بين التوثيق والتزييف.. هل يصلح الفن مصدرًا للتاريخ؟

لوحة إعدام مارى أنطوانيت
لوحة إعدام مارى أنطوانيت

رشيد غمرى

من وقت إلى آخر تتسبب بعض الأعمال الفنية فى جدل بسبب تناولها لشخصية أو حدث تاريخي، ومنها الضجة المثارة حول شخصية اكليوباتراب، فيما يتعلق بلونها، وأصولها العرقية، وما أثير حول مسلسل عن معاوية بن أبى سفيان. كما أنتجت أعمال تعمدت تشويه الأحداث التاريخية، وأحيانا سرقة إنجازات حضارية، كما فعل فيلم اأمير مصرب، وغيره من أعمال ناقضت الثوابت التاريخية، وأثرت على الأفكار والانطباعات. وهو ما يطرح السؤال عن مصداقية الفن كمصدر للتاريخ، وتأثيره فى تكوين الصورة الذهنية عن الشخصيات والحضارات والشعوب.

قبل افتتاح قناة السويس، تم إيفاد الفنان الفرنسى اإدوارد ريوب من قبل حكومته، وبناء على طلبه، ليأتى إلى مصر، ويوثق وقائع الحفر والاحتفال بالافتتاح. وبعد وصوله، كلفه الخديو إسماعيل برسم لوحات، لوضعها فى كتاب عن الحدث. وبالفعل قام بعمل العديد من الرسوم، والتى ظهر بعضها فى الجرائد والمجلات الفرنسية وقتها، بالإضافة للوحات فنية وثقت عملية الحفر بالمعول، والكراكات، وبيت دليسبس، وخيمة المقصورة الرئيسية للاحتفال. ولا شك أن أعمال الفنان تعتبر نموذجا لتوثيق الأحداث التاريخية بالفن. ومع ذلك هل يمكن اعتبارها توثيقا دقيقا، وأمينا تماما؟ على سبيل المثال، هل تناول الفنان الجوانب المظلمة المتمثلة فى السخرة، ومظالم الفلاحين الذين قاموا بحفر القناة، أم أنه التزم بالوجه الذى يلائم رؤية حكومة بلاده، وخديو مصر وقتها؟.

 

تاريخ مغلوط

احتى أنت يا بروتسب جملة شهيرة يقولها ايوليوس قيصرب لحظة اغتياله، ولا تتخلف الأعمال الفنية عن ترديدها، ما جعل الجميع يعتبرونها حقيقة تاريخية، رغم أنها عنوان على كثير من وقائع مختلقة، تم إلصاقها بالحادثة التاريخية. والسبب وراء ذلك هو مبدع لا خلاف على عبقريته، ولا على حسن نواياه، وهو اوليام شكسبيرب. فى كتاب بعنوان ااغتيال القيصرب للمؤرخ ابارى شتراوسب يلقى الضوء على عدد كبير من المغالطات التاريخية حول واقعة الاغتيال، والتى تواترت فى الأعمال الفنية، وأغلبها يرجع إلى اشكسبيرب، الذى رجع بدوره إلى مؤرخ واحد هو ابلوتارخب. يشير الكتاب إلى أن المتآمرين، لم يكونوا أشخاصا مثاليين حريصين على استعادة جمهوريتهم من القيصر المستبد كما تم تصويرهم، ولكن كان لكل منهم دوافعه الشخصية. فقد حرمهم االقيصرب من حرية نهب المقاطعات التى يحكمونها، وأضعف طبقة النبلاء لصالح طبقات أدنى. وقد جعل شكسبير -ومن بعده الجميع- من ابروتسب محورا للخيانة، باعتباره الصديق المقرب للحاكم، وهو ما ينافى الحقيقة؛ فقد كان بروتس من معارضيه خلال الحرب الأهلية، وتمت استمالته لاحقا. أما الصديق المقرب، والذى تناول العشاء معه تلك الليلة فكان اديسيموسب، فى حين ظل دور ابروتسب ثانويا فى كل شيء. كما لم يقتل اقيصرب بالسيوف، ولا فى قاعة مجلس الشيوخ الكبرى كما تصور الأعمال الفنية، ولكن فى غرفة ملحقة، وبخناجر صغيرة، استطاعوا التسلل بها. ولم يطعن قيصر، ويسقط ببساطة، مرددا بنبل: احتى أنت يا بروتسب، بل قاوم بشراسة.

نظرة رومانسية

تصور لوحة اإعلان الاستقلالب لـبجون ترامبلب، -والتى رسمت عام 1810- الحدث التاريخى بإعلان الآباء المؤسسين لاستقلال الولايات المتحدة الأمريكية. ويعتبرها أغلب الأمريكيين وثيقة تاريخية. لكنها وفقا لـاكارى ديتورنب كبيرة أمناء متحف حديقة الاستقلال فى افلاديلفياب، مجرد لوحة رومانسية، تضم العديد من الأخطاء التاريخية، يتعلق بعضها بالأشخاص الذين وقعوا الوثيقة، مثل اجون ديكنسونب الذى يظهر فيها، رغم أنه لم يكن ضمن الموقعين. وفى المقابل أغفلت اللوحة موقعين مهمين مثل افرانسيس رايتفوت ليب. وهو ما أدى إلى عدة شكاوى من أبناء وأحفاد الشخصيات التاريخية. الأمر نفسه ينطبق على لوحة اواشنطن يعبر نهر ديلاويرب للفنان اإيمانويل لوتزب وهى من مصادر فخر الأمريكيين ويعتبرونها تصويرا واقعيا لما حدث. لكن الثابت أن اجورج واشنطنب، لم يعبر النهر بهذه الطريقة. اللوحة الأشهر فى أمريكا تفتقر إلى الدقة التاريخية. فهو لم يعبُر بهذا الشكل البطولى الملحمى على متن قارب صغير من هذا الطراز، ولا الراية الظاهرة باللوحة كانت قد ظهرت إلى الوجود إلا بعد عام على تاريخ الحدث. الأمر نفسه ينطبق على لوحة انابليون يعبر جبال الألبب للفنان اجاك لويس ديفيدب، والتى تظهر عظمة نابليون، وأناقته، فوق حصانه، ولكنها غير واقعية على مستويات عديدة. وقد حاولت لوحة أخرى تصوير الحدث نفسه بشكل أقرب للواقع، وهى لوحة اديلاروشب التى أظهرت انابليونب على بغل مرهق وسط الثلوج، يجره أحد جنوده.

 مهاترات هوليوود

يحيط الغموض بواقعة اغتيال الرئيس الأمريكى اجون كينديب. وقد تطوعت عدة أعمال فنية لتناول الحدث، ومنها مسلسل بعنوان ا22/11/63ب وأفلام مثل اباركلاندب، اجاكيب، اجى إف كيب والأخير أثار جدلا واسعا بسبب تبنيه لوجهة نظر تقوم على نظرية المؤامرة، ولم تثبت، بل هناك حكم قضائى ينافيها. الفيلم من بطولة اكيفين كوستنرب، وعرض عام 91، ويعتمد على كتابات صحفية، ليدين رجل الأعمال اكلاى شوب بالتورط فى الواقعة، رغم ثبوت براءته. كما يشير الفيلم إلى تآمر عدد من أجهزة الدولة، ومافيا السلاح، وحتى حكومة كوبا. وقد دعم الفيلم وجهة نظره من خلال شاهد لم يوجد فى الواقع، ومشاهد افلاش باكب من وحى الخيال. وقد أثر الفيلم الحائز على جائزتى اأوسكارب على رؤية الكثير من الأمريكيين بشأن الحدث. 

الفيلم الأمريكى االقلب الشجاعب من بطولة وإخراج اميل جيبسونب، يتناول حياة، ونضال بطل اسكتلندى تاريخى يدعى اوليام والاسب. وقد أورد المعلقون العديد من مظاهر تزييف التاريخ الفجة فى الفيلم، بعضها شكلى مثل جعله الاسكتلنديين يرتدون تنورتهم الشهيرة ضمن أحداث الفيلم رغم أنهم عرفوها بعد ذلك التاريخ بقرون. كما أن البطل لم يكن فقيرا كما ادعى الفيلم، ولم يشاهد الإنجليز يقتلون أسرته فى طفولته، لأن الإنجليز لم يدخلوا بلاده إلا عندما صار شابا. كذلك اعتمد الفيلم فى تبريره لتمرد البطل على واقعة قتل زوجته، رغم أنه تاريخيا لم يعرف أنه تزوج. وادعى الفيلم على خلاف الحقيقة وجود قانون احق السيدب، والذى يقضى بأن تكون الليلة الأولى لأى عروس من نصيب الحاكم. أما العلاقة التى نشأت لاحقا بين بطل الفيلم والأميرة التى أرسلوها للتفاوض معه، فهى محض خيال، لأن الأميرة المذكورة كانت طفلة صغيرة عندما أعدم اوالاسب. ورغم كل ذلك فقد حصل الفيلم على خمس جوائز أوسكار، لأسباب فنية وإبداعية. والقائمة طويلة بالأفلام التى خالفت التاريخ، حتى ما يتعلق منها بأحداث قريبة مثل فيلم ابيرل هاربرب. ويرى البعض أن تزييف حقائق التاريخ فى بعض أفلام هوليوود، هو ضمن تبرير فكرة الحرب، والتأكيد على وجود دوافع أخلاقية لقتال الآخرين، وذلك دعما لاقتصاد الحرب الذى يجلب ما يزيد عن ثمانين مليار دولار سنويا.

القائمة طويلة بشأن صور يجرى تداولها عن شخصيات، وبعضها زائف. فالصورة الوحيدة المتوافرة للروائية الإنجليزية الشهيرة اجاين أوستنب، والتى تشكل تصور القراء عن شخصيتها، هى من رسم شقيقتها اكاسندراب، لكن ابنة شقيقتها قالت إن الصورة لا تشبه خالتها. أما الصورة الشهيرة لـادانتيب، والتى تصوره بوجه حاد وأنف معقوف، فثبت أنها رسمت بعد وفاته بمائة وسبعين عاماً. والأمر نفسه ينطبق على صور شكسبير، والتى تختلف عن ملامح تمثاله النصفى الذى نفذ بعد وفاته بأربع سنوات ليوضع فى كنيسة الثالوث المقدس فى استرادفوردب. وينطبق الأمر على العديد من صور شخصيات دينية حول العالم. أما شخصية اسانتا كلوزب والذى هو القديس انيكولاسب، فقد أجريت أبحاث على جمجمته بإيطاليا بعد سرقتها من تركيا فى القرن الحادى عشر، وثبت أنه ليس على الشكل الذى يظهر به فى الرسوم، فقد كان نحيلا، برأس ضخم رجولي، وفك مربع، وكان أنفه مكسورا. وتمتد عدم الدقة إلى بعض التفاصيل بدوافع تعبيرية مثل لوحة امارى أنطوانيتب للفنان اجاك لوى ديفيدب التى أظهرتها بفستان أبيض، لحظة الإعدام بينما فى الواقع كانت ترتدى فستانا أسود. 

الحضارة المصرية

لا توجد حضارة فى العالم حظيت باهتمام الفنانين كالحضارة المصرية القديمة، ولم تتعرض حضارة أخرى لما تعرضت له من اختلاق وأكاذيب. بعض الأعمال حاولت تصويرها كحضارة استعباد، أو نسبت منجزاتها لآخرين، كانوا على هامش التاريخ فى تلك الحقبة. ومن أهم تلك الأفلام االمصريب عام 1954 عن فترة إخناتون، وأرض الفراعنة عام 1955 حول بناء الأهرامات بالسخرة والقهر، والوصايا العشر عام 1956 الذى صور الحضارة المصرية على خلاف التاريخ والوثائق مستنداً للرؤية التوراتية، وفيلم آلهة وملوك، وفيلم اكليوباتراب عام 1963، وفيلم فرعون عام 1966. 

يعتمد المؤرخون على الآثار، وبعضها قطع فنية، من تماثيل ورسوم. ومن المفارقات أنهم اكتشفوا بعض حالات الانتحال ضمنها، حيث انتحل بعض الملوك أعمال ملوك سابقين عليهم. وهو ما يظهر قدم الظاهرة التى نتحدث عنها.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 3/5/2023

اقرأ أيضًا : مجدى صابر: الدراما المصرية أخذت مهمة التوثيق للأجيال المقبلة