريش وتطورها على مدار التاريخب.

وحال نشر دراسة أمل دنقل عن قبيلة قريش، فإننا سنكون على موعد مع عمل مختلف لشاعر الرفض، لم يطلع الكثيرون عليه بعد، إذ سبق لأمل دنقل أن نشر هذه الدراسة فى سلسلة مقالات فى صحيفة الرأى الأردنية عام 1976، لكنها لم تحظ بالاهتمام الكافى وإذا نُشرت فى كتيب منفردة بشكل كامل فربما تلقى مزيدًا من الضوء على جانب إبداعى لشاعر الرفض الأبرز الذى شغل الناس وألهب النفس وأشعل العقول بقصائد كالرصاص.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 24/5/2023