في ذكرى رحيل أمل دنقل l محمد سليمان يكتب .. شاعر حقيقي

محافظ القنال اللواء محمد طلعت يصافح الطالب محمد أمل فهيم محارب دنقل عقب إلقائه قصيدة وطنية
محافظ القنال اللواء محمد طلعت يصافح الطالب محمد أمل فهيم محارب دنقل عقب إلقائه قصيدة وطنية

« إنتحى بالنخيل 

و حط على عتبات الشوارعِ 

قارن بين البحيرة و البحرِ 

ثم استقر على لهب الموجِ 

مفتتحا˝ ضحكة˝ كالصهيل 

فهل كنت تعرف وجه الجنوبى 

تسمعه يتحدث 

يلقى النكات على طاولات المقاهى 

و يُسكت أمعاءه بالقصاﺋد أو بالدخانِ

و يستملح العابراتِ

يحط المدينة فى جيبه ويقهقهُ

كانت مدينتهُ بيتهُ 

لم يجىء من شموس الجنوبِ 

لكى يتكوم فى غرفة كالقفص «

                                                    من قصيدة بورتريه

                                                    « قصاﺋد أولى»

 

فى قصر ثقافة الجيزة التقيت بأمل دنقل قبل أكثر من نصف قرن . كانت المجلات الأدبية قد أغلقت فى أواﺋل السبعينات و صارت الأمسيات الشعرية و الأدبية فى قصور الثقافة و دار الأدباء و الجمعية الأدبية المصرية بديلا عن النشر. وكانت قصاﺋد أمل التى يلقيها فى هذه الأمسيات قد ميزت صوته ورسخت ملامح وجهه كواحد من أهم شعراء جيله. كنت فى ذلك الوقت بلا قصاﺋد منشوره و أخشى المشاركة فى الأمسيات حتى أوصل الاذاعى الراحل حمدى الكنيسى الذى كان يكتب القصة القصيرة فى ذلك الوقت كراسة لى تضم ثلاثين قصيدة إلى صلاح عبد الصبور الذى اعتبرها ديوانا متميزا ناقشه و قدمنى به عام 1971 فى برنامج أقلام جديدة الأمر الذى شجعنى على المشاركة فى بعض الأمسيات و رسخ علاقتى بأمل دنقل الذى أفادنى كثيرا عندما قدم قراءة نقدية لبعض قصاﺋدى فى برنامج كتابات جديدة عام 1972 و عندما أدخلنى ورشته الابداعية و أرانى مسودات قصاﺋده و عمليات الحذف و الاختصار و طبق ذلك على قصيدة لى فصارت أقصر و أكثر تماسكا و أجود فنيا ... كان هذا ما تعلمه من محمود حسن اسماعيل كما قال لى .

اهتزت علاقتى بأمل عندما طالبنى بترك مهنة الصيدلة و الاستقالة من شركة الأدوية التى كنت أعمل بها و التفرغ للشعر لأننا كما كان يردد داﺋما إذا لم ننجح الآن لن ننجح غدا  و التفرغ سيساعدنى على نشر شعرى و ترويجه و إلقاﺋﻪ فى  الأمسيات الشعرية وكان يرى أن مهنة الصيدلى صعبة و قاتلة للشعر. و ظل هذا المطلب مثار خلاف داﺋم بيننا لأننى كنت أرى التفرغ تنازلا عن الحرية و الاستقلال و انزياحا˝ عن الذات و ابتعادا˝ فى الوقت نفسه عن البشر العاديين الذين يمنحون الوطن شكله و ملامحه و الاكتفاء بداﺋرة ضيقة من الكتاب و الاستغناء عن تجارب و خبرات حية و متجدده .

و ظل أمل يلح على و يتهمنى بمعاداة الشعر و استعان على فى منتصف السبعينات بصلاح عبد الصبور الذى كان يرأس تحرير مجلة الكاتب و يعمل فى الوقت نفسه مديرا˝ لإدارة النشر باﻟﻬﻳﺋﻪ العامة للكتاب و كان صلاح يرى مع أمل أن مهنة الصيدلى صعبة ولا تناسب الشاعر و طالبنى بترك هذه المهنة و العمل معه فى إدارة النشر لكننى اعتذرت .

منذ بداية السبعينات كان أمل دنقل قد صار شاعرا متميزا و مرموقا ترحب بنشر قصاﺋده المجلات العربية و بدواوينه دور النشر فى بيروت وكنا شعراء السبعينات فى بداياتنا نعانى من غياب المجلات و تقلص فرص النشر و سفر الكثير من الكتاب و الشعراء و النقاد إلى الخارج بعد طردهم من وظاﺋفهم و كان على شعراء السبعينات أن يعتمدوا على أنفسهم ومن ثم ولدت الجماعات الشعرية و شكلت مجلات و مطبوعات الماستر أحد ملامح الحياة الثقافية المصرية .

الشاعر الحقيقى الذى يستحق لقب الشاعر هو الذى إذا ذكر اسمه تذكرنا قصاﺋده و دواوينه و ملامح صوته وتجربته كان أمل دنقل يردد داﺋما˝ وكان محقا˝ فمازالت قصاﺋده تشد القارىء و الناقد والباحث بعد رحيله بأربعة عقود. 

نقلا عن عدد أخبار الأدب بتاريخ 28/5/2023

اقرأ أيضًا : راجح داوود يسخر من إحياء صوت أم كلثوم بالذكاء الاصطناعي