«مشاهد أيام السويس 3».. قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل

الكاتب محمد نبيل
الكاتب محمد نبيل

محمد الراوى... منجد عاطل، مقيم بالمسجد، ثم شهيد!

الرجل الأول ... (٣)

مضى مساء اليوم الأول له فى السويس كما انتهى نهاره، فلم يكن النهار ببعيد عن لون المساء الداكن، وحلت عتمة الليل التي كشفت له عن وحشة الغربة، فكما كان فى ظنه أن الليل له ستر عن عيوب النهار وعوراته، لكن الآن حال ليله مختلف بالكلية، فهو قد فضح وحدته الموحشة، والمؤلمة – أيضا – وهو الذى ظن أن بمجرد وصوله لسوق العمل بالسويس ليس فقط ستتهافت عليه أرباب المهن، بل سيأخذ ممن سيختاره هو من بين هؤلاء – أصحاب العمل - مناسبا له بعضا من المال مقدما من راتبه الشهرى أو أجره الأسبوعى،

ومن هذا الراتب أو الجزء منه، كان سيشترى بعضا من الملابس جزءا منها من المحلات ذات الواجهات المضيئة والمعروفة لدى السواد الأعظم حتى يخرج بها ليلا على مقاهى السويس يتسامر مع زملاء المهنة أو الشركة أو المصنع ويا حبذا لو كانوا زملاء الميناء أو القرية السياحية، وبعض الملابس كان سيشتريها من أسواق البالات حتى تهون عليه عندما يرتديها نهارا فى أثناء عمله، هذه كانت حواراته مع ذاته وهو بالقطار في تلك الرحلة التى انتهت ظهر اليوم، لكنه النوم الذى غلب عليه بسلطانه حتى قهره فلم يتبق لديه سوى بعض المقاومة بالكاد توصله إلى مأوى يقضى به ليله حتى الفجر الذي ولا محال سيأتى بالفرج وبالعمل كما كان مقصده من السفر من شرقيته إلى سويس الغريب، لكن الرياح هنا لم تأت بما اشتهى وتمنى، فهو لم يحظ بفرصة العمل، ولم ينل جزءا من راتبه بالتالى مقدما، ولم يبت كما كان يحلم بإحدى القرى السياحية بالعين السخنة – كعامل بها بالطبع - أو فى عنابر مبيتات أيا من شركات البترول سواء فى مقراتها على البر أو فى حجرات منصاتها داخل البحر، فأين المبيت؟ والمساجد حتى التى كانت أخر المقام له لا تفتح أبوابها بعد انتهاء صلاة العشاء.

ظل يقدح زناد فكره الذى لم يتمخض إلا عن صورة كانت عابرة ولم تستقر بمركز وعيه وهو ينفض عن نفسه حرج الوقوع من باب القطار ومعه التراب عن ملابسه الرثة، فكان عندما تلفت يمينا ويسارا وجد أقواما فرادى وجماعات يفترشون أرضية المحطة فى وضح النهار، والآن وقد عادت الصورة أمام ناظريه أخذ يتساءل : ما بال هؤلاء ينامون نهارا؟! هل لأنهم أصحاب أعمال مسائية؟ فأجاب عن نفسه: ربما! ، وتساءل أيضا، هل يمكنني المبيت حتى الفجر بجوارهم؟ فرد عن نفسه بتعجب: يعنى وهم مازالوا نيام حتى الآن! سخر من سذاجته القروية، وهز رأسه مستغربا ما آل إليه حاله من السذاجة التى أرجعها فى داخله إلى إجهاد اليوم وكده، وليس إلى فطرته وطبيعته!

وقبل أن يقضى تفكيره الذي يسخر منه على ما تبقى به من عافية بالكاد توصله إلى محطة القطار، ليبيت هناك، وفي الطريق أخذ يستعيد الصورة وأجزائها بدقة ليختار بعناية أي المواضع من المحطة سينام فيها، فتش مع نفسه داخل ذاكرته ليستدعى الصورة من هامش التركيز إلى بؤرته، حتى يقبض على المكان المناسب له، وأخذ يتردد فى اختياراته، ما بين فوق (الدكة) التى رفضها فورا، لأنها قد تكون سببا فى فزعه عندما يقع من عليه وهو يستمتع بنومه، وراح يختار موضع آخر فى الصورة التى أمسك عليها حتى لا تتفلت إلى مناطق النسيان الشاسعة فى ذاكرته، واختار أن ينام بجوار (الميضة) التى يسمونها هنا دورة المياة، حتى يغتسل فيها ويتوضأ لصلاة الفجر، فهو ما زال يردد كلام جدته عن حظ البكور، فهم من يأخذون النصيب الأكبر من الرزق،

واستقر رأيه على المبيت بجوار الحائط المجاور لدورة المياة، وهو مازال غارقا فى اختياراته، إذا به ينسى الطريق إلى المحطة، وتردد هل يسأل أحدا من المارة بجواره فى الطرقات أم يظل معتمدا على ذاكرته التى أهدته موضع نومه المجانى، وما بين التردد في السؤال عن طريق المحطة، والاعتماد على ذاكرته التى أنعشتها فكرة النوم المجانى، مضت الساعات الأوائل من الليل وثقلت أجفانه عن التفتيش فى الطرقات ونواصيها كما ثقلت رجليه عن حمله وكل جسده كاد أن يعصيه، حتى استجاب للفكرة الاساسية وهى سذاجته التى ستودى بحياته من التعب، وقرر أن يسأل أحدا من هؤلاء الذين أنكر عنهم الكرم، ثم اعتذر لهم جميعا عندما اكتشف أنه مثلهم،

وقال لأحدهم : هل طريق المحطة من هذا الشارع؟ كان فى الحقيقة لا يسأل إنما يظهر للرجل الآخر أنه ليس فى عوز لإجابته بل يريد أن يتأكد فقط ، مجرد التأكد وليس السؤال عن جهل! لكنها الصدمة كبقية صدمات اليوم، فقد صرخ الرجل بصوت عال تملؤه السخرية: هو انت مش من هنا والا أيه؟! وظل يضحك ويتلفت حوله يوزع ضحكات السخرية كأنها مكبرات صوت تنفث صداها فى الإتجاهات كلها، وصاحبنا غريق الحرج وسط أمواج الضحكات الساخرة، ولم يملك بعد مرور وقت كافى لاشتعال جسده كله بالحمرة والحرج واحمرار أذنيه، إلا أن قال للرجل :لا انا بس ناسى، ويا ليته ما قالها، ليته تذكر أن الصدق منجى، فما أن التقط الرجل مفردة (النسيان)

إلا وكأنه اكتشف صيده الذى خرج لاصطياده، وأخذ يتفحص بنظرات الريبة صاحبنا، حتى أنزل من عليائه يمينه على كتف صاحبنا الذي ارتعدت أوصاله حتى كان شعر رأسه كأطراف أسنان الإبر، واستسلم لكل ما سيمليه عليه الرجل، وفى حركة بإيماءة من رأسه أرسل بها برقيات الاستسلام والإذعان لمن أمامه، ولم يكن من العناء من جانب الرجل فى اكتشاف كل هذا، فسأله: معاك كام ما دمت من أهل النسيان؟ وضحك بصوت مخيف، كان الصوت يعنى لصاحبنا أن عليه العودة لطريق الصدق منجى وان يتنازل عن كبرياء الجهل، وفى سلاسة ويسر لم يرد بل أخرج كل ما فى جيبه ومد يد السلام إلى الرجل الضاحك صوتا والعبوس شكلا، فأمسك الآخر بالجنيهات والخمسات الثلاثة والعشرتين والورقة ذات العشرين رقما، ووكزه فى صدره معاتبا: وده ينفع بايه؟! عامة، أنت ضيفي الليلة، رفض بالحركة وليس بالصوت صاحبنا أن ينزل ضيفا على هذا الرجل غير المأمون عواقب مرافقته، ففهم الرجل تردد صاحبنا وقال له : انت فهمت ايه؟!

ضيفى، يعنى: تاخذ اوكازيون، فلوسك شوية بس انا ح اكرمك علشان انت غريب واديك اللفة دية بنص التمن، خدها واتكل، أه بالمناسبة يا غشيم: المحطة جنبك على طول على يمينك أهيه، وظل يضحك وهو يتركه ويسير فى طريقه الذى بدا وكأنه نطاق نفوذه وسيطرته، وما أن فاق صاحبنا من كل هذا وبدأت أطرافه تتحلل من عصبيتها وانسابت أصابعه التى انكمشت على راحتيه، حتى وقعت من يده لفافة لم يشعر بوجودها سابقا فى يده، فانكب عليها يلتقطها من الأرض ويتساءل ما هذه، فلم يجد لديه إجابة وهو المتوهم في نفسه أنه العارف بكل شىء، لم يعلم ماهية ما معه، لكنه اعتبر نفسه قد قايضها بالثمان والخمسين جنيها ثروته التى كانت معه قبل أن يتلفظ بالسؤال عن المحطة، التى كانت بجواره، وكبرياء جهله منعه من رؤيتها، ولم ينفع الندم الآن فالأحداث كلها أمست فى زمان الأمس هذا اليوم الثقيل،

والآن وقد اقترب فجر اليوم الجديد، وقد طار النوم من رأسه اللهم إلا من بعض جسده الذى ينشد الراحة بعد عناء البحث عن راحة، أسرع إلى داخل المحطة يبحث عما تبقى فى ذاكرته عن موضع نومه، وكانت المفاجأة التى أغضبته بشدة، لكنها سربت إليه بعض الطمأنينة، كانت المفاجأة من اكتظاظ المحطة بالنيام فى كل مكان، حتى أن عينه وهى تمسح المحطة كلها باحثة عن موضع يصلح أو لا يصلح لنومه، وجد من بين هؤلاء من هم يرتكنون على جدران المحطة وقوفا وتعجب من قدرتهم على النوم مسندين رؤوسهم على الجدران – فقط – تلك أسهمهم من الراحة، واطمأن لأنه وسط هذا الحشد لن يأتيه ثانية هذا الرجل الضاحك الساخر والغاضب السليط، تحسس أول موضع بعد السلمة الثالثة التى قفز برجل واحدة يتخطاه بعد الثانية وقبلهما الأولى من ازدحام من يفترشونهم،

وأسند ظهره على جدار فارغ من الأجساد وظل ينزلق بروية حتى هبط وهوى على مقعدته فى وضع القرفصاء وأطلق زفيره وشهيقه فى الهواء كخوار الفحل الذى يسقط فى حلبة نحره، وغاب عن الدنيا حتى أحرقته شمس السويس وأيقظه نعيب أو نعيق الغربان التى لا حصر لها، ولا حاجة له من الذهاب لدورة المياة للاغتسال فقد قدم له عامل المحطة هذه الخدمة (ديلفرى) فهو في سلوك اعتيادي أخذ يرمى بدلو الماء يمينا ويسارا فالنيام هنا لا يكترثون لهذه الفعلة لأسباب منها الاعتياد، ومنها انعدام الحيلة، وكما أنهم بالفعل لن يقوموا من افتراشهم أرضية المحطة إلا هكذا! ونال صاحبنا بعض من الماء، ومن حسن حظه أنه طار إلى وجهه، فكان لوظيفتين ! الاستيقاظ والغسل، وربما بلل شفتيه بعض القطرات منه، فشرب وسد ظمأه، وعليه الآن أن يبحث عن فطور وعمله وأشياء كثيرة!     

فى القادم إن شاء الله نكتشف معا كيف استقبله سوق العمل، ولماذا قبع فى مسجد حمزة، ومن انتشله.