أخر الأخبار

«باب الخلق».. الحي الذي لا ينام

باب الخلق
باب الخلق

قبل نحو 73 عامًا، نشرت «آخرساعة» تحقيقًا بالصور عن التطورات التى شهدها أحد أهم أحياء القاهرة وقتذاك، حى باب الخلق، الذي كان معروفًا فى السابق بـ«باب الخرق»، واللافت أن المجلة اصطحبت في هذه الجولة شاعر الشباب أحمد رامي، ورصدت تفاصيل كل شبر فى ذلك الشارع وما فيه من محلات ومشارب ودكاكين للموسيقى ومقار للصحف الذي عمل فيها صحفيون كُثر أصبحوا لاحقًا من أساطين مهنة البحث عن المتاعب، لعل أبرزهم الكاتب الكبير محمد حسين هيكل الذي كان يعمل في صحيفة «الجريدة» قبل أن تتحول بعد سنوات إلى ورشة نجارة.. وفي السطور التالية نعيد نشر هذا الموضوع بتصرف محدود.

معلومات هذا التحقيق الصحفي مصدرها شاعر الشباب أحمد رامي، الذى طاف مع عدسة آخرساعة وأحد محرريها بزوايا باب الخلق وخباياه.. كانت تقع فى ميدان باب الخلق (ميدان أحمد ماهر باشا الآن) قبل ردم الخليج المصري في عام 1896 أكبر قنطرة، من قناطر ذلك الخليج، التى كان يبلغ عددها حينذاك عشرين قنطرة، وكانت تلك القنطرة تسمى وقتذاك باسم قنطرة باب الخرق»، ولكن الناس استبدلوا بالراء فيما بعد لامًا فصارت «باب الخلق» بدلًا من باب الخرق.

حى العظماء
وكانت قنطرة باب الخرق فى ذلك الوقت تصل بين درب سعادة وغيط العدة الذى كان من أهم المسالك إلى عابدين وباب اللوق قبل فتح شارع حسن الأكبر (شارع سامى البارودى باشا الآن).

وكان ذلك الحي المحروم من الحدائق والمتنزهات الآن ـ قبل ردم الخليج ـ بمثابة جنة تجرى من تحتها الأنهار، حيث كانت مياهه تجرى من تحت المنازل، وكان الناس يتنزهون فيه بالقوارب ويستسقون من مائه.

وكان حى باب الخلق مقرًا لمساكن عظماء مصر وعلمائها وأدبائها، ومازالت توجد فيه سراى منصور باشا زوج شقيقة الخديو إسماعيل باشا، التى تحوّلت فيما بعد إلى مقر لمحافظة مصر ومحكمة الاستئناف، وسراى محمود سامى البارودى باشا فى غيط العدة، التى تحولت الآن لورشة نجارة، وسراى حسن الشريعى باشا، وسراى المهدى باشا التى كانت من قبل فندقًا كبيرًا.كما أقام فيه أيضًا جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشاعر العراقى عبدالمحسن الكاظمي، وإمام العبد، وداود حسني، وكامل الخلعي، ودرويش الحريري، وعلى القصبجى والقباني.

النديم متنكرًا
وعلى ضفاف الخليج كانت تقام الملاعب والملاهى ونوادى السمر، كما كانت تُقام أمام المحافظة الاحتفالات والمهرجانات بأعياد الجلوس والميلاد لسلاطين مصر وآل عثمان. وفى هذا الميدان أيضًا كانت تُنصب المشانق للمحكوم عليهم بالإعدام، حيث كان يُنفذ فيهم حكم الإعدام شنقًا على الملأ.


وقد حدث فى أيام الثورة العرابية أن صدر حكم بإلقاء القبض على الشيخ عبدالله النديم خطيب الثورة، وأخذ البوليس يبحث عنه فى كل مكان، فى الوقت الذى كان يجلس أمام باب محافظة مصر، متنكرًا فى زى «ضارب رمل»!

صحافة وأدب
ولما نشأت الصحافة المصرية، تأسست أول بيوتها فى باب الخلق، حيث أصدر الشيخ على يوسف جريدة «المؤيد» التى لا يزال مبناها قائمًا فى مكانه إلى اليوم، فى شارع محمد علي، كما أصدر حزب الأمة صحيفة «الجريدة» فى سراى البارودى باشا، تحوّلت الآن إلى ورشة نجارة، وكان يرأس تحريرها أحمد لطفى السيد بك (باشا فيما بعد) وكان من صغار محرريها فى ذلك الوقت الطالب محمد حسين هيكل (الدكتور هيكل بك الآن).

وأمام دار الجريدة فى غيط العدة أو وكالة القمح ـ كما كانت تُسمى وقتئذ ـ أصدر الشيخ عبدالرحمن البرقوقى صاحب صحيفة «البيان» التى كان من بين محرريها المنفلوطى والعقاد.

وقد بدأ العمران يدب فى باب الخلق منذ أنشئت فيه دار الكتب المصرية فى عام 1317 هجريا فى مكان محكمة الاستئناف القديمة، وكانت توجد بجوارها فى ذلك الوقت حديقة صغيرة ممتدة داخل الميدان ولكنها أزيلت عندما أريد فتح شارع حسن الأكبر.

ثم ظهرت فى الميدان المشارب والحانات التى كانت بمثابة منتديات لأهل الأدب والفن مثل مقهى محمد التركى الذى كان يتردد عليه الطالب الأزهرى الشيخ طه حسين (وزير المعارف الآن)، والمنفلوطي، والسباعي، ومحل صالح الشربتلى على ناصية غيط العدة الذى اشتُهر بصنع السوبيا الممزوجة بشراب الورد، وبار «المؤيد» الذى أنشئ أمام جريدة «المؤيد»، وبار المحافظة الذى انتقل من مقره فى «العلواية» فى مكان عمارة البارودى الجديدة إلى مقره الحالى أمام دار الكتب، وبار العنبة على ناصية درب الطواشى الذى كان منتقى لمشاهير الطرب والموسيقى، وبار الكتبخانة الذى تحوّل الآن إلى استديو تصوير والذى كان يجلس فيه حافظ إبراهيم بك مع أصفيائه وحوارييه.

وإلى جانب المشارب والحانات أنشئت «بوظة» العلواية الشهيرة، التى كانت تقدم لروادها قَرعة «البوظة» بخمسة مليمات مع مزّة من الكِرشة بالشطة الحارقة وكان يصعد إليها روادها عن طريق سلم يُسمى بالسلم ذى السبع حدرات.
أول نادٍ للموسيقى.

وبجوار بار العنبة، افتتح داود حسنى والقبانى دكاكين للموسيقى، كانت مجمعًا لأهل الفن والطرب. كما تألف فى باب الخلق أول نادٍ للموسيقى، ذلك النادى الذى كان نواة لبناء معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية.

ويعتبر حى باب الخلق الآن من أخف الأحياء الوطنية دمًا، لأنه لا يزال محتفظًا بطابعه المصرى الصميم، بنواديه وبمتاجره وبسهراته، التى تستمر حتى الصباح، فإن حى باب الخلق، يعتبر الحى المصرى الوحيد الذى لا يعرف النوم، فترى مقاهيه ومتاجره مضيئة طوال الليل.


(«آخرساعة» 16 أغسطس 1950)