عاجل

«لا يستحق الحياةۚ».. قصة قصيرة للكاتب عبد النبي النديم

اللكاتب عبد النبي النديم
اللكاتب عبد النبي النديم

من وراء باب غرفة النوم الموارب.. طل عليها بفمه المدبب وشاربه الطويل الذى لا يتناسب مع جسده الضئيل.. عيناه الزائغتان تبحثان عن ملاذ آمن أو مأكل.. أو لأغراض أخرى تندرج فى النهاية تحت بند الاعتداء على حرمة بيتها - فدوماً يوصف بالمعتدى, يثير الذعر والإرهاب فى المكان الذى يتواجد فيه.. ابتسامة سخرية رسمت على شفتيها، تنظر إلى عينيه الزائغتين التى تتحرك فى كل أرجاء الغرفة، يتحاشى المعتدى أن تلتقي عيناه عينيها, يتردد فى الدخول.. يدور حول نفسه..

 

تضحك إيمان وهى تتحدث إلى زوجها النقيب محمد الضابط بالقوات المسلحة بالهاتف, تخبره بوجود ضيف ثقيل غير مرغوب فيه بمنزلهما.

 

ينزعج زوجها متسائلاً: ضيف ثقيل.. مين ده ؟؟

 

يضطرب.. يكرر سؤاله مسرعاً عن الضيف الثقيل، وعلامات الاضطراب تظهر على نبرات صوته التى حملت الخوف عليهم.. وبُعد المسافة يحول بينه وبينهم حتى يستطيع نجدتهم، فهو يخدم بمنطقة شمال سيناء بمنطقة رفح.. التى ينتشر بها الإرهابيون.. فقد أخبرها تواً أنه يستعد مع رفاقه فى السلاح لهجوم على أحد الأوكار الإرهابية, التى تستحل دماء المصريين, بعد أن ضلت عقولهم وتشتت أفكارهم المسممة من قبل أعداء الوطن، محاولين النيل من مقدرات الوطن وإسقاط هيبة الدولة، وتمزيق نسيج الوطن.. محاولين نشر فكرهم الظلامي على أشلاء أبناء مصر.

 

يتوقف عن الاستعداد للخروج إلى العملية المكلفين بها تحت قيادته واستكمال شًدة سلاحه، يلح فى السؤال عن الخطر الذى يحيط بزوجته وأطفاله، فتضحك محاولة أن تبعث برسالة طمأنة إليه.

 

أنت قلقت ليه كده يا محمد باشا، وراك رجاله في البيت .. فأر.. مجرد فأر.. يقف عند باب الغرفة حائراً يبحث عن مخرج أو ملاذ له.. الأولاد ناموا وسأتولى مسؤوليته..

 

يرد عليها.. وأنا أستعد للخروج مع باقى الفرقة لمهاجمة وكر إرهابي .. سأضع سماعة الأذن "البلوتوث".. سأكون معكِ على الخط حتى تتخلصى منه..

 

يخرج إلى زملائه وجنوده .. وهو يواصل حديثه إلى زوجته.. التى طرحت من عليها فراش السرير.. تتأكد من إحكام الفراش على أطفالها.. تضع هي الأخرى سماعة التليفون بأذنها..

 

يفر الفأر عندما همت بالنزول من على السرير, ذهبت مباشرة إلى المطبخ, فتحت إحدى درفه المخصصة لحفظ مبيدات مكافحة القوارض.. تتحدث إلى زوجها وهو فى طريقه إلى المهمة الموكلة إليه داخل المدرعة, وزملائه وجنوده يتابعون العملية معه لحظة بلحظة.. والابتسامة تعلو وجوههم..

 

تلتقط مبيد سم الفئران.. تفتح درج المطبخ تأخذ منه كمية من أعشاب البابونج والفلفل الأسود, تتجه مباشرة إلى الحمام, تصب كمية من سم الفئران فى المرحاض وتضع كمية من البابونج والفلفل الأسود, وتعود إلى المطبخ.. تتناول مقشة النظافة تخرج إلى الصالة تجول ببصرها في أنحائها تبحث عن العدو.. لم تأخذ وقتاً طويلاً فى الكشف عن مخبئه خلف قائمة منضدة السفرة.. تكوم خلفها.. تاركا ذيله يشير إلى مكانه..

 

بكل هدوء تمد سلاحها الخشبي تجاهه.. تحرك ذيله فيفر يبحث عن ملاذ آخر يتنقل بين أرجل كراسي السفرة..

 

تصف لزوجها الموقف أولا بأول..

 

فر إلى الكرسى الرئيسى للسفرة.. فر إلى الزاوية بين نيش السفرة والحائط, يدس رأسه تاركاً جسده فى العراء.. لا يستطيع المرور خلفه..

 

هرب إلى حجرة المكتب.. لم يجد له ملاذاً بها.. أجلس على كرسى المكتب.. أخبط على المكتب لإرهابه.. أتابع خط سير هروبه.. فى كل أرجاء غرفة المكتب.. تقريباً يئس من وجود ملاذ له بالمكتب .. لم يجد مفراً سوى الخروج منها..

 

أخرج خلفه يلوذ إلى الطرقة المؤدية إلى المطبخ والحمام.. يفر إلى أسفل حوض المطبخ يحتمى بجردل النظافة.. أزيحه بالمقشة من أمامه.. يفر إلى أسفل البوتاجاز.. لم يجد ما يستره.. ينتقل إلى أسفل الثلاجة.. لم يختلف الموقف كثيراً..

 

باءت كل محاولاته لإيجاد ملاذ آمن له بالشقة حتى الآن بالفشل..

 

 

 

تقف المدرعات الحربية التى تحمل الجنود بالقرب من الوكر الذى تم رصده ويختبئ به الإرهابيون.. يخبر أحد الجنود الضابط محمد بالوصول إلى الهدف والمكان المحدد بخطة الهجوم لبدء العملية.. يطمئن محمد من زوجته على الموقف الأخير فى مطاردتها للفأر.. يخبرها بوصولهم إلى الوكر الذي يختبئ به الإرهابيون.. يطلب من زوجته أن تغلق الهاتف الآن..

 

ترفض أن تغلق الهاتف.. تطلب منه أن يترك تليفونه مفتوحاً حتى تطمئن عليه.. وستظل على الخط معه دون التحدث إليه.. يطلب منها ألا تشتت تفكيره أثناء الهجوم على الإرهابيين بوكرهم.. ترفض بشدة أن تغلق الهاتف.. وأراد هو أن تظل معه حتى تكون هى آخر صوت يسمعه إذا كتب الله له الشهادة.. ينصاع لرغبتها.. أو يحتاجها إلى جواره أثناء الهجوم تشد من أزره, وتقوي من عزيمته.. ويبقى الهاتف مفتوحاً..

 

يلقى مخلته على الأرض, يخرج جهاز الكمبيوتر الخاص به, يستعرض خرائط العملية مع زملائه وجنوده.. يدرسون المكان المحيط بالوكر الإرهابي للمرة الأخيرة قبل بدء الهجوم.. يؤكد على الخطة المحكمة التى تم إعدادها والتكليفات الخاصة بكل عناصر قواته قبل الهجوم..

 

يقف متأهبا، يبث روح الحماسة بين جنوده، يبدأ الهجوم متسللين لإحكام السيطرة على الوكر الإرهابى قبل بدء العملية.. للقضاء على أعداء الوطن..

 

اتخذ كل فرد من أفراد المجموعة موقعه المحدد له حول الوكر الإرهابي فى انتظار إشارة منه لبدء للهجوم من قائد العملية..

 

خلف تلة رملية.. وجه محمد سلاحه الـ "أر بى جى" إلى الوكر المكون من عشة تم بناؤها من الطوب الأبيض ومسقوفة بالأعشاب الجافة يحيط بها بعض الأشجار مختلفة الأحجام..

 

يطلق إشارة البدء للعملية لتصفية الوكر بما فيه مطلقاً قذيفة من سلاحه الآر بي جيه أطاحت بسقف العشة والحائط الذي تلقى القذيفة.. ثوانٍ معدودة.. خرجت طلقات عشوائية من داخل الوكر.. غير محددة الهدف تم إطلاقها بطريقة تنم على عنصر المفاجأة للإرهابيين..

 

انتظر الضابط محمد دقيقة حتى هدأت أصوات طلقات الرصاص الصادرة من الوكر..

زوجته على الجانب الآخر يدق قلبها مع كل صوت طلقة رصاص.. يحاول بث الطمأنينة في قلبها الذى يسمع صوت نبضاته العالية عبر أثير الهاتف.. يخبرها قائلاً: «الفئران بتفرفر جوه الوكر.. أخبار الإرهابي اللى عندك إيه» ؟؟

 

عادت إلى عمليتها التى تركتها منذ بدء عملية زوجها فى الهجوم على وكر الإرهابيين.. تخبره بأنه ما زال يحتمى بقاعدة الثلاجة ظنا منه أنه نجا وفر من تحت سيطرتي..

 

متقلقش عليا.. مش أول عملية أقوم بها كما تعرف.. لكن أريد أن أطمئن عليك أنت؟؟

 

لم يجب عليها محمد.. يوجه الطلقة الثانية من سلاحه الـ "أر بى جيه" إلى الوكر.. فيحوله إلى شعلة متفجرة تهدم ما تبقى من حوائطه.. فتظهر الفئران مذعورة.. تنكشف عوراتهم.. يطلقون رصاص أسلحتهم بلا هوادة مذعورين لا يجدون ما يحتموا به سوى أصوات طلقات رصاصهم.. التى لم تخدش طرفاً من أفراد المجموعة.. محاولين بث الرعب في قلوب أفراد المجموعة القتالية.. تناسوا أن أصوات الفئران لا تزعج الأسود.. فالفراغ يحيط بالمكان.. يلجأون إلى جذوع الأشجار المحيطة بالوكر يحتمون بها .. هيهات .. فالفرقة تحاصر الوكر من كل اتجاه.. يتساقطون فأراً تلو الآخر.. يطلق أحد أفراد المجموعة طلقة فسفورية تحول المكان المحيط بالوكر إلى نهار.. ينكشف أمام أفراد المجموعة باقى أعضاء الوكر صوت الضابط محمد مرتفعا موجهاً حديثه إلى قائد المدرعة بإضاءة أنوارها.. يطلب من الفئران الباقية الاستسلام وإلقاء أسلحتهم التى فرغت من الذخيرة والتوجه إلى بقعة ضوء المدرعة رافعين أيديهم على رؤوسهم.. وينبطحون أرضا..

 

فأر تلو الآخر.. يدخلون إلى بقعة الضوء يزحفون على ركبهم واضعين أيديهم فوق رؤوسهم.. ثمانية فئران دخلوا إلى بقعة الضوء.. وسقط ضعفهم داخل الوكر وخلف الأشجار المحيطة به..

 

أسرع عدد من أفراد المجموعة إلى الوكر الذي ما زالت النيران مشتعلة به.. يهدمون ما تبقى منه.. يبحثون عن فئران أخرى مختبئة.. وعدد آخر من أفراد القوات أمسك بالإرهابيين المنبطحين على وجهوهم يقيدونهم.. ويلقون بهم إلى إحدى المدرعات.. وباقي أفراد القوات كل فرد ظل بمكانه المحدد له بخطة الهجوم, تحسباً لأى طارئ من قبل الإرهابيين..

 

اطمأن الضابط محمد قائد المجموعة القتالية إلى الانتهاء من العملية.. والسيطرة على الوكر تماماً.. طلب من زميله حصر جثث الفئران التى تم صيدها.. وتوجه إلى أطلال الوكر التى هدأت نيرانه.. يفتش فيه عن الأسلحة والذخيرة.. مع عدد من جنود الفرقة..

 

زوجته إيمان على الطرف الآخر من الهاتف.. القلق البالغ يسيطر على أوصالها.. تركت فريستها في مخبئها أسفل الثلاجة.. خطوات قلقة ومضطربة بين الطرقة المؤدية إلى المطبخ والصالة ذهاباً وإياباً.. فى حيرة من أمرها.. تستمع إلى الحوار الدائر بين زوجها ومجموعته القتالية.. تخاف أن تتحدث إليه أثناء الهجوم, فتشغله.. فيقع ما تخشاه.. ويصيبه مكروه..

 

أحد جنوده يطلق ضحكة عالية.. موجهاً حديثه إلى الضابط محمد قائلا: جبنة نستو يا معفنين..

 

فيضحك محمد على تعليق الجندى بصوت عالٍ.. تنتهز إيمان الفرصة.. وضحكة زوجها العالية فتطلب من زوجها أن يطمئنها.. فيعود إليها مسرعاً.. أنا آسف يا حبيبتى.. انشغلت فى الهجوم.. طمنينى الأول على الإرهابي اللى عندك.. يهدأ خفقان قلبها.. وتعتدل نبضاته.. تلتفت إلى حيث الفأر المستكين أسفل الثلاجة.. متقلقش.. تحت السيطرة أنا قلت نخلص الأول من اللى عندك وبعدين أنت عارف طريقتي فى القضاء على أمثاله من الإرهابيين ..

 

صمت محمد لفترة.. عاد إلى الوكر الإرهابى يفتش بأرجائه عن هدف معين .. لفتت طريقة زوجته فى القضاء على الفئران نظره إليه..

 

طلب إلى زوجته أن تنتظره دقيقة.. أشار إلى جنوده بإزالة بقايا الحوائط التى سقطت على الحمام بالوكر.. وما أن بدأ الجنود فى نبش الحمام.. إلا وأطلقت من تحت الحطام طلقات رصاص من أسفل قاعدة المرحاض البلدي.. فالتف الجنود والضابط محمد حول المكان الصادر منه طلقات الرصاص.. وأمطروه بوابل من الطلقات..

 

انتظروا قليلا.. تقدم الضابط محمد إلى حيث المرحاض.. يطلق مجموعة كاملة من السلاح الآلى.. ليطمئن إلى عدم وجود رد من أسفل الحمام..

 

تتجه إيمان إلى حيث الملاذ الوهمى للمتطفل.. تدفعه بيد المقشة الخشبية معلنة له.. أن الوقت قد حان للانتهاء من العملية..

 

فر من مخبئه.. فأشارت إلى فريستها تدفعها للدخول إلى الحمام.. فلم يجد الإرهابى أمامه مفراً سوى الاستجابة للطريق الذى حددته لها..

 

دخلت خلفه.. أغلقت باب الحمام من الداخل.. وبدأت عملية الصيد..

 

خبطات من المقشة بيديها على أرضية الحمام.. تزيد من ذعره.. يسرع للهرب فى مختلف أرجاء الحمام.. يتخبط بالبانيو والحوض محاولات يائسة لتسلق الحوائط الملساء.. كل الأركان محكمة الغلق.. لا يوجد إلا طريق واحد أمامه للهروب.. الخطة التى رسمتها له.. وهى قاعدة الحمام الافرنجي التى صبت بداخلها سم الفئران وعشب البابونج والفلفل الأسمر.. لم تريد أن تلوث دماء هذا الإرهابى منزلها وأن المكان الملائم له هو المرحاض.. فأمثاله من المعتدين لا يليق بهم إلا هذا المكان..

 

تزيد من خبطاتها على أرض الحمام فيزيد الفأر من ذعره وسرعته.. ولم يجد له مفراً سوى الصعود إلى الهاوية فوق قاعدة الحمام.. ليلقي بجسده بها.. يحارب المياه المخلوطة بالوصفة التي أعدتها داخل المرحاض بأقدامه.. تتشنج رقبته وتتلوى وترتعش فرائصه.. تراقبه وهو يلفظ أنفاسه وقد ارتكنت بيديها على يد المقشة الخشبية..

 

يستيقظ ابنها على صوت طرقات العصا، ينظر إلى أمه وهى تراقب الفأر وهو يصارع من أجل الخروج من المرحاض، يسأل أمه .. لماذا تقتلي هذا الفأر ؟

تضع أمه يديها تمسح على رأسه وترد عليه .. لأنه لا يستحق الحياة..

يستكين الفأر تماماً داخل المرحاض، تمد يدها إلى مقبض السيفون لتفتح شلال المياه لإزالة بقايا المعتدي من منزلها..

تنادي على زوجها فى الهاتف.. العملية تمت بنجاح.. يضحك الضابط محمد بصوت عالٍ وهو فى طريق العودة.. يوجه حديثه إلى رفاقه.. متحمساً رافعاً يده بعلامة النصر لهم قائلا: العملية تمت بنجاح...