إحم إحم !

هشام مبارك يكتب: ساحر القلوب

هشام مبارك
هشام مبارك

إذا كان الشاعر الكبير نزار قباني قد قال قديماً إن الصمت فى حرم الجمال جمال، فمن المؤكد أن الإنصات فى حضرة الجلال جلال. وجلال هذا هو أستاذنا العزيز والحبيب جلال السيد، أبرز المحررين البرلمانيين على مر العصور، والذى قضيت بصحبته عصر السبت الماضى ساعتين من أجمل أوقات عمرى فى زمن عزت فيه الأوقات الحلوة والضحكة الصافية النابعة من القلب. كنا قد اتفقنا على زيارة أستاذنا الحبيب منذ عدة أسابيع وبسبب حرص الجميع على المشاركة تأجل الموعد أكثر من مرة حتى يتسنى للجميع توفيق ظروفه لينال شرف المشاركة. لكن بعد وفاة أستاذنا جميل جورج أصبحت الزيارة حتمية لتقديم واجب العزاء لجلال السيد فى صديقه وزميل عمره وصاحب رحلة صاحبة الجلالة حيث لم يفترقا أبداً لدرجة أننى كثيرا ما كنت أخلط بين اسميهما فيصبح جميل السيد وجلال جورج، وهكذا نجحنا فى ترتيب هذه الزيارة بصحبة مجموعة عزيزة من أساتذتى وأصدقائى وزملائي من كبار الكتاب فى دارنا الحبيبة أخبار اليوم، شريف رياض وحسن علام ورفعت رشاد وشريف خفاجى ومحمد عبد الحافظ مع حفظ الألقاب والمقامات.

وصلنا إلى حيث بيت أستاذنا الكبير فى مدينة 6 أكتوبر. كان يقف فى البلكونة متهللاً هاشاً باشاً كعادته بوجهه الطفولى الجميل فرحا بلقاء تلاميذه وأبنائه بعد طول غياب استقبلنا وزوجته الجليلة التى لم يخل استقبالها من عتاب لها فيه كل الحق حيث لا يجب أبداً أن يتأخر التلاميذ عن زيارة أساتذتهم الأجلاء. احتضننا جلال السيد بحنانه المعتاد وعندما حان دورى فى السلام ابتسم تلك الابتسامة التى أعرف ما وراءها جيداً وقال لى مداعبًا: هل تذكر أول يوم جئت فيه الأخبار يا هشومة؟ الله عليك يا ريس، جعلتنى بكلمة هشومة تلك أتذكر أبى وأمى رحمهما الله صاحبا هذا النداء الذى لم يعد أحد ينادينى به بعد أن أصبح كنية هشام «إتش». ضحك الزملاء وكان أغلبهم يعرف تفاصيل ما حدث فى ذلك اليوم. لم أكن أعرف وقتها الأستاذ جلال السيد وعندما وقفت أمام الأسانسير كان يقف هو ومجموعة من الزملاء فى انتظار دورهم ثم جاءت من بعدى آنسة.

لكن عندما جاء الأسانسير فوجئت به يفسح المكان للآنسة لتركب فى المقدمة وكان من الطبيعى أن يكون ذلك على حسابى فاعترضت وقلت له وقد ظهر عندى العرق الصعيدى: تنازل أنت عن دورك لمن تشاء ولكن ليس من حقك أن تجعلها تدخل الأسانسير قبلى، وبينما أنا فى قمة الغضب والنرفزة، كان جلال السيد يضحك بملء فيه من رد فعل هذا الصعيدى الماثل أمامه والذى لم تفلح محاولات رجال الأمن فى امتصاص غضبه.

ثم وبحركة مفاجئة وضع جلال السيد يده على كتفى بإبوة حقيقية وهمس فى أذنى: يعنى لو اختك مش هتسيبلها دورك وتنتظر انت؟ طبعا شعرت بالخجل من نفسى لولا أن الرجل أصر على أن ينتظر معى ليصحبنى فى الدور التالى ليصعد بى إلى مكتبه، كل هذا وأنا لا أعرف أن صاحب هذا الموقف هو الأستاذ الكبير جلال السيد الذى كثيرا ما كنت أقرأ اسمه على الأخبار السياسية فى مرحلة القراءة عندما كانت قراءة جريدة الأخبار أهم فقرة فى برنامجى الدراسى. منذ تلك اللحظة أصبح جلال السيد والداً بمعنى الكلمة استشيره وكل أبناء جيلى فى كل صغيرة وكبيرة فى حياتنا.

وإذا كانت قوته كمحرر برلمانى من أصحاب الصولات والجولات فى البرلمان قد جعلته ناصحاً أميناً وصديقاً مقرباً لجميع من تولوا رئاسة مجلس الشعب من أمثال العمالقة صوفى أبو طالب ورفعت المحجوب وأحمد فتحى سرور فإن إنسانيته وجاذبيته والكاريزما التى تضفى على شخصيته سحراً خاصاً، جعلته صديقاً مقرباً لكل الزملاء فى الأخبار على اختلاف أعمارهم. فهو دائماً القريب منا والذى يعرف كل ما نعانيه ولا يتأخر عن مساندتنا. حتى بعد أن بعد عن العمل التنفيذى لم تنقطع صلته بنا ولا بالجريدة ولا بالقلم حيث لايزال يطل على القراء برحيق خبرة السنين.

شكرا لك أستاذنا الكبير على هذه اللحظات الجميلة. كم كنت أود أن يطول بنا الوقت لننهل من مخزن ذكرياتك المليء بالقصص والحكايات والمواقف الصحفية التى لن ينساها لك التاريخ، بارك الله فى عمرك ودمت دائماً أستاذاً وأخاً أكبر ورمزاً من رموز زمن الصحافة الجميل.