شعبان يوسف يكتب: مصريون فى السودان وسودانيون فى مصر

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

«ولا هذى.. ولا تلك

ولا الدنيا بما فيها

تساوى مقرن النيلين فى الخرطوم يا سمرا».

هكذا تغنى صلاح عبد الصبور بالخرطوم وجمالها، بتلك الكلمات التى سجَّلها بصوته الفنان السودانى سيد خليفة، لتبقى على مر السنوات جزءًا لا ينمحى من ذاكرة التراث.

وفى المقابل أعلن الكثيرون من فنانى السودان وأدبائها عن محبتهم لمصر، ومن بينهم الشاعر المعروف التجانى يوسف بشير، الذى توفى فى أوائل القرن العشرين عن عمر 25 سنة، ورغم سنواته القليلة فى الحياة نجده يقول عن مصر:

«عادنى اليوم من حديثك يا مصر رؤى وطوفت بى ذكرى

وهفا باسمك الفؤاد ولجّت بسماتٌ على الخواطر سكرى».

 

وفي تلك الحالة من المحبة المتبادلة والوحدة الوجدانية؛ لم تكن على مستوى الأدب فحسب، وإنما امتدت لمختلف المجالات، لأن الأصل فى البلدين أنهما بلد واحد. وفى إطار ذلك؛ يصحبنا الكاتب شعبان يوسف فى بانوراما سريعة لقراءة المشهد الأدبى والثقافى فى السودان، كمحاولة لكسر حاجز الصمت حول تجربة أدبية عميقة وشاملة.

ترنيمة

يقول دوستويفسكى: «إن دمعة فى عين طفل، تكفى لإغراق ضمير العالم وتأريقه ومنعه من النوم»، كم أنت طيب وبسيط يادوستويفسكى، طيب إلى حد البراءة، لا أريد القول: «إلى حد السذاجة»، لأنك تتحدث من زمن وعالم بعيدين وآخرين تمامًا، لا نستطيع أن نصف ذلك الزمن القديم بالنبل أوالعدالة، ولكنه على الأقل كان أقلّ تعقيدًا وغشامة وفجاجة من عالمنا، وربما أقل وحشية مما نعيشه الآن، تلك الوحشية ياعزيزى دوستويفسكى أصبحت ذات أقنعة ولافتات وجماعات وجمعيات وجيوش وأنظمة كاملة، وكذلك رسل وأنبياء كذبة،صباح الخير أيها الضمير الهارب، صباح الخير أيها الضمير الذى ينام –عادة–خلف الكوارث التى تحدث يوميًا دون أن تكلّف نفسك بجدية لإيقاف تلك الماكينة البشعة، ماكينة القصف الغاشم للانسان الأعزل من أى سلاح.

وصباح الخير أيها السودان العظيم، السودان الذى تحالفت عليه كل الشرور، صباح الخير أيها السودان الذى صار يعانى ويلات الحرب الموسمية الضروس من  ناحية، وويلات الاستنزاف الدائم، متعدد الوجوه من ناحية أخرى، بالتأكيد حتمًا سيحدث ما يغيّر تلك المعادلات الظالمة التى تفرض نفسها بقسوة وضراوة وبلطجة، لا يمكن أن تظل الأمور هكذا، ويظل العبث ينعق وحده منفردًا دون أى عقل رزين، ذلك العبث الذى يدير العالم بكل مقدراته.

مدخل شخصى جدًا

استيقظتُ فى طفولتى البعيدة على حياة كانت هادئة، فى أواخر عقد الخمسينيات من القرن العشرين، فى ضاحية شبه نائية جدًا عن الدنيا كلها تُدعى عين شمس، ضاحية يعمل فيها الآثاريون حفرًا وبحثًا وتنقيبًا للعثور على كنوز وتماثيل فرعونية، وذلك لأن المنطقة لها تاريخ قديم، ومجد فرعونى عظيم كما كان أهلنا يلقوننا دائمًا، لذلك كنا نشعر بأننا نسكن فى مكان متحفى عريق، يقع ذلك المكان فى شرق القاهرة، واتسم بطابع صحراوى واضح رغم وجود هؤلاء العمال الذين يهتكون هدوءه بسبب عمليات الحفر الكبرى للبحث عن الآثار، ويكتسب المكان صحراويتهم تلك المساحات الرملية الواسعة التى لم تكن قد لحقت بها عناصر العمران أو التمدن، ولولا بعض مساحات من الزراعة التى تغطى بعضًا من الأرض، لقُلنا بأن عين شمس ضاحية صحراوية تمامًا، كما كانت هناك  فى خلاء شاسع   ماكينة وحيدة تضخ مياه الرى لتلك الأراضى القليلة المزروعة، ولا تعمل تلك الماكينة سوى فى يومين من الأسبوع: «السبت، والثلاثاء»، أما بقية الأيام فكانت الماكينة مرتعًا للصبية وتلاميذ المدارس والشباب.

 

وعند تلك الماكينة، وفى براح الفضاء المحيط بها، كان يلتقى بعض صبيان وفتيان وشباب وكهول تلك الضاحية لبعض أغراض عملية أو ترفيهية مختلفة، أحدهم يأتى لكى تمرح خرافه وعنزاته فى ذلك الهواء النقى، وأحدهم جاء لكى يستذكر دروسه، وبعض صبية أتوا لممارسة أشكال من النزق الرومانسى مع فتيات صغيرات أيضا، وآخرون جاءوا للتريض الروحى وقراءة بعض الكتب والروايات فى هدوء شامل، فقط بعض الوقت، ولم يكن هناك أدنى زحام، فالمنطقة كانت تحت التأسيس، وأقدم سكانها من العربان والسودانيين الذين اشتروا بعض أراض فى مناطق متفرقة من الحى، وبنوها لكى تصبح تلك البيوت التى بنوها هى حجر الأساس والإعمار فى ضاحية عين شمس.

امتلك والدى قطعة أرض فضاء تزيد على مائة وخمسين مترًا مربعًا فى إحدى الحارات «تحت الإنشاء»، وبنى على تلك الأرض غرفتين صغيرتين، مع إعداد بعض لوازم الحياة الأخرى، مثل بناء حمام متواضع، ومطبخ ببعض خشب كنا نسميه ال «طفش»، وترك بقية الأرض دون بناء نمرح فيها ونرتع طوال الوقت، كان البيت يقع فى آخر حارة عم سالم الزهيرى؛ الذى امتلك أول بيت فى الحارة، وجعل من طابقه الأول «الفرن الرئيسى» للخبز البلدى فى المنطقة، ولم تكن الحارة قد اكتملت فى بناء بيوتها، بل ظلّت تنطوى على بعض مساحات فارغة، شبه خرابات سرعان ما تم تعميرها ببنائها لبيوت بسيطة، كلها لا تزيد على طابق واحد، عدا بيت سالم الزهيرى الذى بُنى  على طابقين، وبيت رجل آخر كان ميسورًا، ويعمل موظفًا فى شركة مصر للطيران.

وعندما كبرت قليلًا، كانت أمى تحكى لى أنا وأختى صباح التى تكبرنى بعامين عن بعض ما حدث فى ليالى العدوان الثلاثى من عام 1956، وتقول إن بعض رجال حرس الحدود، والهجانة، كانوا يمرون بشكل يومى،وهم على ظهور أحصنة، لكى يطمئنوا على أهل المكان، وليبثوا بعضًا من الأمان لهم، وذلك فى مواجهة الرعب الذى كانت تحدثه الطائرات التى تمرح فى سماء القاهرة، وكذلك دوىّ المفرقعات الذى يصل إلى أطراف عديدة من القاهرة، وتحكى – كذلك  عن أنهم كانوا يعرفون أهل كل بيت من البيوت، ويسألون عن أبى الذى يغيب كثيرًا لدواعى العمل الذى يزاوله، ويقولون لأمى: «لا تخافى، إنها أيام وستزول، ولو تحتاجين أى شىء، لا تترددى فى طلبه، الأخ يوسف أخونا، وله كل الحق علينا»، وعرفت أمى بعد ذلك أن بعض هؤلاء العساكر، كانوا أقرباء لبعض جيراننا الذين لا تبتعد بيوتهم عن بيوتنا إلا بمسافات قصيرة لاتتجاوز المائة أو المائتين متر، وإن كان هؤلاء الجيران القريبون من السودانيين لا يعملون فى الهجانة أو فى حرس الحدود، إلا أن كل السودانيين يعرفون بعضهم البعض، ويقيمون علاقات اجتماعية وطيدة مع أهل المنطقة، كما كان النادى السودانى يفتح أبوابه للجميع؛ويقع على بعد مائتى متر من بيتنا.

 

وعلى بُعد مائة متر من بيتنا، كان منزل عم عوض التوم؛ أنيقًا، وتحيطه حديقة صغيرة تنعم ببعض أشجار الفواكه، مثل التفاح والخوخ وما شابه، وعندما تطرح تلك الشجرات، يرسل لبعض الجيران «البشاير»، مع تقادم السنوات، كنا نلتقى بأبناء عم عوض: «عبدالله التوم، وإسماعيل التوم»، وكان هناك شقيق أكبر من عبدالله وإسماعيل يعمل مدرسًا للغة الإنجليزية بوزارة التربية والتعليم اسمه على، يكبرنا بما لا يقل عن عشر سنوات، ولذا كانت علاقتنا به محدودة جدًا، وتدور فى أطر شبه رسمية، أى عندما نتعثر فى معرفة معلومة فى أى مجال، الرياضى أو الاجتماعى أو الدينى حتى الثقافى، وذلك المجال الأخير كان عبد الله –الذى يكبرنى بسنوات ثلاث –يدرك بعضه، ويحاول أن يحكى لنا عن تلك القصص التى يقرأها، وأحيانًا يردد بعض أسماء أدباء مثل إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعى، ونجيب محفوظ وغيرهم.

وكانت بعض تلك الروايات التى نراها معه، منزوعة الأغلفة، وقديمة، يشتريها من بائع للكتب القديمة، وبعضها الآخر يستعيرها من مكتبة الأستاذ على، وبعدما يقرأها، يعيد سردها لى ولأخيه إسماعيل. كان عبد الله التوم، هو نافذتى الأولى على عالم الكتب والروايات التى يقتنيها، ويسحرنا بسردها بطريقته الممتعة، وبلهجته السودانية التى لم تتركه، ولم يتركها، رغم أنه يعيش فى مصر، ولكن الارتباط والتآزر السودانى الذى كنا نلاحظه، كان يجعل من عنصر الانتماء حتميًا، دون أى تناقض مع طبيعة المصريين.

وذلك الانتماء الذى يبدو عميقًا فى اللهجة الخاصة، والأزياء الرجالية الوطنية، وهى الجلباب الأبيض القصير، وتحته مايشبه البنطلون الأبيض من قماش البفتة، كذلك الأزياء النسائية المميزة، والتى نعرفها من خلال «التوب» متعدد الألوان، والذى يشبه «الملاية اللف» المصرية، ولكن «التوب» السودانى النسائى، كان من أقمشة خفيفة، كذلك الأطعمة المتعددة التى كنا نشاركهم فيها، حيث إن علاقاتنا لم تقتصر على الجوانب الاجتماعية الهامشية، بل تعمّقت جدًا، للدرجة التى كنا ندخل بيوتهم ويدخلون بيوتنا، ونأكل من طعامهم ذى النكهة الحادة من كثرة الشطة التى يحبونها، ويضعونها تقريبا فى كثير من أطعمتهم.

 

ولم يكن منزل عم عوض التوم فقط هو القريب من حارتنا، بل عدة بيوت أخرى لبعض السودانيين الذين يعملون فى وظائف مختلفة، كما أن هناك بعضًا من المشاريع الصغيرة الحرة، مثل بقالة «طه الجزولى»، والتى يبيع فيها كثيرًا من السلع المصرية المعتادة، ولكن «دكان» عم طه كان يحفل بكثير من السلع السودانية مثل الشطة والبخور والعطور السودانية الرخيصة، وكان عم طه قد أنشأ «مصطبة» أمام دكانه لكى يستضيف بعض أقربائه وأصدقائه السودانيين، وكنا كثيرًا ما نراهم يديرون حواراتهم فى حالة بهجة عارمة، وبأصوات مرتفعة محببة، وهذه الجلسات التى كانت كثيرة فى شوارع الضاحية، هى التى جعلت السودانيين فى عين شمس كأصحاب مكان وبالتالى مكانة، وكأنها ضاحية سودانية، وبالفعل كانت العلاقات بينهم وبين الآخرين، لا غبار عليها، وهذا ما كتب عنه الأديب طارق الطيب فى سيرته الذاتية، وهو من أبناء عين شمس، ولكنه من أصول سودانية، يقول فى كتابه «محطات من السيرة الذاتية» ص34: «نشأة فى عالم بدا لى كأنه الأزل فى كل شىء، فى «عين شمس» أو مدينة الشمس، فى هذه المنطقة الفرعونية القديمة تكون بيوتنا –على حد علمى– ربما هى المرة الأولى التى تعمّر فيها بعد آلاف السنين، مكان شبه مهجور لا يؤخذ فى الحسبان من معظم العائشين فى قلب القاهرة، مكان ليس بعيدًا عن القلب، لكن يكفى أن تذكر لأحد–من غير أهل هذا المكان أو الأمكنة الأبعد–إنك تقطن عين شمس، لتسمع منه كلمة: (يااااااااه! ساكن فى آخر بلاد المسلمين؟ فى الصحراء؟ّ!، كأنك فعلًا تسكن فى المريخ، هذا الأمر غالب فى قاهرة المعز، بل يبالغ البعض ممن يعيشون فى المنطقة الأقرب، بأنهم من مصر الجديدة، يقولونها بفخر وتعال كأنها (تورتة مصر)»، ويكبر طارق بعد أن يتعلّم فى مدارس مصرية، ويجرى عليه ما يجرى على كل المصريين، فلا يوجد أى تمييز، حتى أن يحصل على شهادة الثانوية العامة، لكى يدخل الجامعة، وتبدأ المتاعب البيروقراطية التى جعلته يترك البلد بعد عدة أسفار فاشلة، ليستقر أخيرًا فى فيينا، ويحصل على شهادة الماجستير والدكتوراة، ويعمل بعدة جامعات نمساوية وألمانية، وتمتزج عنده الهوية المصرية بالسودانية، لكى تستقر هناك فى أوروبا، هويات عابرة للتجنيس الجغرافى.

 

وفى سيرته الذاتية الصادرة فى القاهرة عام 2012 يسرد الشاعر والكاتب والروائى طارق الطيب كثيرًا من ذلك المزيج الهوياتى الذى أصبح سبيكة واحدة، لكن تبقى لحياته فى القاهرة القسط الأعمق: «طفولة أخرى ثرية فى شمال سيناء حتى عمر السابعة قبل أن يضيع البيت بما فيه فى عام 1967، وطفولة أخرى فى قلب القاهرة، فى الحسينية تحديدًا، محل سكن الجدة للأم، فهناك موالد تدفع للخيال، مقام يدفع للخيال وأفراح وطهور ومآتم ونذور وزار، وعراك وحرب وعدو وعبد الناصر وجولدا مائير وعرفات والنميرى وجونسون ونيكسون ومحمد المليجى وهند رستم وتحية كاريوكا وفاتن حمامة. وعبد الحليم حافظ.... ثم حكايات لا حصر لها عن الجن والعفاريت وعن الشياطين»، ويسترسل الطيب فى ذكر مختلف جوانب الحياة المصرية التى أحاطت به، وعاش بها وفى قلبها، ولكنه لم ينس أن يدرج ملاحظة ويسجل نقطة محورية وفى أسى فيقول: «وتتغير الأحوال بعد أقل من عقد ليكتشف الابن الأصغر أنه عاش فى مصر بجنسية سودانية، وهو لم يكن يأخذ هذا الأمر بأنه يشكل فارقًا فى الحياة فى هذه الأرض، فاللسان قاهرى، والحياة والنشأة قاهرية، والسودان يسير موازيًا لمصر يجرى فى القلب والقالب دون حدود، لكن البعض يريد الحدود ويبحث عن تصنيف الهويات ويتسع الشرخ».

لا يذهب طارق الطيب بعيدًا عن الغرض الذى كان يسعى له قديمًا المصريون والسودانيون فى السابق، دون أى تعكير للعلاقة بينهما، السعى نحو وحدة وادى النيل، ولكن الاستعمار البريطانى البغيض هو الذى زرع الفتنة بين جنوب الوادى وشماله منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبالتحديد منذ الثورة العرابية، والتدخل السافر فى السياسة المصرية والسودانية، والتحكم فى مقدرات البلدين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والسيطرة عبر حكّام بريطانيين استعماريين، وغزو الجنوب عبر قوات مصرية تذهب دون أى خبرات لكى تلقى حتفها فى أكثر من مرة فى مواجهة الثورة المهدية، كما سنرصد فى السطور التالية.

الفن النوبى والسودانى

طارق الطيب كان ابنًا لأحد فرسان قوات الحدود، وبعدما كبرنا قليلًا أدركنا أن معسكرًا كبيرًا على أطراف عين شمس يضم عددًا كبيرًا من ضباط وصف ضباط وجنود وصولات يضمهم ذلك المعسكر، قبل أن يتحول إلى معهد أمناء الشرطة الآن، وفى ذلك المعسكر كان يعمل الفنان بحر أبو جريشة مدربًا للكلاب، وكان أحد الفنانين المدعوين لإحياء أفراح السودانيين، يتوسط أبو جريشة عددًا من فنانى النوبة والسودان، وتبدأ وصلته الغنائية من الساعة الحادية عشرة حتى صباح اليوم الثانى، وكانت الأفراح تقام فى الشوارع، وفى داخل «صوان كبير»، ويتجمع سودانيو عين شمس والمناطق الأخرى من القاهرة، وبالطبع يأتى ضيوف وزوار ومعازيم من السودان لحضور الفرح.

وأنشأت الحكومة المصرية إذاعة «ركن السودان»، كنا نتعرف على أخبار السودان منها، كما كنا نسمع البرامج السودانية الخفيفة من تلك المحطة التى تبث بضعة ساعات، وكان هناك تواصل كبير مع تلك المحطة، ومن المدهشات أن الأغانى التى يطلقها بحر أبو جريشة فى الأفراح، كنا نسمعها فى محطة ركن السودان.

 

وكان ينتابنا فرح شديد عندما نستمع ونطرب إلى الموسيقى السودانية المميزة، وذلك قبل أن يشتهر بحر أبو جريشة على الإطلاق، وتصبح أغانيه منتشرة بشكل واسع فى مصر، ووزع أول شريط كاسيت أكثر من أربعة ملايين شريط، وكانت الشركة قد تعاقدت معه على 500 جنيه على سبيل التجريب، وعندما قفز التوزيع إلى ذلك الرقم، احتج أبو جريشة على قلة المبلغ الذى تقاضاه، وتفاوض مع الشركة، فتكرمت عليه ومنحته سيارة «رمسيس»، بعدما كسبت منه مبالغ طائلة، ولم يتقاض منها أكثر من ذلك.

وكان أبو جريشة الفنان النوبى، من أصل سودانى، يبدأ هادئًا بأغنيته الشهيرة «ياليل يا أبو الليالى»، ويظل يرددها كثيرًا، حتى تحدث حماسات متنوعة من الجمهور وأصحاب الفرح والمعازيم، وكان الجميع يرقصون على تلك الأغنية، وبعد أن يدرك أبو جريشة أن معظم الحضور استجابوا له وأخذوا يرقصون فى دوائر تبدأ صغيرة، ثم تتحد بعض الدوائر لكى تكبر رويدًا رويدًا، وبعد «ياليل يا أبو الليالى»، يغنى كثيرًا من التراث النوبى والسودانى، والجميع يرقصون ويرددون خلف «أبو جريشة» فى طرب ونشوى واستمتاع قلما كنا نجده فى أفراح أخرى، تظل تلك الدوائر تتسع وتزداد عددًا، ويظل أبو جريشة يصهل ويصهلل بأغانيه الأخرى مثل رحال ومقادير وغريب.

ومن التراث النوبى والسودانى، وينسحب كبار السن من دوائر الرقص، ويتركونها للشباب الذى يزداد حماسًا، ويجلس الكبار فى أركان الشادر حتى الصباح، وكنا نحن ننتظر تلك الأفراح المثيرة للبهجة النوعية، والتى كانت رغم أنها تظل ساهرة حتى الصباح، لا تحدث فيها تلك المعارك التى كنا نراها فى أفراح أخرى، فهنا جمهور لا يسعى إلا لصناعة البهجة، تلك البهجة الخاصة التى تبعث كثيرًا من أنواع الرقص السودانى، وكنا فى كثير من الأحيان نحاول أن نقلد رقصهم، ونرقص على إيقاع أغنية «البامبو السودانى».

فريق الكاسح وإبراهيم الشيخ

وكان السودانيون فى عين شمس يقيمون مباريات لكرة القدم، شبه منتظمة، تقام فى شوارع معينة كل يوم جمعة، وبالطبع كانت تسبق يوم الجمعة عمليات تدريب شاقة يقوم بها شاب سودانى رشيق ومهذب ومحبوب جدًا من كل أهل عين شمس، ولا أعرف متى بالتحديد فى عقد الستينيات شرع كابتن «إبراهيم الشيخ»–أحد مجانين كرة القدم السودانيين فى عين شمس– لتكوين فريق للكرة، وأطلق عليه «فريق الكاسح»، وكانت هناك مساحة واسعة من الأرض فى شارع الشهيد أحمد عصمت أشهر شارع فى الضاحية ، وراح كابتن إبراهيم يضم عددًا من أبناء عين شمس للفريق، وكان أخواه عبده وأحمد الذى ذهب فيما بعد إلى الخرطوم لكى ينضم هناك إلى فريق «المريخ» السودانى ويحقق أمجادًا كبرى هناك.

 

وكان كابتن إبراهيم ينظم مباريات للفريق مع أبناء الأحياء الأخرى القريبة من عين شمس، مثل حى المطرية والزيتون والعباسية والأميرية، وكان يتمتع كثيرًا بأخلاق عالية انطبعت على كل أعضاء الفريق الذى ضم فى إهابه كثيرًا من السودانيين، واعتاد إبراهيم الشيخ أن يدعو واحدًا من النوادى الكبرى مثل الأهلى والزمالك وخاصة فريق الأوليمبى، لعلاقته الوطيدة بكابتن عز الدين يعقوب نجم النادى الأوليمبى، والذى كثيرًا ما كان يحضر مباريات المنافسة لفريق الكاسح فى عين شمس، فيرشح له كابتن إبراهيم بعض اللاعبين الشباب لكى يضمهم إلى فريق الأوليمبى، وأتذكر أن الكابتن عز الدين يعقوب قد أعجب بلاعب سودانى من فريق الكسح اسمه «لطفى»، ورشحه لكى يضمه لفريق الأوليمبى، ولكن بعد أن تختبره لجنة رياضية، كان لطفى أحد الهدافين الكبار فى فريق الكاسح، وأكثر لاعب من أعضاء الفريق حركة، وعندما ذهب لإجراء الاختبار، لم تقبله اللجنة، لأنه لا يستطيع اللعب إلا «حافيًا»، ولم يستطع اللعب إطلاقًا بعد أن لبس «البوت»، وهذا ما حدث مع أكثر من لاعب، ومن بينهم اللاعب «هلال»، وهو من أصل فلسطينى، وكان والده أشهر حلّاق فى عين شمس، فقد مرّ بنفس التجربة التى مرّ بها لطفى.

وفي ظل الفريق يمارس اللعب كثيرًا فى عين شمس، وكان أهل المنطقة يحتشدون منذ صباح كل يوم جمعة لكى يستمتعوا بالمباريات التى تذاع بواسطة ميكروفونين يعلقان على سطوح منزلين فى طرفى الملعب، حتى يتمكن أبناء عين شمس من  متابعة أخبار المباراة، وقد استطاع إبراهيم الشيخ أن يكوّن فريقًا من الأشبال، وكان أحد الأشبال اسمه «محمود الخطيب»، الذى أصبح نجم نادى الأهلى الأول فيما بعد، كان الخطيب فى مدرسة الزهراء الابتدائية، وظهرت مواهبه بقوة فى فريق المدرسة، فضمّه كابتن إبراهيم إلى أشبال فريق الكاسح، واستطاع أن يكتشف مواهبه التى لا تخفى على أحد، إذ كان كابتن إبراهيم يمعن فى تدريب الخطيب بشكل خاص، حتى أن ذهب إبراهيم الشيخ لكى يكون مدربًا فى نادى النصر، وأخذ معه الخطيب لكى يكون النجم الأول فى فريق نادى النصر، قبل أن تتفاوض إدارة نادى الأهلى مع إدارة نادى النصر لضم الخطيب إلى النادى الأهلى، وحسبما أشيع أن إبراهيم الشيخ كان متمسكًا بالخطيب جدًا، ولم يوافق على عملية ضمه للنادى الأهلى، ويقال إن أوراق الخطيب خرجت من نادى النصر بشكل ما ضد عناد إبراهيم الشيخ الذى كان أول من درّب محمود الخطيب تدريبًا كرويًا منظمًا، واسهم كثيرًا فى تربيته الرياضية الكبيرة، كما ساهم إبراهيم الشيخ وأخوته كابتن أحمد وكابتن عبده فى ترويج لعبة كرة القدم فى عين شمس وفريق الكاسح الذى كان أقوى فرق ضواحى القاهرة فى عقد الستينيات وبعض السبعينيات.

محمد مفتاح الفيتورى

ظلّت العلاقات بيننا وبين الشباب السودانى قائمة بشكل كبير، للدرجة التى لم نكن نشعر فيها بأى فروق بيننا، وفى حرب أكتوبر 1973، كان عبدالله التوم قائدًا لفرقة «الدفاع المدنى» التى كونها الاتحاد الاشتراكى لممارسة تدريبات رياضية لمواجهة أى عدوان من الممكن أن تحدث، كان كذلك ينظّم عمليات التثقيف السياسى للشباب آنذاك، ويتواصل مع المحاضرين، لم يكن قائدًا خاملًا أو تقليديًا، ولكنه كان دينامو ويشتعل ويشعل حماسنا إلى ذروات كبرى، ولم يكن سؤال الهوية السودانية دون الهوية المصرية مطروحًا بأى شكل من الأشكال، وكان الشعور الوطنى ملتهبًا جدًا، وكان عبد الله قد تمرّس على فعل القراءة بشكل شبه منظم، وأول مرة سمعت عن شاعر سودانى اسمه محمد مفتاح الفيتورى، كان من عبد الله؛ كان يترنم ببعض أبيات من شعره، ويلقى القصائد بطريقة بسيطة وهادئة، جعلتنى أبحث عن شعر ذلك الشاعر الذى امتزجت رقته بحدته فى نسيج واحد، وقد أثار الفيتورى ضجة كبيرة عند ظهوره فى مطلع خمسينيات القرن الماضى.

 

ومن البديهى أن أى باحث فى التاريخ الأدبى والثقافى يعرف ويدرك أن ثمة عوامل مشتركة كثيرة ربطت بين المصريين والسودانيين، أما عن الفيتورى، فقد وُلد كما هو مسجل فى سيرته الذاتية فى بلدة الجنينة عاصمة دار مساليت الواقعة على حدود السودان الغربية، والده الشيخ مفتاح رجب الشيخى الفيتورى، وعرفت أسرة الفيتورى أشكالًا من الهجرة قبل أن تستقر فى منطقة القبارى فى الإسكندرية، وفى شارع المكس نشأ الشاعر، والتحق بمدرسة الأخلاق الأولية، لكى يتأهل لدخول الأزهر الشريف، وحفظ القرآن الكريم بصعوبة، وقبل أن يبلغ العاشرة من عمره قامت الحرب العالمية الثانية عام 1939، وعاش فى جو الهلع والرعب إثر الغارات التى كانت تتوالى فى تلك الفترة، وتركت هذه الغارات فى نفسه مشاعر كثيرة كما يكتب الدكتور منيف موسى فى تقديمه لأعمال الفيتورى الشعرية الكاملة التى صدرت عن دار العودة عام 1979، كانت تلك المشاعر مزيجًا من الخوف والقلق والحزن والتوتر، هذا على المستوى العام، أما على المستوى الخاص فكانت أقاصيص جدته الزنجية وأساطيرها تحدث أثرًا آخر، ذلك الأثر الذى ولّد فيه الحاسة الشعرية، وأمدته تلك الأساطير بطاقة كبرى توهجت روحه على سردها، وفى تلك الأثناء هاجرت أسرته إلى ريف مصر عام 1944 فى كفر الدوار، وامتزجت الأسرة هناك مع الفلاحين، لتعيش معهم ومثلهم وتمارس كل ما يمارسه الفلاحون.

هذه مكونات أولى للشاعر، قبل أن يعود إلى الإسكندرية مرة أخرى فى عام 1947 ويمارس كتابة الشعر، ولم تفصح الأحاديث التى أدلى بها الفيتورى عن أكثر من تلك الأخبار العادية حول تجربته، كما لم ينوّه أحد من النقاد أنه حاول الانتحار كما صرّح الشاعر بذلك فى رسالة للناقد الكبير أنور المعداوى فى رسالة أرسلها له بتاريخ 14 يناير 1950، وكان لون الشاعر «الأسمر» يلح عليه وترك فيه أثرًا حزينًا لما كان يتعامل معه كل من حوله، يقول الفيتورى فى مستهل رسالته التى نشرها الناقد أحمد محمد عطية فى كتابه «أنور المعداوى..عصره الأدبى وأسرار مأساته»: «أخى وأستاذى.. تذكر جيدًا ذلك الشاب الأسمر الأزهرى الذى زارك خصيصًا بدار (الرسالة) الغراء لإبداء إعجابه بكم، ولتقديم تلك القصاصات المخطوطة ببعض ما سماه شعرًا، ولعله فى رأيكم ورأى البعض غير ذلك..

سيدى وأخى:

يعز علىّ جدًا أن تنزوى من بين عينى تلك الومضة من الأمل التى كان لكم الفضل فى إيماضها».

وفى رسالة سابقة كان قد أرسلها فى 20 سبتمبر 1949 يقول:

«.. وأخيرًا  وتحت إلحاح نفسى عنيد  لم أملك إلا أن أجازف فألقى بهذه الورقة الأخيرة.. فإما كسب الاثنين... أو خسارتهما معًا.. ومعذرة ياصديقى الكبير لهذه اللهجة المتمردة بينما المجال مجال ضراعة ورجاء... وإنكم لتعلمون ولا ريب أن اليأس عندما يبلغ أقصى درجاته من قلب إنسان يكون قد عطل حواسه، وقلب تكوينه الطبيعى، فهو إن يرى، فبغير عينيه، أو يسمع، فبغير أذنيه، أو يدب على الأرض، فبغير قدميه العاديتين، وهنا ياسيدى أعاذك الله تكون النهاية المنتظرة.. ويكون الانتحار، وقد تضحك سخرية من هذه الفلسفة الجوفاء كما ضحك الكثيرون قبلك..».

ولم تمر سنوات أربع، حتى كان نجم محمد الفيتورى عاليًا فى سماء الشعر العربى، ولم يصبح ممثلًا للشعر السودانى  فقط  فى مصر، بل صار ممثلًا للشعر الأفريقى الذى ظل يدافع عنه بضراوة، وخاض معركة ضارية فى مواجهة الناقد الطليعى محمود أمين العالم، وتعددت أطراف تلك المعركة على صفحات مجلات الآداب البيروتية، وروز اليوسف المصرية، والطريف أن ديوانه الأول «أغانى أفريقيا» الذى صدرت طبعته الأولى فى أكتوبر عام 1955 عن دار المعارف فى بيروت، كتب له مقدمة قصيرة زكريا الحجاوى، وتلتها دراسة نقدية ضافية للناقد محمود أمين العالم، ورسم الغلاف والرسوم الداخلية الفنان المصرى السودانى حسن حاكم، كما أن نبذة الغلاف كتبها الناقد رجاء النقاش، وجاء فى حديثه: «.. إن الزنوج المضطهدين فى أنحاء العالم يضجون فى وجدانه العميق سخطًا على هذا الحكم الصارم الذى أصدرته قوة ما، بلا مبالاة.. بلا مجتمع سليم يضع قيمًا عميقة تحمى إنسانية هذا الوجود الأسود...جرّب الفيتورى كثيرًا: الناس، الحياة، الفشل، الضياع، فكانت الزلازل الرهيبة التى سجلها شعره، كل ما يمكن أن يقال عن شعره، إنه تطهير لأزمة، صور درامية عميقة الشعور بمأساته التى هى مأساة الملايين. تعبير مجيد عن واقع نابض بالحضور.. إن صوت شعره ليقف جنبًا إلى جنب مع أصوات شخصيات «ريتشارد رايت» فى الغلام الأسود، و«أبناء العم توم»، وأصوات شخصيات سارتر فى البغى الفاضلة، وقلمه الذى يحتج باستمرار على صانعى المأساة: فى الأرض والسماء».

 

وقبل أن يمر عام على صدور الديوان، صدرت طبعته الثانية عن الدار نفسها فى يونيو 1956، وتم حذف كلمة رجاء النقاش من الغلاف الأخير، ووضع مكانها كلمة زكريا الحجاوى، الذى نسب شعر الفيتورى إلى مدرسة الشعر القومى، وميّزه عن مدرستين قال إنهما كانتا سائدتين، الأولى: كلاسيكية مرتدة، تمتد من تجربة أحمد شوقى، وتقنياتها قديمة، وهى بلا أفكار، وهناك مدرسة أخرى، تقتفى آثار الشعر الأوروبى، فلا تتناسب مع الروح التى بدأت تسود فى تلك المرحلة (الخمسينيات)، والتى تتسم بانتصارات وإنجازات ملحوظة على المستوى القومى، أما المدرسة الثالثة التى ينتمى لها الشاعر محمد الفيتورى، هى المدرسة التى تراعى تلك الانتصارات، وفى الوقت نفسه تبدع التقنيات التى تناسب ذلك النزوع الحماسى «الانتصارى»، ومن ثم هناك درجة من التغيير فى الحديث عن شعر الفيتورى، إذ أن الحجاوى لم يذكر فكرة السودنة أو الأفرقة التى عبّر عنها الفيتورى بقوة فى قصائد ديوانه الأول، مما جعل ناقدًا مرموقًا آنذاك أن يوجه له بعض النقد كما سنذكر ذلك لاحقًا بعد أن نستعرض سريعًا ما كتبه محمود أمين العالم الذى تصدرت مقدمته النقدية طبعتى الديوان.

ويبدأ محمود أمين العالم دراسته بإطراء واضح قائلًا: «هى رحلة شعرية من طراز فريد، بدأها الشاعر من حيث الأعشاب تنكسر تحت الأقدام الموحلة، وحيث الأقبية الرطبة، والتوابيت المكتنزة بالأحقاد والمخاوف وحيث الأشجار السوداء والظلال الحقيرة..وراح يواصل حركته الزاحفة خلال الدهاليز والمفاوز والمشاعر الصفراء، حتى توج ضوء النهار جبينه الظافر».

ويرصد العالم المعالم الشخصية التى انطلقت منها تجربة الفيتورى الشعرية، فهو زنجى الجد من أعالى بحر الغزال، ومصرى الأم، وسودانى الوالد، كما أنه قضى الجانب الأكبر من حياته فى مدينة كبيرة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط..

لم يكن محمود أمين العالم فى ذلك الوقت، ناقدًا عابرًا، ولا ناقدًا بين نقاد، بل رأس حربة فى الحياة الأدبية والثقافية والفكرية، مشتبكًا مع كل مفردات تلك الحياة، وكان قد أصدر كتابه المشترك مع دكتور عبد العظيم أنيس، وكاد الكتاب أن يكون مانيفيستو للحركة الأدبية والثقافية الجديدة، فضلًا عن تلك المعارك الضارية التى خاضها بوعى مع رؤوس فكرية ونقدية وإبداعية كبيرة، مثل عباس العقاد، والدكتور طه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم، ولم تكن المعركة مجرد مناقشات للاستهلاك الثقافى والهامش أو لملء الفراغ، ولكنها معارك أصبحت متنًا فى بنية الثقافة المصرية والعربية، يعود إليه المثقفون والمبدعون والكتّاب لعقود عديدة، وفضلًا عن ماكتب فى إطار تلك المعركة آنذاك، إلا أن أى كاتب أو ناقد يحاول التعرّف على متن الثقافة، كان يستدعى كتاب محمود العالم وشريكه عبد العظيم أنيس «فى الثقافة المصرية»، هكذا كتب فى مراحل عديدة لاحقة الدكتور فيصل دراج، والدكتور سيد البحراوى، والناقد فاروق عبد القادر، والدكتور جابر عصفور، والمسرحى سعدالله ونوس، وغيرهم وغيرهم على مدى ستين عامًا.

ولذلك كان ما يكتبه محمود أمين العالم يؤخذ بجدة غير تقليدية، ومن هنا اكتسبت مقدمته لديوان محمد الفيتورى، أهمية بالغة فى الحياة الأدبية، وسطع نجم الفيتورى بقوة، حتى لو كانت هناك بعض المؤاخذات التى رصدها العالم فى مقدمته، حيث اعتبر العالم أن اهتمام الفيتورى ببشرته السوداء، حاجزًا كثيفًا يحرمه من المشاركة والاندماج، ويؤجج فى باطنه مشاعر مريرة صفراء، ويشحذ حساسيته، ويكتب العالم فى عتاب نقدى هامس ولطيف: «.. وكان يقف على العتبة الأخيرة من الفئة البورجوازية الصغيرة يمتلئ وجدانه بصراعها المرير من أجل العيش، وتمزقه قيمها المنهارة القلقة، وترددها القاتل، وتهدده هوات الشقاء التى لا تفتأ تتسع تحت أقدامها بين يوم وآخر..».

القضية التى أثارت النقاد الماركسيون وعلى رأسهم محمود أمين العالم، قضية الزنوجة التى تتصدر أشعار الفيتورى، وبالفعل كانت تلك القضية بارزة بشكل واضح، ولكنه كان يربطها كذلك بالفقر والبؤس البشع، حيث يقول فى إحدى قصائد الديوان:

(فقير أجل.. ودميم دميم

بلون الشتاء.. بلون الغيوم

يسير فتسخر منه الوجوه

وتسخر حتى وجوه الهموم..)

ويسترسل:

(دميم .. فوجه كأنى به

دخان تكثّف ثم التحم

وعينان فيه كأرجوحتين

مثقلتين بربح الألم

وأنف تحدر ثم ارتخى

فبان كمقبرة لم تنم

ومن تحتها شفة ضخمة

بدائية قلما تبتسم..!

وقامته لصقت بالتراب

وإن هزئت روحه بالقمم)

وهكذا يصف الفيتورى نفسه بكل هذه الغلظة والقسوة، ربما يقصد الأفريقى عمومًا، أو يصف الزنجى خصوصًا فى كل أنحاء المعمورة، وهذا ما كان يراه محمود العالم نوعًا من انحراف البوصلة، أى البوصلة الطبقية، أو الصراع الاجتماعى، حيث إن ذلك الصراع اللونى بين الأسود والأبيض، ليس هو جوهر الصراع، وهذا ما التفت له الفيتورى، وانتبه له الناقد، فنجد العالم يكتب منصفًا: «ولكن الشاعر سرعان ما أخذ يتحسس لرحلتها تجاهًا جديدًا، ويتخذ لمشاعره وانفعالاته وطنًا آخر غير الغربة والضياع واللامكان، ومن لون بشرته، ومن إحساسه العميق بالمرارة والحقد، ومن طبول الذكر صاغ له وطنًا بعيدًا هو أفريقيا..».

ومن هنا وضع محمود العالم (الفيتورى)فى مرتبة الشاعر الذى يريد إنقاذ أفريقيا، أو نافخ البوق الذى يبث الوعى الثائر فى روح وأبناء جلدته على ذلك المتغطرس، وكذلك الأبيض المستغل، والمستبد، وناهب ثروات الشعوب الفقيرة، وبالتالى اعتبر النقاد أن الفيتورى كان الشرارة الأولى فى إشعال ثورة الرجل الأسود، فى مواجهة الأبيض والمستغل والمستبد والقاتل كذلك، وهكذا عبّر الفيتورى عن ثورته فى كل أشعاره التى جاءت فى الديوان، وفى الدواوين التالية، ليصبح رائدًا حقيقيًا فى شعر التمرد فنيًا وفكريًا إذا صح الفصل بين الجانبين فى الفن.

وفى تلك المرحلة صدرت دواوين شعرية أخرى لشعراء سودانيين فى القاهرة، منها ديوان «الطين والأظافر» للشاعر محيى الدين فارس، وكذلك قدّم له بدراسة نقدية طويلة، الناقد محمود أمين العالم، وفى تلك الدراسة يحمل العالم مرة أخرى على الدكتور طه حسين، والذى كان قد أعلن أكثر من مرة أن المبدعين الجدد لم يستطيعوا أن يملأوا الفراغ الذى تركه مبدعون كبار، كما أنهم –حسب قوله– لا يلتزمون بالتواصل مع الشعر القديم والإحيائى، ومن ثم يرد العالم فى مقدمته قائلًا: «ولعل أدباءنا الشيوخ يدركوا أن شعراءنا الشباب، حريصون كل الحرص على تراثهم الشعرى القديم، يكبرون فى اعتزاز كل ما يحتوى عليه من قيم وأصالة وإبداع، وإنهم يسعون دائمًا ألا تنقطع رابطتهم الأدبية والتاريخية بهذا التراث، وأنهم يستفيدون من قيمه، ويطورون تقاليده، وإنهم ما تخلصوا من القافية أحيانًا عن عمد، ولا التجأوا إلى التفعيلة الواحدة عن ترصد، وإنما هى مناهج تدفعهم إليها احتياجات الحياة الجديدة..»، ويستثمر العالم ذلك الطرح فى مواجهة الشيوخ لكى يضفره فى الحديث عن ذلك الشاعر الشاب، فيكتب قائلًا فى تعريفه: «وهذا الديوان لشاعر من هؤلاء المجددين، هو محيى الدين فارس ينتسب إلى وطن عربى شقيق هو السودان، وإن يكن قد قضى الجانب الأكبر من حياته فى مصر، واستقى وعيه الثقافى منها، ولكنه وهو شاعر لا يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره يقف بين طليعة شعرائنا الجدد، أما ديوانه الشعرى فقد أحسست نحوه بأكثر من دلالة، هو أولًا ديوان لشاعر سودانى يطل على أول مرحلة من استقلال السودان، ويشارك بمشاعره فى النضال البطولى من أجل استكمال هذا الاستقلال وتأمينه، وهو لا يعبّر عن هذا تعبيرًا مباشرًا، وإنما يستلهمه من المشاعر المضيئة المتفائلة، ومن المعانى الدافعة التى تدور حولها أغلب التجارب الشعرية فى الديوان..».

ولا نستطيع أن نفصل تجربة محيى الدين فارس عن التجربة الشعرية العربية الجديدة آنذاك، وإن كانت القصائد تحمل وهجًا سياسيًا واضحًا، مما يدل على أن الشاعر كان مرتبطًا ببعض التنظيمات السياسية التى كانت تعمل فى ذلك الوقت دون وجل كبير، حيث شهدت تلك المرحلة انفتاحًا ملحوظًا من جانب السلطة على التيارات السياسية اليسارية، ولم يكن اليسار يتبنى أى سياسة معادية، بل كان هناك ما يشبه التحالف بين السلطة وتلك التنظيمات، وذلك فى مواجهة اليمين الدينى المتطرف من ناحية، وكذلك فى مواجهة الاستعمار الذى كان يضايقه الصعود الناصرى فى ذلك الوقت، لذا كان بعض الشعراء أقرب إلى الهتافين، ولا أقصد بذلك أن محيى الدين فارس كان من هؤلاء، ولكن الصوت السياسى كان له حضور ملموس فى بعض القصائد، والقليل من الشعراء الذين أفلتوا من الفخ السياسى الذى كان منصوبًا لكثير من شعراء المرحلة، وحتى لو راح يكتب عن أفريقيا، فلم تخل القصائد من ذلك الهتاف، ففى قصيدته «أفريقيا لنا» سنلاحظ ذلك عندما يقول:

(أنا لن أحيد

أنا لست رعديدًا يكبل خطوه ثقل الحديد

لا.. لن أحيد

وهناك أسراب الضحايا الكادحون

العائدون مع الظلام من المصانع والحقول

ملأوا الطريق

وعيونهم مجروحة الأغوار، ذابلة البريق..

يتهامسون..

وسياط جلاد تسوق خطاهم.. ما تصنعون؟

ويجلجل الصوت الرهيب كأنه القدر اللعين

وتظل تفغر فى الدجى المشئوم أفواه السجون

فيغمغمون..

نحن الشعوب الكادحون)

بالطبع سنلاحظ أن صوت الشاعر كان مرتفعًا وهاتفًا، والشاعر هنا مازال يحمل راية النضال السياسى، ويندرج تحت لافتة «الشعراء التبشيريين»، الذين لا يشغلهم سوى البُعد التحريضى والتوعوى، وهذا كان شعارًا سائدًا ومعمولًا به، ولكن كذلك لا نستطيع أن نقول إن هؤلاء الشعراء المبشرين يركبون قاطرة الشعر القديم، أى أنهم فى كل الأحوال ليسوا من شعراء الإحياء، ولا أشبه بمدرسة أبوللو، ولا هم كتّاب شعارات، إنهم فى المنطقة الوسطى، وهذا شىء ضرورى فى الشعر، لكن كل شاعر يلعب دورًا مؤهلًا له، مثلما رأينا وقرأنا وأدركنا اختلافات جذرية بين شاعرين يصل الاختلاف بينهما إلى حد التناقض، مثل الهوة التى بين أمل دنقل من ناحية، ومحمد عفيفى مطر من ناحية أخرى، وقس على هؤلاء الشعراء الآخرين مثل فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وبدر توفيق وهكذا.

فى تلك المرحلة صدرت فى القاهرة دواوين لشعراء سودانيين، كانوا نشطين بشكل واسع فى الندوات والصحف والمجلات واللقاءات التى تعقدها دور النشر ونادى القصة، وبالطبع لا أستطيع رصدهم لأسباب المساحة، وأيضا لأن ضرب الأمثلة الكثيرة سيخدم فكرة الرصد الكمى، أكثر من أن يخدم فكرة الرصد النوعى، لكننى لا أستطيع تجاهل شاعرين مهمين لعبا دورًا كبيرًا فى الحياة الثقافية السودانية والمصرية على حد سواء، وهما الشاعر جيلى عبد الرحمن، وتاج السر الحسن، وقد أصدرت لهما دار الفكر ديوانًا مشتركًا تحت عنوان «قصائد من السودان»، فى فبراير عام 1956، وجيلى عبد الرحمن يقول: «كانت طفولة شقية–كما كتب فى تعريف نفسه– حافلة بالألم، والجدب، فقد هاجرتُ صغيرًا مع والدتى من بلدتى «جزيرة صاى» بالسودان، واضطرمت فى داخلى أحاسيس هادرة، الغربة، والفاقة، والعرق الذى يسفحه أبى، وقد حفظت القرآن.. وأنا صغير، وفى كيانى صوفية عميقة، ثم مارستُ تجربة حب عنيفة، تحطمتُ على عتبات شبابى، وحملتُ جروحى وذهبت إلى القاهرة وأنا أبحث عن حياة كريمة، وكانت أشعارى تحلق فى المجهول، ومن الحياة الصاخبة، ومن المد الثورى سنة 1950و1951 تعلمتُ من الجماهير، إننا نستطيع أن نصنع المستقبل».

وكذلك كتب تاج السر بعضًا من سيرته فى الديوان، وهو مرّ بتجارب تشبه تجارب رفيقه «جيلى»، ولكنه التحق بالأزهر، وكان شعرهما متميزًا جدًا، ومتأثرًا بالروح المصرية، لكنه لم يخل بالتأكيد من البعد السودانى العميق، وقد كتب مقدمة نقدية ضافية الشاعر كمال عبد الحليم، وفى قصيدة «أطفال حارة الربيع» يكتب جيلى عبد الرحمن:

(حارتنا مخبوءة فى حى عابدين

تطاولت بيوتها كأنها قلاع

وسدت الأضواء عن أبنائها الجياع

للنور والزهور والحياة

فاغرورقت فى شجوها وشوقها الحزين

نوافذ كأنها ضلوع ميتين!

وبابها عجوز!

وفوق عتمة الجدار

صفيحة مغروسة فى كومة الغبار

تآكلت حروفها لكنها تضوع

«زهرة الربيع»

وفى البكور يخرج الرجال

أقدامهم منهوكة، وصمتهم سعال

يدعون للإله فى ابتهال

يا إله

افتح لنا الأبواب.. وسهل الأرزاق

وتختفى أقدامهم فى زحمة الحياة).

ويسير «جيلى» على تلك الوتيرة التى كانت سائدة فى تنوع بين شعراء تلك المرحلة، وعلى رأسهم الشاعران بدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، تلك الوتيرة التى تحاول أسطرة العادى والبسيط والمألوف، هنا سنجد أن «جيلى» يجعل للقصيدة بطلا رئيسيًا، البطل يكمن فى الحارة، ثم تلك الشخصيات التى تتناثر فى تلك الحارة، إنه لا يصف من الخارج، بل يشتبك ويتقاطع ويكشف عن عمق تعبيرى واضح، وتنبئ كل قصائد ذلك الديوان بحس جمالى مرتفع، كان يؤهله لكى يترك أثرًا لا يندثر، ولكن «جيلى» التحق بجريدة المساء المصرية ليعمل صحفيًا، وانشغل بالعمل النقدى والصحفى اليومى الذى أنهكه، وربما عمل على تعويق عربة الشعر، فلم يصدر سوى ديوان واحد بعد ذلك الديوان المشترك، لكنه كتب كمّا كبيرا من الدراسات النقدية حول أعمال إبداعية مصرية وسودانية كثيرة، كما أن تحقيقاته الصحفية كانت متميزة للغاية، كما أنه كتب كتابًا سياسيًا عنوانه «المعونة الأمريكية تهدد استقلال السودان»، صدر عن دار الفكر فى يوليو عام 1958، كما أنه كتب مقدمة نقدية بديعة عنوانها «الأرض الصفراء» للكاتب الطيب زروق، وصدرت عن مطبعة البرلمان فى القاهرة عام 1961، وسنعرض لها لاحقًا.

وأما الشاعر تاج السرالحسن، فهو من الشعراء الراسخين، والذين كانوا متأثرين كثيرًا بالمدرسة الشعرية القديمة، فغالبية قصائده فى ذلك الديوان جاءت عمودية، ولكن شعره كان يلبى حاجة سياسية أو فكرية، أكثر مما يستجيب لجماليات القصيدة الجديدة بمواصفات ذلك الزمان، ففى إحدى قصائده «عطبرة» يقول:

(مدينة الحديد واللهيب

مدينة الشغيلة الأحرار والنضال

تناثرت من حولها المداخن الطوال

ووجه قاسم المرسوم فى القلوب

يطل فى سمائها المهيب

يقطر الحياة

ويرسم المستقبل السعيد)

إذن الشاعران «جيلى» وتاج كانا يمثلان تيارين فى الشعر السودانى، الأول شاعر تتكامل الأبعاد الجمالية عنده، والآخر يحتفى أكثر بالفكرة والمعنى والموضوع، بغض النظر عن الجماليات، وفى اعتقادى أن «جيلى» كان شاعرا ينطوى على طاقة شعرية جمالية جبارة، ربما أكثر من أى شعراء تلك المرحلة، ربما أكثر من الفيتورى، لكننى أود إثارة نقطة لا بد من طرحها هنا فى ذلك السياق، وهى تتعلق بكثير من آليات التسويق، فالمبدعون السودانيون الذين فى الداخل، لا تروج كثير من نصوصهم، ولكن المبدعين الذين فى خارج السودان راجت نصوصهم وتم التعريف بها على أعلى مستوى، وهناك من سيقول إن النص الجيد سيفرض نفسه تحت أى ظرف، وفى أى مكان، وهذه مقولة مراوغة، وغير دقيقة، لأنه ثبت بالفعل أن مبدعين كثيرين كانوا مهمين، ولكن تم اكتشافهم بعد فوات الأوان، وأصبحوا فى خبر «كان»، وهناك عملات إبداعية رديئة تم ترويجها وتسويقها رغم عدم براعتها، وإلى الفصيل الأول ينتمى جيلى عبد الرحمن، وهناك من سيقول إنه كان يعيش فى مصر، نعم يعيش فى مصر، ولكنه لم يكن يعرف سُبل التسويق والترويج و«شغل» الثلاث ورقات الذى يعرفه آخرون، فضلًا عن انخراطه المفرط فى العمل الصحفى، وربما السياسى كذلك، فضاعت نصوصه فى زحام الآخرين، لذا أتمنى أن يعاد النظر مرة أخرى لمجمل أعمال ذلك المبدع والناقد والمثقف الكبير، الذى مات فى أرض غير أرض بلاده، حيث رحل إلى موسكو وتوفى هناك.

تلك كانت بانوراما ضيقة لجذور شعر الحداثة فى السودان، ورغم أن الساحة السودانية غزيرة فى الإبداع الشعرى، إلا أننا لم نعرف سوى الشاعر الكبير محمد الفيتورى، وربما اكتفى المتابعون والنقاد والمثقفون العرب بالفيتورى شاعرًا، وبالطيب صالح روائيًا لأزمنة طويلة، وهما يستحقان كل تلك المتابعات التى ظلّت تلاحقهما، ولكن من التعسف تجاهل الشعراء والمبدعين الآخرين بكل تلك القسوة، وربما يكون العارفون بالشأن الثقافى السودانى يعرفون بعض الأسماء القليلة، ولكن الحركة الشعرية كلها انحسر عنها الضوء، إن الخمسينيات والستينيات أنجبت لنا كثيرًا من الشعراء غير الفيتورى، منهم محمد المهدى المجذوب، والذى صدرت أعماله الكاملة فى الخرطوم يناير 1969، كذلك الشاعر طه الجزولى، والتيجانى يوسف بشير، مرورًا بالشاعر الطليعى إلياس فتح الرحمن، حتى الطفرة الإبداعية الكبيرة التى حملت لنا أشعارًا كثيرة للشعراء فى عقد التسعينيات، والذين يحتاجون إلى دراسة مستقلة وافية، غير أن مجلة «أدب ونقد» فى القاهرة، كانت قد نشرت ملفًا تحت عنوان «الأدب يقاوم تسلط العمامة والخوذة فى السودان»، ونشرت قصائد لشعراء من مختلف الأجيال: على عبد القيوم، ومحمد المكى إبراهيم، ومحمد عبد الحى، وكان أمير تاج السر يكتب الشعر قبل أن يبدع بشكل عميق فى السرد الروائى، كذلك النور عثمان أبكر، ومحمد المهدى المجذوب، وعبد المنعم عوض، ولا يسعنى هنا سوى نشر مقتطفات من قصائد تلك الباقة التى اختارتها مجلة «أدب ونقد»، ففى قصيدة «الاختيار» للشاعر على عبد القيوم يستهلها ب:

(جرؤت على الذى جرأت عليه الريح فى ترحالها العاتى

كأنك إذ ولجت أمامها نفقًا ببطن الأرض خلف ستارة حمراء

ولجت مكامن الإغواء والإغراء

ونادمت الكؤوس الغابقات بخمرها الشاتى

يقينًا ما عرفت قبيلها طعمًا كهذا الطعم!

هل ذاق الفؤاد قبيلها ما ذاق

من أرق

ومن رهق

ومن إسراء؟!

وهل واتاك ما واتاك فى حضراتها الزرقاء

والحمراء

والورقاء

والهيفاء؟!

يقينًا قد جرؤت على الذى جرأت عليه الريح فى ترحالها العاتى

وأدمنت الأسى العملاق واليأسا

فهل عانيت ما عانيت

قبل اليوم ترحالًا وتجوالًا؟

على صدر تحدر عبر أفياء المراعى نحو فخذيها؟

فمن تل إلى سهل

إلى جبل

إلى بحر

إلى أغوار

كأن رغائب العشاق ما نطحت سوى صخر

وما دقت سوى صم المصاريع التى صفت بلا مفتاح)

أما الشاعر محمد المكى إبراهيم، فيكتب فى قصيدته (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت):

(الله ياخلاسية

ياحانة مفروشة بالرمل

يامكحولة العينين

يامجدولة من شعر أغنية

ياوردة باللون مسقية

بعض الرحيق أنا

والبرتقالة أنت

يامملوءة الساقين أطفالًا خلاسيين

يابعض زنجية

وبعض عربية

وبعض أقوالى أمام الله..

....

فليسألوا عنك أفواف النخيل رأت

رملًا كرملك

مغسولًا ومسقيًا

وليسألوا عنك أحضان الخليج متى

ببعض حسنك

أغرى الحلم حورية

وليسألوا عنك أفواج الغزاة رأت

نطحا كنطحك والأيام مهدية)

وفى قصيدة «سمندل فى حافة الغياب» للشاعر محمد عبد الحى يقول:

(1)

لو ضاع فى نزوعه البحرى، فالعباب

عبر زمان البحر– والملح سينحتان من عظامه المبلورة

حدائق من صدف تضىء فى صيف الليالى المقمرة

على رمال ساحل الغياب

(2)

وهى على منسجها منتظرة

تسير بالزمان للأمام مرة،

ومرة تعود بالزمان القهقرى

لبرهة تضىء خارج الزمان حيث تلتقى

ببرهة خارج الزمان تلتقى

ببرهة الغربة الإياب

(3)

كن يغنين على الصخرة، والجدائل المنتشرة

أزهار فسفور على الخليج

الجسد الأخضر مسقى بلون البحر

ومشبع بعسل الزنابق المسمومة الأريج)

أكتفى بذلك القدر من مجلة «أدب ونقد»، وأنا أعرف، بل ولدىّ يقين بأننى فى غاية التقصير فى تلك المختارات، لكننى سأعتبرها بداية نستطيع بها ومن خلالها أن نصلح ذلك العوج فى ذلك الخلل الذى أحدثته عوامل عديدة، وسوف أختار ثلاثة نصوص أخرى لثلاثة شعراء آخرين من أجيال مختلفة، ولكى أدلل على جهلى بالحركة الشعرية بالداخل السودانى، حدثتنى منذ سنوات بعيدة إحدى الأديبات السودانيات، وأبلغتنى بأن رئيس اتحاد الكتاب السودانى فى زيارة للقاهرة، وسألتنى: هل يمكن عقد ندوة له فى ورشة الزيتون؟، فقلت لها: على الرحب والسعة، أهلًا وسهلًا، وبالفعل تم الاتفاق، وتم نشر خبر الندوة فى جريدة أخبار الأدب بأسماء الضيوف الشعراء، بمن فيهم رئيس الاتحاد ونائبه، بعد ذلك هاتفنى شاعر سودانى عزيز، وقال لى: «ياشعبان، انت مش عامل ندوة، بل انت ستنفذ جريمة»، وأبلغنى بأن رئيس الاتحاد فريق فى الجيش، ونائبه برتبة لواء، وهذان الاثنان ارتكبا جرائم دموية فى حق حريات الكتّاب السودانيين، ليتك تلغى الندوة، بالطبع انتابتنى حيرة شديدة، وقلت له: لا أستطيع إلغاء الندوة، ولكن ليتك تبلغ الآخرين، الذين فى الطرف الآخر الفكرى والسياسى، وبالفعل حضر الندوة فريقان من الخصوم السودانيين من الشعراء والكتاب، وكانت ليلة ليلاء،  وأفهمنى صديقى بأن اتحادين للكتاب فى دولة السودان، أحدهما شرعى وتحت التأسيس، والآخر مغتصب الذى يترأسه ذلك الفريق ونائبه الذى كان يجلد الكتّاب بنفسه كما قال لى.

هذه الواقعة تفصح عن أننا لا نعرف القليل القليل عن السودان، ومن المفترض أن نعرف الكثير، خاصة أن السودان هو البلد الأقرب فى كل شىء، بداية من المجال الجغرافى، وتلك الرفقة الأبدية التى يربطنا بها نهر النيل.

فى قصيدة عن لوركا للشاعر إلياس فتح الرحمن يقول فيها:

(قرطبة

نائية وحيدة

مهر أسود، قمر ضخم

وفى خرج السرج الزيتون

ورغم أنى أعرف الطريق

فلا سبيل أبلغ قرطبة

عبر السهل، عبر الريح

سهر أسود، قمر أحمر

والردى إلىّ ناظر

من على قلاع قرطبة

آه ألا ما أطول الطريق

آه، أيامهرى الشجاع

آه ، فذلك الموت ينتظر

قبل بلوغ قرطبة)

وفى قصيدة للشاعر محمد المهدى المجذوب، عنوانها (نموت وتحيا مصر)، كتبها الشاعر فى نوفمبر 1956 تضامنًا مع المصريين أثناء العدوان الثلاثى الغاشم على مصر، يقول الشاعر:

(قنال ولسنا نبالى القتال

فيا مرحبا بالوغى والنضال

عباب يجيش هنا فى الجنوب

له موعد فى عباب القنال

تدوّى القنابل فى القاهرة

فتخلع أظلافها الناضرة

وتخرج للحرب فى عدة

كما تخرج الغابة الثائرة

وهيهات أن تخضع القاهرة...

تدق فرنسا على بابها

وتزعق انجلترا الفاجرة

تسوق ادعاء بلا حجة

كما تدعى الشرف العاهرة

ويغضى أبو الهول عن رجسهم

ويرنو بنظرته الساخرة

فينحسر البغى عن صخرة

ويرتد كالموجة العاثرة

وهيهات أن تخضع القاهرة)

النص الأخير الذى أريد إدراجه للشاعر المهاجر عفيف إسماعيل، وجدير بالذكر أن عفيف إسماعيل، تعرض إلى عمليات اضطهاد منظمة من نظام عمر البشير، وتم اعتقاله أكثر من أربع وعشرين مرة، ليقضى فترات مطولة فى سجون ومعتقلات البشير، ونجح فى الخروج من السودان ليعيش بعض الوقت فى مصر، ويؤسس منتدى «الشموس الثقافى» فى القاهرة، ويعقد فيه مجموعة ندوات لشعراء وكتّاب ومبدعين سودانيين وعرب، وأصدر عدة دواوين من القاهرة، وكان أولها ديوان «صلصال» صدر عن الهيئة المصرية للكتاب، وآخر ما أصدره الشاعر ديوان «حيث تنام العاصفة بلا غطاء»، ويصدره بإهداء خاص:

(إلى صديقى الموسيقار ربيع عبد الماجد،وفي ظل يعدو فى عمره القصير، ليس هاربًا من الفناء الذى تبارت فى صناعته الدكتاتوريات فى السودان منذ استقلاله، خاصة الثلاثين عامًا الكالحة من عنف الدولة الإسلاموية (1989–2019)، وقهرها الممنهج للفنون والفنانات والفنانين، بل ظل حتى أنفاسه الأخيرة متوثبًا ومصدومًا يغنى من أجل الفقراء والحرية، هاهو الآن يبرق بقلبى مثل لؤلوة تتجدد بأغنيات للإنسان، والأمل، والحياة والحب والثورة.

هنا:

سيبقى بيننا بستان.. ياربيع.

هناك:

فى البعيد روحك المتوثبة فى الأعالى، حيث تنام العاصفة بلا غطاء، أراك تسامر فى ملكوت السديم بصفاء الأصوات الهامسة التى تخلصت من ذبذبات النشاز، وتنتخب ألحانك بتفكير نغمىّ تحرر من شرطية حدود المكان والزمان، ومن قلق الخرائط العاطلة، وتغنى خلفك أوركسترا نورانية لكل عشاق الكون، وتخص بالهديل والشموخ شهداء/ات الوطن.

ثم

إلى نازك طبعًا

رفيقة الأهوال المحبة.

لما يخصها من أنغام وحروف ونصوص هذه المجموعة.

عفيف)

أما القصيدة، فهى «عويل»، يقول فيها:

(يا أمى

هل مازالت كوابيس الليل تطاردك بأنيابها المسعورة

لتصبحى

على عويل إمّ شهيد آخر؟

هل مازالت

جارتنا الطيبة تطلب من الربّ فى صلواتها

ألا يعود ابنها مقتولًا

وابنتها مغتصبة!!

وألا تدفن بقية أحباب قلبها فى صحن الدار

فالمقابر لم تعد آمنة من حتى للموتى،

لذا هى

تشكر الموتى أنهم ماتوا

قبل أن

يروا جثث رفاقهم يحملها موج النيل!!

يا أمى

أتمنى ألا لا تطرق باب بيتك جارة

لتستلف كفنًا!!

وأن يذهب والدى إلى الحفل

وهو يحمل فأسًا

وليس بندقية

يا أمى

إنى مذبوح بكم

من المحيط

إلى المحيط

...لكن

لا تقلقى علىّ

من غربة المنفى

فأنا

بعد كل زفرة

أخشى

عليك

من هذا الوطن..

9 يونيو 2019

بيرث– غرب أستراليا)

المختارات تنتهى، ولكن الشعر لا ينتهى، وبالتأكيد إنها ثغرة فى جدران الجهل المطبق، وبالتأكيد ستكون لنا عودة أوسع وأشمل وأعمق.

رائد القصة الذى أهملته الببليوجرافيات

عادة ما يبدأ الباحثون فى تأريخ القصة السودانية، بالكاتب والقاص معاوية بن محمد الذى بدأ ينشر منذ عام 1931، وبالتأكيد لا أستطيع تخطئة أحد بذلك الأمر، لأن التأريخ يتعامل مع المادة المتوافرة أمام الباحثين، فبعدما صدرت رواية «زينب» عام 1914 فى طبعتها الأولى للدكتور محمد حسين هيكل، وكانت قد نُشرت منجمة فى عام 1911، وبعد أن استقرّت فى كل الأدبيات البحثية والتاريخية، اكتشف كثيرون روايات أخرى قد سبقت «زينب»، ولكن الباحثين استنّوا قاعدة معقولة ومقبولة، أن النص الذى تمت إشاعته، وتفاعل معه القراء والكتاب، وترك أثرًا فى الحياة الأدبية، سيكون هو النص الرائد والمعتمد، أما النص الذى ظل مجهولًا لظروف ملتبسة عديدة، مثل أن ينشر النص خارج بلاده، ولا ينتبه إليه أحد، وبالتالى لم يتأثر به أحد، ولم يترك أى ظل فى الأجيال التى تعاقبت، فهو خارج السياق، لكن هذا لن يثنى عزم الباحثين فى التعامل مع النصوص المجهولة باعتبارها رائدة بشكل ما، ولم يكتب لها الانتشار أو الذيوع، وربما عدم النشر من أساسه، وظل النص مخطوطًا كما حدث مع مخطوطات فرانز كافكا، وبعد نشر تلك النصوص، بدأت تأخذ حياة جديدة فى تاريخ الأدب.

من هنا، حدثت لى مفاجأة مذهلة، وأنا أقلّب فى صفحات الماضى، فاكتشفت مجموعة نصوص قصصية وروائية لكاتب اسمه «حامد القرضاوى»، وكان أول نص له قد نُشر فى جريدة «البلاغ الأسبوعى» بتاريخ 6 مايو 1927، تحت عنوان «قصص سودانية»، وعنوان القصة «حبوبة»، وجاء تحت العنوان تذييلان آخران:

(1)حبوبة علم على كل امرأة عجوز فى السودان.

(2)الرواية واقعية اتفقت حوادثها للكاتب شخصيًا.

يبدأ الكاتب قصته هكذا:

«فى منتصف الساعة التاسعة من صباح اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس سنة 1923، كانت تسير فى الفضاء الواقع بين مدينة الأبيّض حاضرة كردفان، ومعسكر الهجانة عجوز تتدثر بأطمار بالية يحسبها الرائى جاوزت المائة، وهى لم تبلغ السبعين، خطّت يد الزمن القاسى على وجهها الحزين ما ينبئ عن مبلغ ما ينتابها من الآلام والأشجان، ومع أن الطبيعة حبتها بسطة فى الطول، لم تحن السنون ظهرها كما تفعل عادة مع أمثالها من بؤساء المسنين، وتلك ميزة خص بها السودانيون والسودانيات فلا يكاد يرى أثر الشيخوخة واضحًا جليًا إلا على من نُكب منهم فى شبابه بكثير من المحن والأرزاء.

صادفتها فى طريقى إلى عملى تمشى على استيئاس بخطى بطيئة متثاقلة تكاد تنوء بحمل سلة صغيرة بها شىء يتحرك، لشد ما كانت دهشتى حالما تبينته عن كثب فألفيته جرادًا.

قلت سلامًا، قالت سلامًا.

قلت: أجراد تحملين ياخالة؟، قالت: نعم يابنى جرادًا، جمعته فى الصباح الباكر من الوادى البعيد لكى أقتات به، وما عساى أن أفعل غير هذا وقد لؤم الناس وجشعوا حتى لو سُئِلوا التراب لأوشكوا أن يمنعوا!! يضنون على مثلى ببعض ما يلقونه من فضلات موائدهم إلى القطط والكلاب، ويحسبنى الجهلاء غنية من التعفف، والله يعلم أنه لا يوجد على ظهر الأرض مخلوق فى مثل حاجتى وتعاستى، فإنى غريبة الدار، منقطعة، لا أهل لى ولا ولد ولا مال، وازدحمت الدموع فى عينيها، فسترتها بطرف ردائها تجملًا وإباء، وكأنها ندمت على إظهار خلّتها وعدم استطاعتها إخفاء ما تعانيه من البؤس والشقاء، فتركتنى وتولت تجهش بالبكاء.

حل بنفسى من التأثر لشأنها والرثاء لحالها ما أهمنى وأحزننى، وآثرت فى تلك اللحظة أن أخرج عن كل دنياى أو يتاح لى إنقاذ تلك التعسة من براثن العوز وغوائل الفاقة، فأسرعت إلى اللحاق بها، ومازلت أخفف عنها حتى كفكفت دموعها ونهنهت عن نفسها وتنفست الصعداء، ثم سألتها فى كثير من الرفق وكثير من الإلحاف أن ترافقنى إلى منزلى، فبعد تمنّع وأخذ ورد أجابت سؤالى....».

واسترسل الكاتب فى سرد الحوار بينه وبين السيدة العجوز، حتى بكت مرة أخرى بعدما اقترح عليها أن تذهب معه لتكون من أهل منزله مع زوجته وأولاده، وعندما وافقت، ذهبت معه، وعرض عليها أن تبقى معهم معززة مكرمة، وكأنها واحدة من الأهل، فلم توافق، وأصرّت أن تقوم بعمل ما مع الخدم الذين فى البيت، ووافق الرجل بعد مضض وكان مشفقا عليها، وبعدما وافق، طلبت منه أن تذهب لكى تحضر بعض الأشياء من المكان الذى كانت تعيش فيه، وذهبت بالفعل، وذهب معها أحد الخدم لكى يحمل ما سوف تأتى به، ولكنها عادت ببضعة أثمال مهلهلة للغاية، وكأنها كانت مدفونة فى مكان، وبالفعل قال الخادم بأنها ظلّت تحفر أمامه فى تراب الغرفة، حتى أخرجت تلك الأثمال التى كانت على هيئة لفائف، وعاشت حبوبة بين الرجل وزوجته وأولاده والخدم كأنها واحدة من أهل المنزل، وتم تكليفها حسبما طلبت بعمل خفيف، وحاول الجميع التعامل معها بمنتهى اللطف والرقة، حتى عندما كانت تفرط فى تناول «المريسة»، وشعر الجميع بأن خلفها سرًّا ما، ولم يكن أحد يسألها عن ذلك السر، حتى حدث فى يوليه 1924 حادث رعد وبرق شديدين، وجلست حبوبة، وراحت تحكى لهم حكاية مدهشة، وبدأت قائلة: «كنا فى مثل هذه الليلة عندما اعتزم زوجى الانضمام إلى جيش المهدى، فقمنا من الروصيرص وهى مسقط رؤوسنا ولحقنا بالجيش فى الرهد، فعلمنا أن الهكس والترك–تعنى حملة هكس باشا المشهورة، والترك هم المصريون فى عُرف عامة السودانيين– قد وصلوا، وأن الجيشين لا بد ملتحمان فى الغد، وقد حدث ما توقعناه ومات الترك جميعًا، وقُتل زوجى فى الموقعة، فلم أبكه كثيرا لأنه كان من الشهداء الذين بشرهم المهدى بدخول الجنة بغير حساب!، وبقيت مع الجيش حتى انتهى حصار الأبيض، ودخلت مع الداخلين، وكنا خلقًا كثيرًا لا يعلم عددهم إلا الله، وافتقدتُ ولدىّ أثناء الزحام فلم أجدهما، أحدهما هو الضوّ كان فى الرابعة عشرة، والثانية عشة (عائشة) كانت فى الثانية عشرة، فذُهلت لفداحة الخطب، وصرت أندب وأولول ودرت أفتش هنا وهناك بين جثث القتلى، وفى مآوى الجرحى، فلما لم أعثر عليهما جن جنونى، فصِرتُ أصرخ بكل ما فىّ من قوة حتى وصل صوتى إلى مسامع المهدى نفسه، فأرسل فى طلبى، فانكببت على قدميه أقبلهما وأغسلهما بدموعى متوسلة إليه أن يرد لى ولدىّ، فطمأننى وطلب إلى بعض أعوانه وأنصاره أن يبحثوا عنهما، فبحثوا ولكن بدون جدوى...»، وراحت حبوبة تسترسل فى سرد ما حدث، وقامت لتقول لهم ماالذى تحمله تلك اللفائف، إنها عبارة عن جلباب لغلام، ورهط –جملة سيور من الجلد تلبسها البنات فى السودان حين يتزوجن– لطفلة، وقالت بأنها جاءت إلى الأبيض ربما تعثر على ولديها.

وبعد سلسلة أحداث يسردها الكاتب، تعثر حبوبة على ولديها، وكأنها حكاية أسطورية استخرجها الكاتب من بطون تاريخ السودان فى تلك الفترة، ولا ينسى الكاتب أن يزج ببعض الأحداث الوطنية التى كانت تحدث فى السودان، ومن سير الأحداث نتبين أن الراوى كان أحد أبناء ثورة 1924، وجاء إلى مصر، ذلك البلد الملهم والمأوى للسودانيين، رغم كل الكوارث التى كان يدبرها الانجليز.

القصة كاملة جدًا، ومتخلصة تمامًا من كل ما كان يسم الكتابة فى ذلك الوقت من زخارف ومحسنات ومجازات وبلاغة، فضلًا عن سلاسة السرد وقدرته على الإمتاع، وكان يستطيع أن يمزج السرد الفنى، مع الحد التاريخى، مع إدراج روح الحالة الوطنية دون هتاف، ودون تقريرية ظلّت تلاحق القصة العربية فى عصور مختلفة، وعندما حاولتُ البحث عن اسم الرجل فى شبكة الانترنت بالفعل، وجدته ضمن أورطة كانت تحارب فى ذلك الوقت، لكن اسمه لم أجده على وجه الإطلاق فى أى بحث أدبى، رغم أن له رواية قصيرة منشورة منجمة فى إحدى الدوريات المصرية فى العقد الثالث من القرن العشرين، وبعض قصص أخرى منشورة تصل إلى حوالى عشر قصص، لا تقل عن ذلك النضج اللغوى والأسلوبى والحى الذى أدركته فى تلك القصة السابقة.

جدير بالذكر أن الثورة المهدية عادت لتشغل بعض السرديات الحديثة، وعلى رأسها رواية «شوق الدرويش» لحمور زيادة، كما سنتحدث عنها لاحقًا.

بالطبع هناك تاريخ من السرد لم نتعرض له هنا، رغم كثافته، وتعقيده، وتشعبه، ولكننى سوف أتعرض له فى الفصول اللاحقة، منذ عقد الثلاثينيات، وصولًا إلى الخمسينيات، حتى الطيب صالح الذى أحدث انقلابًا فى السرد السودانى، وترك أثرًا عميقًا فى كثير من الإبداع السودانى، رغم أن كثيرًا من الكتّاب الشباب استطاعوا أن يتفادوا ذلك الأثر الذى أحدثته «موسم الهجرة إلى الشمال»، ذلك الأثر لا يعنى ضعف المواهب التى أتت بعد الطيب صالح، ولكنه يعنى قوته وريادته العميقة.

أعرف أن بعض الخلل قد يحيط بتلك البانوراما السريعة فى قراءة المشهد الأدبى والثقافى فى السودان، ولكنها محاولة ربما تستطيع أن تكسر حاجز الصمت حول تجربة أدبية عميقة وشاملة.