..نفر قليل من مشوا في جنازته، ونفر أقل من حضروا عزاءه؛ ليس كرهًا في شخصه ولكن ربما بسبب الدهشة التي أصابت بعض اصدقائه عندما وقع الخبر الصادم عليهم، أو ربما الموت في حد ذاته صار لا يعني أحدًا وإنما الحياة هي التي تعني كل شيء، أو ربما بسبب المكان النائي الذي تسكنه الأسرة ولأن إكرام الميت دفنه؛ حمل المشيعون النعش الذي غاص في أكتافهم وساروا به إلى الحفرة التي تواري جسده؛ حتى آمال التي كانت يومًا زوجته، اختفت خلف باب شقتها، أوصدته جيدًا، هاربة من ربكة الأسئلة التي سوف تحاصرها ولن تجد لها أجوبة، وكأن الأمر لا يستحق منها جهد الحزن على الفقيد الذي منحها حبه وثروته ولو دمعات قليلة تذرفها ذرا للرمال في العيون؛ احتفظت آمال بالشقة وابتعدت عن أهل زوجها الراحل الذين يسكنون بقية البيت؛ فشلت كل مساعيهم لاستمالتها ليس حبًا فيها – فقد اعتبروها من حوادث الدنيا - وهي القصيرة المكيرة التي سقط ابنهم في حبائلها وكان على استعداد للسجود أمامها من شدة عشقه بها؛ فنجحت في أن تفذفه إلى سراديبها الموحشة، وسلبته كل ما يملك من أموال، حتى الشقة التي يسكنها في بيت العائلة نقل ملكيتها لها بيعًا وشراءً؛ تذكرت آمال في هذه اللحظة أنها نسيت أن تجعل زوجها رحمه الله يحرر لها توكيلًا يمنحها حق التصرف في الشقة بالبيع أو الإيجار، فماذا تفعل سوى أن تُسرع الخطى بناءً على نصيحة محاميها؛ بأن يرفع لها قضية صحة ونفاذ على العقد الابتدائي، وبمجرد أن تحصل على الحكم يمكنها هنا أن تسجل الشقة باسمها الكريم في الشهر العقاري ومن ثم تبيعها.
وبعيدًا عن آمال ومكرها؛ كانت أسرة الابن الراحل تنتظر رحيلها غير مأسوف عليها؛ فقد طال صبرهم وآن لطول الليل أن يطلع بعده الفجر، فهم لا يتذكرون لها غير ماضِ يزدحم بذكريات ومواقف أليمة وما زاده ألمًا؛ هو سلبية الابن الذي كان مثل الخاتم في اصبعها، ولكن بات يقينًا لديهم الآن أن ترحل الأرملة اللعوب بلا رجعة، قالها الأب لها بملء الفم؛ «في الهاوية التي أنتي ذاهبة إليها»، نظرت آمال إلى حماها وبنظرة يملؤها كوكتيل من الحقد والكره والطمع ممزوجة بالوقاحة في الرد، قالت له: «اسمعوني كلكم الشقة دي بقت بتاعتي ملكي أنا، الله يرحمه كتبها لي بيع وشرا، ودي صورة العقد – ألقتها في وجه الأب – اقروه كويس»!، التقط الأب صورة العقد من على الأرض بعدما أغلقت الباب في وجهه؛ هو ليس في حاجة لأن يقرأ بنوده بقدر ما قرأ أرملة ابنه يوم أن تزوجها بعناية الدارس لآثامها ولما لا وهو الرجل بحكم عمره الطويل الذي سبر أغوار الحياة؛ فطالع فيها النقيضين معًا القبح والجمال.
هل صارت قضية شائكة؟!، هل يرتاح ضميرها وهي تذهب إلى المحكمة كي تأخذ حقًا ليس من حقها؟!؛ تفحصت الأسرة العقد الملعون وهم يشعرون بمرارة المعصية التي ارتكبها الابن في حقهم جميعًا.
تظاهرت آمال وهي ذاهبة إلى المحكمة بالصلاح والتقوى وقد تناست فكرة الاغتصاب، وأنه ليس في مسلكها عدل، بل اختارت سبلًا معوجة منذ البداية؛ تذكرت انتصارها المزعوم حين تزوجت وهي في العشرين من عمرها رجل تخطى السبعين لكنه يمتاز بالثراء؛ فأهداها قبل وفاته مالًا وفيرًا بزعم خوفها من ابنائه الذين يكرهونها.
آمال لم تمل من تكرار تجربة الزواج، من عمرها الذي يسرقه الزمان من أجل جني المال بلا هدف، أن تتخلى عن مشاهد القسوة والغباء التي تتحلى بهما، أن تدرك أن الحياة لا تحكمها قواعد في السراء والضراء؛ فقط كان لديها قناعة زائفة بأن المرأة الجميلة الجذابة مثلها لم تكن في حاجة أن تبذل مجهودًا لاجتذاب الرجل، فهو دائمًا وبلا عناء وضع الخطط والتكتيكات أو البحث عن حيل، مجذوب من تلقاء نفسه؛ خاصة وقد ظنت في نفسها أنها امرأة شحيحة نادرة في كل شيء، جمالها الأخاذ يدفعها لحالة من الجنون والأوهام استوطنت عقلها وضميرها، فما عاد مهمًا في حياتها أن تجد السعادة وراحة البال، الأهم أن الطريق الذي تقطعه لابد وأن ينتهي بالمكسب، أن تعيد تدوير الرجال في حياتها.
لم تتوقع آمال أن تكون نهايتها فخًا ستهوى فيه، بعد حياة كاملة صار محكوم عليها بالموت..؛
قبل أن تُساق إلى غرفة الإعدام حيث كان في انتظارها عشماوي لتنفيذ حكم الموت شنقًا فيها بعدما قتلت زوجها الأخير بالسم وضعته له في طعامه بعد حياة زوجية قصيرة لكنها حافلة بالخيانة وليته اكتفى بخيانتها فقط وإنما سرق ما طالته يدها من زوجين سابقين؛ فقررت قتله بعدما وضعت له السم في طاجن «مسقعة باللحم المفروم» هي تعرف أنه يشتهيها مثلما اشتهى خيانتها وسرقتها بعدما خدعها أنه رجل أعمال؛ صدقته حين قال لها أنه على مشارف صفقة مكسبها 10 ملايين جنيه؛ فسلمته كل ما تملكه من مال وعقار بعدما احتضنت طمعها وصدقت أن مكسبها من هذه الصفقة لن يقل عن ثلاثة ملايين جنيه، قطعت آمال شوطًا في الأحلام بأنها على مشارف أن تكون سيدة أعمال تلعب بالأموال لعبًا؛ إلى أن كانت النهاية تقف على طبلية الإعدام؛ جاءت آمال وهي تغطي وجهها بشال أبيض، إلاَ أن عشماوي طلب منها إزالته ليرى وجهها قبل تنفيذ الإعدام؛ كانت امرأة بحق جميلة، لعبت أدورًا خطيرة في حياة من نصبت فخاخها في طريقهم لتنقض بعد ذلك عليهم وتلتهمهم، لكن ماذا عساها أن تفعل بجمالها الآن؟
وضع عشماوي الكيس أو الطاقية السوداء على وجهها وشد ذراع التنفيذ؛ لتنتهي حياة آمال، حياة امرأة ترنحت بين الحمق والغباء والطمع.