الحد الفاصل

د. محمد محمد زيادة يكتب: كلية التربية والاستثمار

د. محمد محمد زيادة
د. محمد محمد زيادة

كلية التربية والاستثمار
لا شك في أنَّ "الكادر البشري" ركيزةٌ رئيسةٌ ترتكز عليها الأممُ في بناء أمجادها، وإقامة حضاراتها؛ فهو أصل التنمية وأساس الصناعة وجذر الزراعة وعصب التجارة وجوهر الاستثمار. وحتى نكون أكثر دقةً، فالمقصود هنا بالكادر البشري هو ذلك الفرد الذي حظي بمستوىً مناسب من التعليم، وبَنَتِ التربيةُ فيه رغبةً حقيقيةً في أنْ يكون مؤثرًا في الارتقاء بعمله، وقيمةً مضافةً في رفعة شأن مجتمعه، وذا إسهامٍ حقيقيٍّ في تقدم وطنه.


التربية ثم التربية ثم التربية ثم التعليم
لطالما اقترنتْ كلمتَا التربية والتعليم، غير أنَّ الأولى لم تكن لتأتي أبدًا بعد قرينتها؛ فالتربية هي الأساسُ الذي تُبنَى عليه كل معرفة، والتربةُ الصالحةُ التي تُغرَسُ فيها أخلاقُ العِلْمِ والعمل وتطبيقاتهما؛ فلا جدوى من تعليم يفتقر إلى نفوسٍ سوية وعزائمَ قوية تحب العملَ وتُقَدِّرُ العِلْمَ، لتنفع نفسها وترتقي بوطنها.


تبدأ التربية منذ اللحظات الأولى التي يرى فيها أطفالُنا نورَ الحياةِ، حيث تصير الأُسْرةُ مسـؤولةً عن تشكيل وعيهم، وتأصيل طباعهم، وإكسابهم المهارات المتعددة؛ فإذا هم كوادرُ مستقبلٍ واعد يقود المجتمع نحو تحقيق التنمية والازدهار في شتَّى المجالات، وفي ظل حياتنا الحديثة بدأ هذا الدور في التقلص جيلًا بعد جيل، ليتحول -تدريجيًّا- إلى المدارس التي تستنفد العقدينِ الأولينِ من حياة الطفل، فتشكل وجدانه وتؤثر في طباعه وتوجه مهاراته، وهو ما اقتضى -بالضرورة- أنْ يتحول دورُ المُعلم ليكون مُربيًا في المقام الأول، وأنْ يصبح دور المدرسة هو "التربية ثم التعليم"، وهو الدور العظيم الذي مدَحَه أميرُ الشعراءِ في بيتيه الشهيرينِ:
‌قُمْ ‌لِلْمُعَلِّمِ ‌وَفِّهِ ‌التَّبْجِيْـــــــــــــلَا
كَادَ المُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُــــولا
أَعَلِمْتَ أَشْرَفَ وَأَجَلَّ مِـنَ الذِي
يَبْنِي وَيُنْشِئُ أَنْفُسًـــــــا وَعُقُولا


التربية من أجل مناخ استثماري جذاب
بما أنَّ الكادرَ البشريَّ أصلُ التنمية والازدهار وجوهرُ الاستثمار -كما تقدم- فإننا لن نبالغ إذا قلنا: إنَّ المُعلِّمَ عنصرٌ أساسيٌّ لخلق مناخٍ استثماريٍّ متكامل؛ ولذا يجب علينا أنْ نعي جميعًا أنَّ تحقيقَ تنمية فريدة وازدهار حقيقي ومناخ استثماري جذاب لا بُدَّ مِن أنْ يبدأ من المَدْرَسة، ومن المُعلِّم تحديدًا؛ حيث إنَّه صانع الكوادر البشرية التي هي أساس نجاح أي استثمار وسبيل كل نهضة. وأمَّا المناهجُ الدراسيةُ فليستْ أساسَ هذه التطلُّعَاتِ، وليست الأبنيةُ التعليميةُ أصلًا لها، وما دمج التكنولوجيا واستخدام التابلت والسبورات الذكية في العملية التعليمية إلا وسيلة، وليست محاولاتُ إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية من مدارس دولية، ومناهج أمريكية وبريطانية وفرنسية، وجامعات ألمانية وكندية، وتغيير الخطط التعليمية، وتبني استراتيجيات دولية - إلا حلقات مفرغة ما دامتْ هذه المحاولاتُ غافلةً عن دور المُعلِّم، ومستمرةً علَى درب الارتقاء بكل شيء إلا هو!


وعلى الرُغم من أنَّ مهنةَ المُعلِّم مسؤولةٌ عن إنتاج جميع مُمْتَهِنِي المهن الأخرى، وعلى الرغم من أنها الركيزة الأساسية في المنظومة التربوية التعليمية؛ فأنها عانت تهميشًا دائمًا تسبب في تحول كثير من المُعلِّمين نحو التركيز على شيء واحد فقط هو كيفية تأمين سبل العيش لأُسَرِهم، وحينئذٍ تلاشى الدور التربوي للمُعلِّم، وأصبحتِ العَلاقةُ بينه وبين تلميذه عَلاقةَ مُشترٍ وبائعٍ، هذا يبيع خدمةً وذاك يدفع ثمنها! ولعل هذا التهميش يفسر ما تشهده مصرنا الحبيبة من ضعف مستمر وملحوظ في جودة وكفاءة الأيدي العاملة في مختلف المستويات التعليمية، الفنية منها والعالية؛ ولعله أيضًا يعطي سببًا منطقيًّا لتحول التعليم إلى مجرد شهادة تنتهي عندها رغبة التعلم ونهم التطوير؛ وهو ما أدَّى بدوره إلى معاناة سوق العمل مؤخرًا من ندرة الكوادر البشرية الكفؤة في بلد يحظى بمئات الآلاف من الخريجين سنويًّا.


كلية القمة.. كلية التربية
وأخيرًا، نرَى أنَّ اللهَ قد حَبَى مصر -مهد الحضارة- ثروةً ووفرةً بشريةً ضخمةً، يمكن أنْ تتحول باستغلالها الاستغلال الأمثل إلى ميزة تنافسية للدولة المصرية على الصعيد الاستثماري؛ ولاستغلال هذه الثروة لا بُدَّ من تربيتها، فتعليمها، ثم تدريبها، ولن يتأتَّى هذا بمستوى عالٍ إلا من خلال الاهتمام بالمُعلِّم أولًا، ذلك الاهتمام الذي يجب أنْ يبدأ من مرحلة انتقائه، وأول الطريق إلى هذا الانتقاء هو اختيار أفضل الطلاب خلقًا وعلمًا واجتهادًا وحُبًّا في التعلم.


ومن هنا، فإنَّ تحقيقَ ذلك سهلٌ ميسورٌ متَى أصبحتْ كليةُ التربيةِ كليةَ قمة، وحتى يُمْسِي هذا واقعًا ملموسًا يجب علينا تحسين مستوى المُعلِّم على الجانب المادي تحسينًا جوهريًّا مُحقَّقًا، ثم الاهتمام به اهتمامًا معنويًّا رفيعًا؛ لترغيب خيرة طلاب الحاضر ومعلمي المستقبل في نيل مكانة اجتماعية مرموقة والحصول على عوائد مادية ملائمة؛ حتى يستطيعوا تأدية رسالة حياتية خلَّاقة، فيحققون جميعًا حلمًا واحدًا، هو حلم الالتحاق بكلية القمة - كلية التربية.